الشركات الأميركية تختار مديريها الكبار.. من العاملين في فروعها بالهند

مدن هندية تنتعش بتزايد فتح فروع للشركات الغربية فيها.. لكن الصدام الثقافي لا يزال واضحاً

TT

قبل أن يتولى الإشراف على مجموعات من العاملين، وإقناع العملاء الأميركيين خلال مآدب العشاء أو حضور اجتماع مجلس إدارة في شمال فرجينيا مع مدريرين اميركيين، كان كونستانسيو فرنانديز يعد برامج كومبيوتر.

هكذا بدأ الأمر في أواخر التسعينات من القرن الماضي. كانت الشركات الأميركية تطلب برامج كومبيوتر، والمبرمجون الهنود مثل فرنانديز كانوا يلبون الطلب. وعبر السنوات أصبح فرنانديز أكثر ثقة وصراحة، وبدأ في طرح أسئلة واقتراح وسائل ارخص وأسرع لإدارة أعمالهم، وكانوا هم بدورهم يستمعون اليه.

وقال فرنانديز، 33 سنة، الذي بدأ حياته مبرمجا، لكنه يشغل الآن منصب مدير الشؤون الهندسية في شركة «ابروفا» في رستون بولاية فيرجينيا الأميركية، إن «معظم الأميركيين كانوا يعتبرون الشركات الهندية مجرد أماكن تستغل العمال للحصول على منتجات رخيصة». وهو يشرف الآن على فرق تطوير المنتجات ومتابعة المشاريع وتحسين التقنيات الهندسية.

ويمثل فرنانديز جيلا جديدا من العاملين الهنود الذين يعيدون تحديد نشاطات الشركات الغربية في الهند من مراكز الاتصال والأعمال البسيطة، الى إدارات على مستويات عالية ووظائف استراتيجية، وهي مجالات كان الأميركيون يعتبرونها آمنة من المنافسة الخارجية. وفي بونيه، وهي مدينة في الساحل الغربي للهند افتتحت فيها شركات من شمال فيرجينيا فروعاً في العقد الماضي، حدث ترحيب بالانتقال الجديد. وتؤكد العلاقة الغريبة بين الطرفين، كيف تطورت الأعمال بطريقة غير متوقعة. ففي الماضي، منحت الشركات الأميركية فرصة العمل للعاملين في الهند، أما الآن فإن المطورين الشباب الهنود مثل فرنانديز وكبار العاملين الهنود في الخارج يساعدون الهند في الحصول على مزيد من الفرص المتساوية.

وتوجد خمس شركات على الأقل من شمال فيرجينيا، يديرها هنود وافتتحت مكاتب في بونيه، تساعد على تحويل هذه البلدة الهادئة الى مركز لتقنية المعلومات. فإعلانات الشوارع تحث السكان على شراء شقق فاخرة، والمكاتب يتم تأجيرها قبل الانتهاء من تشييدها.

وبالرغم من الضجة التي تحيط بعمليات نقل الوظائف الى الهند في الولايات المتحدة، فإنها عززت الوظائف في شمال فيرجينيا. ويقول توم غاريتي، نظير فرنانديز الأميركي كمدير للشؤون الهندسية في ريستون: «لا أعتقد ان ابروفا كانت ستستمر بدون النموذج الجديد الذي نتبعه. لقد خلقنا 100 وظيفة في اميركا عن طريق نقل بعض الوظائف في الهند». ويعمل معظم الموظفين في المبيعات والتسويق والإدارة. وفي الوقت نفسه تستخدم «ابروفا» 120 موظفا في الهند في عديد من الوظائف تتراوح من البرامج الالكترونية والاستشارة الى الإدارة والنواحي التقنية. وتنتج الشركة التي أسسها براشانث بوكاسام، وهو من مواليد الهند، برامج كومبيوتر تساعد الشركات الأميركية على الالتزام بقانون يهدف لمنع تزوير الحسابات وتحسين ادارة الاعمال. وكان هذا القانون المسمى «ساربانيز اوكسلي» قد صدر عام 2002.

وفي الهند، عثر بوكاسام على أعداد كبيرة من الموظفين يمكنهم فهم شؤون المحاسبية والبرمجة، وبمرتبات اقل كثيرا من التكلفة في الولايات المتحدة. ويمكن لكبار مطوري برامج الكومبيوتر الحصول على مرتب يصل الى 30 ألف دولار سنويا وهو مرتب هائل في الهند لكنه يمثل ثلث ما يحصل عليه نظيره في الولايات المتحدة.

ويشير بوكاسام الذي تلقى تعليمه في جامعة بونيه قبل هجرته للولايات المتحدة عام 1988 الى عامل آخر تتميز به الشخصية الهندية وهو التشكك. ويقول في هذا الشأن: «لا يهم الأمر اذا كنت تشتري خضارا او تتناول الطعام في فندق 5 نجوم. ستعد دائماً باقي الحساب. انها وظيفة المد. الناس في الهند يكتشفون كل عملية احتيال تحدث هناك».

و«ابروفا» هي ثاني شركة أميركية لبوساكام. ففي عام 1995، أسس بوساكام ورفيقه من فترة الدراسة، أمير هودا، شركة «انتيفو» وفتح مركزاً للتطوير في بونيه، معتمدا علي اتصالات اجراها خلال سنوات الدراسة. لكن تم بيع الشركة لاحقاً. ومن آخر مشاريع هودا تأسيس شركة ابتيكس في مدينة هيرندون الاميركية، كما فتح لها مكتباً في بونيه في شهر سبتمبر (ايلول) الماضي.

ويخشي بعض السكان ان يضعف الازدهار في بونيه الجاذبية السياحية التي تتميز بها المدينة. ويقولون ان المرور في المدينة أصبح اكثر سوءا، والأسعار ارتفعت والبنية الأساسية لا يمكنها التوسع في المدينة. ومثل العديد من المدن الهندية التي تمر بفترة انتقالية، تعاني بونيه من الصراع بين التقاليد القديمة والحداثة.

ومثل هذا الصراع أمر عادي بين رجال الأعمال الذين يقسمون وقتهم وهويتهم بين عالمين مختلفين. فمجموعات المهاجرين التي تدير شركات التكنولوجيا في شمال فيرجينيا يلعبون دورا اساسيا وهم يتعاملون بين بلدين وحضارتين مختلفتين.

فبراكاش غوبتا رئيس الفرع الهندي من شركة «آي إم سي غلوبال سيرفيسز»، يسافر كثيرا بين ريستون في الولايات المتحدة وبونيه. وفي زيارة قام بها مؤخرا لمكتب شركته في بونيه حيث يجري إعداد وتطوير برامج الكومبيوتر، وقف عدد من الموظفين الهنود احتراما كما يفعلون في وجود الرؤساء أو المدرسين أو كبار السن، إلا أن غوبتا طلب منهم الجلوس، وعدم مناداته بلقب «سيدي».

وقد اسست شركات التكنولوجيا في الهند مجمعات للأعمال لا تبدو غريبة عن مثيلاتها في الولايات المتحدة، غير ان الديكورات تحاول ان تقرب الهوة بين ثقافتين. ويتذكر غوبتا كيف كانت الألوان الأصلية للمكاتب الجديدة في بونيه صارخة ـ أكثر من مثيلاتها في وادي السيلكون في الولايات المتحدة ـ واضطر للتدخل لتخفيفها، وقال: «في الولايات المتحدة مكاتبنا محافظة: حوائط بيضاء وسجاد ازرق. أما في الهند فإن الألوان برتقالية وزهرية وصفراء. كنت أحاول تحقيق التوازن بين الحضارتين».

في البداية كانت الشركات الأميركية مترددة في السماح للمبرمجين الهنود بالتعامل مباشرة مع الزبائن الأميركيين، لكن الهنود نجحوا في الأخير في إقناع الرؤساء بأنهم في حال عملوا مباشرة مع العملاء فإنهم سيوفرون مزيداً من المال والوقت. وتناقش مانجيري جوشي، 32 سنة، المشاريع مع الزبائن مباشرة. وقد سافرت الى بريطانيا والولايات المتحدة عدة مرات وهي مستمرة في التعامل مع العملاء من مكاتبها في بونيه.

ويوضح بوكاسام ان في الماضي كان الموظفون الهنود يشعرون بالحرج في الحصول على إجازاتهم، أما الآن فقد اصبحوا أكثر ثقة ويطلبون في بعض الأحيان من زملائهم الأميركيين الالتزام بمواعيد معينة ليتمكنوا من الاحتفال بالأعياد والمناسبات الهندية. ويقول بوكاسام: «اشعر أن العاملين والعاملات هنا يشعرون بالثقة في كيفية التعامل عبر الثقافات المختلفة».

وقد أدى التفاعل بين الحضارتين الى تغيير الاميركيين ايضا. فبعض المديرين الأميركيين احتاجوا لبعض الوقت للاعتياد على اللهجة الهندية عند الحديث بالانجليزية. ويقول سيلاس ماتسون، نائب الرئيس لشؤون المنتجات في ريستون: «قبل خمس سنوات، كنت سأقول لك إننا المقر الرئيسي وهم (الهنود) المصنع، إلا أن ذلك تغير الآن».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»