أقطاب «14 آذار» تحدوا المخاوف الأمنية ونزلوا إلى ساحة الحرية والشعارات غلب عليها الوفاء لذكرى الحريري والحرص على وحدة لبنان

TT

«الله الحامي، ارتاحوا قليلاً»، قال النائب والزعيم الدرزي وليد جنبلاط في «خيمة الحرية»، قرب مدفن رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في وسط بيروت، وذلك لدى اقترابهم منه ومحاولتهم حمايته.

بدا جنبلاط هادئاً ودوداً وهو يبادل الموجودين السلام والابتسام، ويصبر على رغباتهم لالتقاط الصور معه. ولفت الأنظار بربطة عنقه السوداء، التي تحمل صورة الحريري والعلم اللبناني. وهذا الأمر لم يتكرر مع قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع، الذي أحيط بشرنقة بشرية من مرافقيه، ما دفع بالراغبين في رؤيته الى تسلق ما تيسر من كراسٍ لهذه الغاية.

«خيمة الحرية» كانت استراحة قادة «14 آذار» من نواب ووزراء ورموز معارضة ومتعارضة. ولوحظ حضور للجماعة الاسلامية وبعض المشايخ، وأيضاً لوجوه سياسية غيبتها الأحداث عن الساحة، فسعى أصحابها للمشاركة في «يوم الوفاء» للرئيس الراحل رفيق الحريري في ذكرى مرور عام على جريمة اغتياله. ولعل المشهد الأبرز في الخيمة كان الهمس الذي دار بين جعجع ونواب وفد «التيار الوطني الحر»، الذي ضم غسان مخيبر ووليد خوري ونعمة الله ابي نصر وعاصم عراجي. خارج الخيمة، المشهد كان يعكس فرحة الحشود بالمشاركة الكثيفة في الذكرى. وكان توافدهم قد بدأ منذ ساعات الصباح الاولى، لا سيما اولئك الذين قدموا من عكار والبقاع والجنوب وغيرها من المناطق البعيدة، حاملين اعلاما لبنانية وباقات ورد وزنبقا لوضعها على ضريح الحريري.

سائق سيارة الأجرة رولان أبو جودة قال «لن أعمل اليوم. جئت لأشارك في ذكرى الشهيد وأقول للسياسيين ان يتوقفوا عن مد خيوطهم الى الخارج وينتبهوا الى البلد. وتحديدا الجنرال (رئيس التيار الوطني الحر) النائب ميشال عون. فهو لم يعد يعرف كيف يصوغ مواقفه المبهمة. نتمنى أن يفكر قليلاً ويشاور عقله ويعود الى خط 14 آذار، ويذكر انه عندما كان في باريس تعرض مؤيدوه للإهانة والاذلال على يد النظام السوري».

«نازلين على الساحة» عبارة حملت معنى التأكيد والسؤال في آن واحد. وربما تبادلها معظم الناس في بيروت صبيحة 14 فبراير. كما تبادلوا الأوشحة الزرقاء والبالونات التي تحمل تحية للرئيس الحريري.

ساحة الشهداء اكتست زرقة السماء، اذ انقشعت الغيوم وسطعت الشمس على رغم الجو الماطر وتوقعات الارصاد. الامر الذي دفع بالمحتشدين الى القول إن الله سبحانه وتعالى اهدى روح الراحل هذه النعمة. قال فيصل: «الله يرحمه كانت نيته طيبة».. و«قولوا قولوا الله قوموا قوموا يالله»، أغنية احمد قعبور، تصدح وسط الساحة ووسط اجراءات أمنية مشددة. محمود عساف هو أحد عناصر الانضباط الذين توزعوا بكثافة بين الحشود، قال: «جئنا لنراقب ونقطع الطريق على الذين يسعون الى الفتنة. وقد لاحظت لدى احتكاكي بأحدهم انه يضع سكينا في جيبه، اخبرت رجال الأمن ففتشوه واخذوه مع زميل له كان يحمل ايضا سكيناً».

يوسف الزين ولدى معرفته أني من صحيفة «الشرق الأوسط» قال فرحاً: «يعني مع الرئيس الراحل. أهلا وسهلاً. فأنا جئت كرمى لذكراه. وهل هناك أغلى من رفيق الحريري لنشارك في هذا اليوم حتى نساهم في وحدة لبنان؟». ـ ألم تشعر بالخوف من احتمال وقوع أعمال شغب؟

ـ أنا بطل كمال الأجسام في لبنان. وفي أي حال لا أخاف الا من الله سبحانه وتعالى.

إحدى الأمهات التي اصطحبت معها رضيعها، لم تهتم ايضاً باحتمالات الشغب. اعطت الرضيع لأحد عناصر قوى الأمن، فحمله لتتمكن من فتح حقيبتها لزميله حتى يفتشها، مع الاعتذار بأن الحرص على سلامة المتظاهرين يتطلب ذلك. أجابت بابتسامة وعبارة «الله يقويكم». شرطي آخر على أحد الحواجز اصطحب ابنه وطلب اليه البقاء الى جانبه حتى لا يضيع بين الحشود.

أحمد وهو رجل اعمال لبناني يقيم في المغرب، قال انه جاء خصيصا الى بيروت وفاء لذكرى الرئيس الراحل. وأكد الكثيرون ان اقرباء لهم في الخارج اتصلوا بهم لتشجيعهم على النزول الى الساحة وعدم التخلف عن الموعد.

الشعارت المرفوعة في التجمع الحاشد غلب عليها الاصرار على الوفاء للراحل الكبير والحرص على وحدة لبنان. ومنها «عاش لبنان ومات لأجله» و«خافوك فقتلوك» وايضاً «أين المقاومة السورية في الجولان»، اضافة الى حضور في اللافتات للرئيسين الراحلين رينيه معوض «شهيد الوحدة» وبشير الجميل الذي «جمع بجريمة اغتياله بين مفهومي 14 شباط و14 آذار». ايضاً كان سمير قصير حاضرا مع شعار «استقلال 2005»، وجبران تويني مع «نقسم بالله العظيم ان نكون موحدين، مسلمين ومسحيين إلى أبد الآبدين. آمين».

أما الهتافات فراوحت بين التأييد لسعد الدين الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع و«يا لحود انزل انزل، هيدي الكرسي بدها رجال» و«شوفوا شوفوا يا عميان سعد راجع على لبنان» و«ما بدنا برازق (الحلوى السورية المشهورة) بدنا بتي فور». النشيد الوطني كان حاضراً، لا سيما مع وصول وفد من الأطباء، بالروب الابيض. وقفوا قرب مبنى صحيفة «النهار»، انشدوا النشيد الوطني رافعين ايديهم ورددوا قسم جبران ودخلوا معمعة الحشود.

اصيب الكثيرون بالإغماء ونشط شباب منظمة الصليب الأحمر لإسعافهم. أحد «الفدائيين» وقف وسط الجموع وهتف «تحيا سورية يحيا بشار»، سارع رجال الأمن إلى سحبه وجره بعيدا، وهو يؤكد لهم أنه لبناني.

مع توجه الخطباء إلى المنصة لإلقاء كلماتهم اتخذ المشهد حرارة جديدة. النائب السابق نسيب لحود مازح الجماهير، فاستجابوا ضاحكين. إلا أن حضور نواب «حزب الله»، الى المنصة ومغادرتهم بعد قليل أثار جملة تعليقات فقال أحد الصحافيين: «ما زال دم الرئيس الراحل يجمع اللبنانيين».

رئيس كتلة «تيار المستقبل» سعد الحريري، ألقى كلمته من منصة وضعت في باحة مسجد الأمين. لكنه لم يلبث أن التحق بالمنصة الرئيسية وبطريقة طريفة، عندما تغلغل بين الحشود الذين حملوه وساعدوه على تسلق السياج، وصولا إلى المنصة، حيث كان سمير جعجع واقفا خلف زجاج مضاد للرصاص. لحق بهما وليد جنبلاط وابنته داليا، ليهوج الجمهور المحتشد ويموج مطلقاً الهتافات، ورافعا صوته بالصلاة خوفا عليهم من أية محاولة اغتيال. ومع وصول «الحكيم» (الدكتور سمير جعجع) من الخيمة الى المنصة، تعطلت الهواتف الجوالة. الدموع رافقت كلمة وليد جنبلاط الغاضبة، وتحديداً عندما عدد اسماء الراحلين الذين سقطوا منذ 14 فبراير (شباط) الماضي حتى الآن. وتعالى الهتاف عندما قال «يا بيروت بدنا الثار من لحود ومن بشار».

وقد رافق كلمة جنبلاط تحليق للطيران الحربي الإسرائيلي في أجواء بيروت والجنوب والشمال، خارقاً جدار الصوت، الأمر الذي أحدث ارتجاجات قوية وبعض الذعر في صفوف المتظاهرين. فسارع وزير الإعلام غازي العريضي الى اجراء اتصال ليعرف سبب الارتجاجات ويطمئن من حوله.

بعد كلمة وليد جنبلاط، شعر المتظاهرون بأنهم ارتووا وبدأت خطوات الانسحاب. لتفرغ الساحة شيئاً فشيئاً قبيل الثانية من بعد الظهر. في حين بقيت مداخل العاصمة على ازدحامها الخانق. رجال الأمن في وسط بيروت تخلوا قليلا عن استنفارهم. بعضهم استند الى الحواجز الموضوعة على جانبي الطريق والبعض الآخر افترش مداخل الأبنية. ادوا مهمتهم بنجاح، وضبطوا الوضع، وشكروا ربهم لأن ذكرى الوفاء لرئيس الوزراء الراحل مرت على خير وبنجاح.