«رحلة حافلة» تجسد ذكريات لبنان .. الحلوة والمرة

فيلم «البوسطة» يلقى رواجا بين اللبنانيين .. ورقصاته الشعبية تعكس وحدة البلد

TT

تنقل حافلة مدرسية قديمة حمراء اللون ومجهزة بأضواء وامضة تسير عبر الريف اللبناني، مجموعة من الراقصين الشعبيين الذين التقوا بعد طول غياب، بهدف استعادة ايام الدراسة الممتعة. تتوقف الحافلة في عدة مدن تتمتع بمناظر طبيعية جميلة، وتؤدي الفرقة رقصة الدبكة، امام السكان الذين يمثلون هوية لبنان الدينية والثقافية المتنوعة. وتنقل الحافلة العرض عبر التلال التي تنتشر بها اشجار الصنوبر، وتحاول استرجاع فترة مضت: ذكريات الحرب الاهلية اللبنانية.

إنها مشاهد من فيلم «البوسطة» (الباص بالعامية اللبنانية)، الذي حقق نجاحا كبيرا وتحول الى ظاهرة وطنية منذ بداية عرضه في ديسمبر (كانون الاول) الماضي. وفكرة الفيلم بسيطة، لكن به اغاني ورقصات وسيناريو جيداً. ويبدو ان مشاهدي السينما من كل الاعمار والطوائف من مسلمين ومسيحيين ودروز ومن الاشخاص التقليديين والعصريين، وجدوا خبرات مشتركة يمكنهم العودة اليها والارتباط بها من الماضي. وتنقل المشاهد المشاهدين في رحلة عبر تطلع لبنان الدائم للمتعة وعبر مآسي الحرب.

تقول ريما ممتاز، وهي خريجة الجامعة الاميركية في بيروت، وشاهدت الفيلم مرتين: «لا اعرف هل أبكي أم أضحك. لقد كان الفيلم بمثابة نسمة هواء. ولم يتعامل مع الحرب بطريقة مباشرة. اصبحت عملية المعالجة التي يفترض ان يمر بها المجتمع اللبناني هي التركيز».

في المشهد الافتتاحي من الفيلم، يشير السائق المرح الى ان الحافلة صنعت في عام 1943، وهو تاريخ استقلال لبنان عن فرنسا. وقد رحلت القوات الفرنسية بعدما شكل ابطال التحرير من المسلمين والمسيحيين تحالفا لتأسيس الدولة. لكن في عام 1975 اطلقت المليشيات اللبنانية النار على حافلة تحمل مجموعة من الفلسطينيين يمرون عبر حي مسيحي، مما ادى الى اشعال نيران الحرب الاهلية. وقد قتل اكثر من 150 الف شخص، وأصيب أكثر من ذلك العدد بجراح مع نهاية الحرب الاهلية في عام 1989.

وقال فيليب عرقتنجي مؤلف الفيلم ومخرجه ومنتجه: «يدور هذا الفيلم حول المعالجة والسير قدما». وهو عبارة عن رحلة تتوقف عند هويات لبنان المختلفة. واضاف «انه فيلم عنا كوحدة متعددة وفردية، وهو عن الروابط التي تجمعنا معا».

وفي الفيلم تعلن الحافلة وصول يوم آخر، ونوعية جديدة من الرقص «الدبكة الرقمية». ويتولى الراقصون الذين يرتدون الملابس الوطنية، ولكن ذات تصميمات تمويهية، الرقص على موسيقى التكنو.

ويضيف مزج الموسيقى وتصميم الرقصات حيوية الى الخلفية الجادة للفيلم، ومشاهد على غرار بوليوود (الافلام الهندية)، يصفها عرقتنجي بـ«ارزوود»، في اشارة الى ثورة الارز، التي اجبرت السوريين على الانسحاب من لبنان العام الماضي.

وقد درس عرقتنجي البالغ من العمر 41 سنة الاعمال في لندن، وعمل في عديد من المنظمات الاعلامية في لبنان وقضى 12 سنة في فرنسا يعمل في قنوات التلفزيون اللبنانية. كما عمل ايضا في افلام وثائقية لحساب قناة «ديسكوفري» وقناة «ليرنينغ». ويقول انه عندما عاد الى لبنان عام 1997 «كان الناس يرقصون على الطاولات في المساء وكانت هناك تلك الطاقة التي لا يمكن تصديقها. اراد الناس الشعور بالسعادة، واردت الكتابة عن ذلك. كل كلمة كتبتها كانت تمثل قصة من الحرب الاهلية». واضاف عرقتنجي، الذي قضى ثلاث سنوات يعد السيناريو «كنت اكتب وأعيد الكتابة، وأرمي بصفحات الي ان توصلت الى الحلو والمر».

وفي الفيلم ينضم الراقصون الى «كلية اليوتوبيا» التي قتل ناظرها بقنبلة تلقاها على شكل هدية في كافيتريا المدرسة.

وعاد الابن المبذر كمال مفقوس من المنفى، التزاما بوعد لوالده الراحل، لمنافسة زملائه في الدراسة في مهرجان وطني للرقص. بعد ان قضى 15 عاما في الخارج نجح في تشكيل رقصة الدبكة التقليدية لتتخذ شكلا جديدا اكثر عصرية مع موسيقى حديثة. نجح في الأداء إلا ان لجنة التحكيم استبعدته بسبب التلاعب بـ«الرمز الثقافي الوحيد الذي لم يمس».

وانطلاقا من تصميمهم على كسب الجمهور، بدأت مجموعة كمال للرقص رحلتها الشائكة عبر القرى وزاروا مجددا الأماكن التي شهدت مراحل الطفولة والقصص الغرامية. ويتذكر واحد من الراقصين كيف ان زعيم المليشيا امره بقصف مدرسته القديمة. ويقول سائق الحافلة لكمال، انهم كانوا ايضا يسلمون الاسلحة الى الأطفال وكانوا لا يريدون أي شخص ان يتعلم، بل «كانوا يحاولون قتل التفكير نفسه».

صرخ واحد من الأطفال في كمال، بسبب الحديث حول الماضي. واندلعت مشاجرة بين كمال وفريقه حول إنهاء الجولة في مدرستهم، التي مزق الرصاص جدرانها. وقال توفيق محتجا: «انظر يا كمال، انا ارقص على جرحي لكي انسى آلامي. لا استطيع ان افتح هذا الجرح مجددا». وقالت عاليا معلقة: «لا احد ينسى. لقد استسلمنا فقط وانتهت القصة». ويقول عرقتنجي: «لدى كل منا قصته منذ عام 1975، ولدينا جميعا نفس الجرح. كانت آثار الحرب واضحة على قلب بيروت حتى نهاية إعادة البناء عام 1997. فقد حولتها المليشيات الى غابة محترقة من السيخ الملتوي والأنقاض والزجاج المتناثر التي لا يجرؤ احد على الاقتراب منها».

لكن أكوام الدمار حلت محلها بنايات جملية جاذبة. يقول جلال خباز، وهو صحافي لبناني: «ان الفيلم يدور حول التفكير في ما يتمناه الشخص. الذهاب بالنسبة للناس مثل ترك الشخص آراءه خلفه وكذلك آلامه التي لم يعالجها». اما سمير خلف، المختص في علم الاجتماع، فيقول ان افلاما سينمائية مثل «البوسطة» تعتبر خطوة مهمة في سد الشرخ بين الحاضر والماضي، مع ملاحظة ان «فترة ما بعد الحرب قدمت لنا ملاذات زائفة، مثل أشكال الترفيه الجماعي ونوع من الإغراء والنسيان». ويضيف خلف قائلا، انه يشعر لأول مرة بأنه متفائل بعض الشيء ازاء احتمال ان يصبح لبنان نموذجا تحتذي به الدول العربية. ويرى ايضا ان افلاما سينمائية مثل «البوسطة» واشكال التعبير الفني والهجاء السياسي والمعارض الفنية، تعني في مجملها ان اللبنانيين يعيشون فصلا او مرحلة تسمح للناس بالتعبئة في الأماكن العامة، ويعني ذلك ان الناس يعيشون لحظات او مرحلة متميزة. ويتفق مع ذلك اولئك الذين يشككون في الاتجاه الذي يسير فيه لبنان حاليا. اما وليد ابي صالح، فيقول ان هذه هي المرة الاولى التي يكون لدى اللبنانيين فيلم سينمائي لا يدور حول قضية محددة ومتحاشيا معالجة جوهر المشاكل. ويضيف قائلا: انه يقول لنفسه «إذا كان البلد جميلا، فبوسع الناس المحافظة عليه».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»