المغرب: مذكرات الأموات تلاحق الأحياء داخل حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي

TT

مثلما عاش الزعيم اليساري المغربي المهدي بن بركة 40 عاما بعد موته إلى درجة صار فيها يقض مضجع بعض المسؤولين المغاربة، لم ينته المسار النضالي لعدد من الأموات داخل حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بمواراة جثثهم الثرى، بل عاشوا بعد ذلك رغم أنف قانون الحياة واكتسبوا هيبة خاصة وانبرت العديد من الأقلام للدفاع عنهم بحكم أن الميت لا يستطيع الكلام، وأثرت هيبة الأموات وثقلهم الرمزي كثيرا في العلاقة التي نسجت بين الإخوة الأعداء في حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، إذ أنه بعدما عادت المياه إلى مجاريها بين الحزبين بعد لأي، جاءت مذكرات عبد الرحيم بوعبيد لتنكأ الجراح القديمة وتذكر بقدرة الأموات على التأثير في الحاضر السياسي المغربي.

كان نشر الحلقات الأولى من مذكرات بوعبيد في صحيفة «الاتحاد الاشتراكي» كافيا ليثير حنق قيادة حزب الاستقلال التي لا تقبل المس بالزعيم علال الفاسي.

انتظرت صحيفة «العلم» (الناطقة باسم حزب الاستقلال) الضوء الأخضر من القيادة الحزبية لتعلن أمس في صفحتها الأولى عن بداية هجوم مضاد على الاتحاد الاشتراكي، فالحزبان دخلا في حرب مفتوحة يخوضانها باسم الماضي الذي يهدد مصالح الحاضر، فيما يشبه عملية تطهير ما بقي عالقا في النفوس من غبار الأحقاد الدفينة استعدادا للانتخابات التشريعية التي تتطلب وحدة الصفوف وتوحيد كلمة الجماهير من أجل الحصول على عدد محترم من المقاعد يصون ماء وجه حزبين عتيدين ساهما في صناعة «تاريخ» المغرب.

وجاء في رد «العلم» أن «السؤال الذي يطرح هو: لماذا لم تكن الحقبة التي يتطرق إليها الكراس بالأولوية والكرونولوجيا هي مفاوضات ايكس ليبان التي عارضها الزعيم علال الفاسي؟ لماذا لم تكن تلك الحقبة هي المؤتمر الاستثنائي للحزب في ديسمبر (كانون الأول) 1955 الذي كان الراحل بوعبيد مقررا عاما له، ومن مقرراته الأساسية الصادرة عنه المشاركة في حكومة مبارك البكاي التي شارك فيها بوعبيد وكان أحد المسؤولين فيها عن المفاوضات مع فرنسا التي احتفظت بامتيازاتها بعد الاستقلال»، وتضيف «العلم»: «عندما عين المغفور له محمد الخامس، البكاي، رئيسا للحكومة وافق بوعبيد على ذلك التعيين وشارك في تلك الحكومة، لأنه كان يدرك جيدا أن الملك هو صاحب الشرعية في تشكيل الحكومة وإقالتها، وشارك بوعبيد ضمن نفس الرؤية في حكومة البكاي الثانية، ثم شارك في الحكومة الثالثة التي كلف الملك الحاج أحمد بلافريج برئاستها قبل أن تنفجر لأسباب يدركها بوعبيد، وفي طليعتها استقالته منها ليشارك بعد ذلك في الحكومة التي تلتها برئاسة عبد الله ابراهيم وضمت في عضويتها عسكريا ولأول مرة في شخص محمد المذبوح وشخصيات مستقلة انتقدها بعد ذلك في كراسه». ويلاحظ في هذه الفقرة توجيه اتهام مبطن لبوعبيد بالإطاحة بحكومة بلافريج التي طمأنت حزب الاستقلال من أجل تشكيل حكومة يسارية يقودها الراحل عبد الله ابراهيم وأيضا مشاركة الجنرال المذبوح أحد قادة انقلاب الصخيرات ضد العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني عام 1971، وبعدما تبين «العلم» أنه ليس في القنافد أملس، تضيف قائلة «وجاء في كراس المرحوم بوعبيد أن الشيء المثير والمحزن نوعا ما هو رؤية قادة حزب الاستقلال يتخلون عن أي موقف ينم عن الحد الأدنى من الكرامة أمام سيد اللعبة الجديد ممثلا في أحمد رضا كديرة (كبير مستشاري الملك الحسن الثاني)، الذي لم يدع أي فرصة تمر بدون تحسيسهم بذلك وقد كانوا جميعهم بدون استثناء رهن أوامره، بل حتى علال الفاسي نفسه بكل ماضيه ورهافة حساسيته كان مجبرا في صحافة حزبه على مديح الذكاء السياسي لمدير ديوان الأمير (مولاي الحسن) وقيل إنه كان أحيانا ينتظر ساعتين قبل أن يحظى بلقاء كديرة»، وتعلق «العلم» قائلة: «الواقع الذي لا يمكن التطاول عليه هو أن قادة حزب الاستقلال لم يساوموا في كرامتهم أمام كديرة أو غيره، لأن الكرامة كانت في صلب عقيدتهم وسلوكهم في مواجهة الاستعمار والتعامل مع متطلبات بناء المغرب المستقل. وتقول حقيقة التاريخ إن علال الفاسي سبق له أن انتقد بعض الذين وقعوا في مصيدة ايكس ليبان (المفاوضات التي أدت إلى استقلال المغرب)، ولم يسخر الحزب أبدا صحافته لمدح كديرة، بل كان أول من تصدى لنفوذه المتزايد».

وتنتقد «العلم» بوعبيد قائلةّ «كان بوعبيد يجانب في كراسه الحقيقة في ما يتعلق بموقف حزب الاستقلال من القواعد العسكرية الفرنسية بكتابته... فالزعيم علال الفاسي كان معارضا لموائد ايكس ليبان وما تستهدفه من استقلال مبتور وغير كامل للبلاد».

وما يبدو جليا أن حرب المذكرات، التي أطلق شرارتها الزعيم اليساري المغربي بوعبيد بعد 14 عاما على وفاته، تعد حلقة ضمن مسلسل معقد من العلاقات التي تربط الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال منذ إعلان الجناح اليساري لحزب الاستقلال تمرده على علال الفاسي، وهي العلاقة التي ظلت مشوبة بالحذر الممزوج بعبارات الود والتأكيد على المستقبل ما دام الماضي «علبة شر» يكلف فتحها الحزبين الشيء الكثير.