بعد 25 عاما من الكوارث والحروب: «الكآبة» مرض تحول إلى «وباء» بين العراقيين

90 % من المشاركين في استطلاع يعانون من اختلالات نفسية

TT

بعد أكثر من 25 عاما على وصول صدام إلى الرئاسة عاش العراق خلالها حالة من الصدمة المستمرة، جرت خلالها ثلاث حروب مع فرض العقوبات الدولية التي هدمت اقتصاد البلد، وسيادة التمرد العنيف حاليا، أصبح ممكنا الآن فقط من تفحص الخراب النفسي الذي لحق بالكثير من العراقيين حسبما يقول أطباء نفسانيون ومسؤولون حكوميون في بغداد. وحتى مع بروز القليل من الحالة النفسية للسكان عبر الدراسات الأخيرة فإن نظام الخدمات الصحية في العراق أسوأ من أن يتمكن من التعامل مع حالة ملايين المرضى النفسيين الذين عانوا من قسوة شروط الحياة خلال السنوات الأخيرة. وأظهرت إحدى هذه الدراسات آثار أكثر الأيام السوداء في الذاكرة الجمعية. ففي يوم 31 أغسطس (اب) الماضي قتل ما يقرب من 1000 شيعي كانوا في طريقهم لزيارة مرقد الكاظمين حينما تعرضوا للدهس من قبل الآخرين أو للغرق فوق جسر من جسور بغداد.

وبعد مضي أشهر على دفن الموتى وبدأ الجرح بالالتئام قام فريق من الأطباء النفسانيين في وزارة الصحة بإنشاء مركز في مدينة الصدر التي تعد من أكثر الأحياء الفقيرة في بغداد لتقييم ومعالجة الخراب النفسي الذي لحق بالضحايا وعلى من شهد الحادث وأسرهم. وما وجدوه يتجاوز حتى أسوأ مخاوف الأطباء. اتضح أن هناك أكثر من 90 % من الأفراد الذين شاركوا في الاستطلاع يعانون من اختلالات نفسية تشمل الكآبة والأرق وأعراض التوتر التي تعقب الصدمات.

وقال علي عبد الرزاق، 55 سنة، الذي يدير مركزا صحيا في مستشفى الإمام علي بمدينة الصدر «الأشخاص الذين تمكنا من تشخيصهم باعتبارهم مختلين هم ليسوا سوى رأس الجبل الثلجي البارز من حيث وضع الصحة العقلية في هذا البلد. أنا لا أعتبرها مجرد أعراض لما بعد الصدمة بل هي أعراض صدمة مستمرة لأن الصدمة التي يعانون منها ما زالت مستمرة».

وتشكل المصادرة المكرسة لعلاج الحالات المرضية قدرا ضئيلا. فليس هناك سوى 75 طبيبا نفسانيا ظلوا يعيشون في بلد مر بحرب ضارية استمرت ثمانية أعوام مع إيران ثم حربين أخريين مع الولايات المتحدة إضافة إلى العقوبات الدولية الاقتصادية التي شلت البلد خلال التسعينات من القرن الماضي ثم التمرد الدموي القائم حاليا. والكثير منهم هربوا مع حرفيين آخرين لتجنب الاختطاف وتهديدات المتمردين. ونتيجة لذلك فإن هناك طبيبا نفسانيا واحدا لكل 300 ألف عراقي مقارنة بواحد لكل 10 آلاف أميركي. وحاليا ليس هناك أطباء نفسانيون متخصصون بالأطفال في بلد يبلغ سكانه 25 مليون نسمة، حسبما يقول الدكتور عبد الرزاق. وأعلنت وزارة الصحة العراقية هذه السنة أن الصحة العقلية لها الأسبقية وفتحت مركزين سيكولوجيين في بغداد لاستقبال المرضى الخارجيين. وإضافة لدراسة أولئك المتأثرين بحادثة الدهس على الجسر فإن الوزارة بدأت بجمع المعلومات حول السكان بشكل عام.

وحسب استطلاع جرى لما يزيد عن ألف شخص قليلا تم اختيارهم بشكل عشوائي من خمس مناطق في بغداد وانتهى هذا الشهر على يد مجموعة من السيكولوجيين في جامعة المستنصرية ببغداد تبين أن هناك حوالي 890 شخصا قد عاشوا حادثة عنف ما وجها لوجه وهذا يشمل 27 طفلا تحت سن الثانية عشرة.

والأكثر ما يثير القلق حسبما جاء في تحليل السيكولوجيين الذين قاموا بتحليل المعلومات هو أن التعرض للصدمات أصبح في طور التزايد بشكل كبير منذ بدء الغزو الأميركي للعراق عام 2003. وذكر الأشخاص الذين شاركوا في الاستطلاع 3504 حوادث عنيفة ما بين 1979 السنة التي وصل فيها صدام حسين إلى الرئاسة و2003. لكن منذ الغزو فإنهم شاهدوا 6463 حادثة. ويقول المستشارون والخبراء الدوليون ان نظام الصحة العقلية في العراق امامه طريق طويل، على الرغم من المساعدة المقدمة التي تبلغ حوالي 25 مليون دولار، بينها ستة ملايين دولار كمنحة من الحكومة اليابانية. وقال كيث همفريز، طبيب المراض العقلية والأستاذ المساعد في معهد ستانفورد الطبي، الذي يساعد في تدريب الأطباء العراقيين على طرق العلاج الحديثة «انه مبلغ تافه بالمقارنة مع حجم المشكلة. انك ربما تتحدث عن مستويات وبائية من اضطراب الكآبة ما بعد الصدمة. لقد كان النظام الصحي جيدا، بما في ذلك رعاية الصحة العقلية. ولكن خلال السنوات الـ 25 الماضية، كان الوضع سيئا، وكان الأطباء معزولين عن التطورات. فلم يكن يسمح لهم بالذهاب الى المؤتمرات أو حتى قراءة المجلات الطبية».

وقد سعى همفريز وغيره من الأخصائيين الأميركيين والأوروبيين الى اشراك نظرائهم العراقيين في مؤتمرات عقدت في المنطقة، وان يكن خارج العراق لأسباب أمنية، وهي حقيقة قال عنها انها تزيد من تعقيدات عمل أطباء الأمراض العقلية. وقال همفريز ان «تحقيق تقدم في الطب العقلي يتطلب اولا مجتمعا يقوم بوظائفه، ويسود فيه السلام». والعائق الآخر أمام تحقيق تقدم يتمثل الشعور بالعار المرتبط برعاية الصحة العقلية في العراق، حيث «من غير المقبول أن يقول المرء انه بحاجة الى مساعدة عقلية، ولهذا نجد أن الأشخاص يحصلون على مواعيد مع الجراحين ثم يخبرونهم انهم يعانون من الكآبة» وفقا لما قاله محمد لفتة نائب المستشار الوطني للصحة العقلية في مستشفى الرشيد للأمراض النفسية والعقلية.

وقال محمد عطا ،44 عاما، انه سعى الى العلاج في مركز اليرموك فقط لأن شقيقته دفعته الى ذلك. وكان هذا الشرطي يقوم بحراسة المنطقة الخضراء ببغداد قبل ثلاثة اشهر عندما انفجرت قنبلتان وادى الحادث الى مقتل اثنين من أقرانه الضباط، وهو ما اصابه بصدمة.

وقالت شقيقته نسرين عطا التي حضرت موعدا معه في الفترة الأخيرة انه كان خائفا جدا من العودة الى العمل. وأضافت «انه يحدق بسيارات الشرطة ويهمْهم». ويقول أطباء الأمراض العقلية ان معظم المرضى ليسوا ضحايا عنف وانما شهود للحوادث المروعة.

وكان شقيق خديجة مراد الأكبر قد قتل في الحرب العراقية الايرانية قبل أشهر من نهاية ذلك النزاع الدموي الذي حصد ارواح ما يقرب من مليون في سنوات الثمانينات. وقد احرق بيتها بالكامل قبل خمس سنوات فضاع منها كل شيء في ظل ظروف العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق.

ومنذ يناير الماضي عندما انفجرت سيارة مفخخة قرب مجموعة حراسة للجيش العراقي كانت تمر أمام بيتها، ظلت خديجة عاجزة عن ابعاد صور الدخان والصراخ والأشلاء عن ذهنها. وقالت انها تعاني من كوابيس وأفكار انتحارية، وقد وجدت طريقها الى مستشفى اليرموك.

وقالت وهي تمسك بيد ولدها حسين وسط نوبات الكآبة التي دفعتها مرتين الى ترك زوجها وأطفالها الأربعة للبقاء مع والديها «أشعر بأنني طبيعية أحيانا، ولكنني اعود في الغالب الى وضعي غير الطبيعي. اتوقف عن تناول الطعام، وأبكي، وأود ان أنام دون ان أستيقظ». وعندما سئل عن الوقت الذي تستغرقه النفسية العراقية للخروج من هذا الاضطراب الجاري في السنوات الأخيرة، أجاب لفتة، طبيب الأمراض العقلية في مستشفى الرشيد، انه يتوقع أن يكون ذلك «خلال جيل أو أكثر، ابتداء من الوقت الذي يتوقف فيه القتال هنا. لقد تم الدمار خلال فترة طويلة جدا، وسيتطلب أمر الشفاء والعودة الى الوضع الطبيعي عقودا من الزمن».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»