مدرسة لتعليم رقص الباليه والموسيقى في بغداد تتحدى العنف

أطفال يعزفون وسط أصوات سيارات الشرطة ودوي الانفجارات الآتية من الشارع المجاور

TT

بعيدا عن العنف الذي يعصف بالعراق، تتابع رولا فلاح النحيفة، 13 عاما، دروسا في الرقص الكلاسيكي في مدرسة الموسيقى والباليه وسط بغداد. وتقول هذه الفتاة التي سحرها عالم الباليه حين كانت في الخامسة من العمر لدرجة أن والداها قاما بعد عام بتسجيلها في مدرسة الموسيقى والباليه الوحيدة في العراق «عندما أرقص، أنسى ما يجري في بلدي وكأنني أعيش في عالم آخر».

ويرتاد هذه المدرسة، التي افتتحت في منتصف السبعينات باعتبارها واحدة من أرقى المؤسسات الفنية في العالم العربي، حاليا نحو 200 طالب وطالبة من مختلف الأوساط والمذاهب، وهي تقع بالقرب من أحد أكبر معسكرات الجيش العراقي وسط بغداد، وسبق أن استهدفتها 5 سيارات مفخخة خلال الأعوام الثلاثة الماضية.

وعمل في هذه المدرسة كبار فناني الموسيقى والباليه الذين كانوا ينتدبون من الاتحاد السوفياتي سابقا وهنغاريا وبلغاريا وفرنسا وبريطانيا، وخرجت أجيال من الفنانين الذين ذاعت شهرتهم عبر العالم أمثال المؤلف الموسيقي محمد عثمان وعازف البيانو سلطان الخطيب. ووسط أعمال العنف التي تهز البلاد، تبدو هذه المؤسسة وكأنها من زمن آخر، ففي القاعة المخصصة لرقص الباليه، تؤدي 15 فتاة بملابسهن السوداء وأربعة فتيان تتراوح أعمارهم بين 8 و13 عاما خطوات على رؤوس أقدامهم على سجادة رصاصية اللون تحت إشراف معلمتهم ذكرى منعم، 46 عاما. وتقول ذكرى التي درست فن الرقص لمدة ستة أعوام في سان بطرسبورغ وموسكو قبل أن تعود الى العراق عام 1982 «في الخارج نعيش جحيما، أما هنا فننعم بالسلام». وتخشى المعلمة التي أعدم والدها إبان حكم نظام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، أن تبوح لأحد بمهنتها لأن البعض يعتقد أنها غير أخلاقية ومخالفة لتعاليم الدين الإسلامي. وتقول «علي أن أثق أولا بالشخص قبل اكشف له مهنتي، والبعض يصاب بخيبة امل حين يعلم ماهية هذا العمل». وفي المدرسة التي يدخلها طلاب من المرحلة الابتدائية الى المرحلة الثانوية، تخصص ساعات الصباح الأولى للمواد الدراسية وساعات بعد الظهر للموسيقى أو الباليه تحت إشراف أربعين أستاذا يتقاضون راتبا شهريا يوازي 120 دولارا. وتقول مديرة المدرسة نجية نايف لوكالة الصحافة الفرنسية انه «خلال فترة التسجيل، نتسلم عادة 200 طلب ونختار منها 40، أما هذا العام، وبسبب الأوضاع وضعف الإمكانيات، فقد تسلمنا 40 طلبا فقط وقبلنا 15 منها». وتعرضت مدرسة الباليه مثل باقي المؤسسات لعمليات سلب ونهب اثر سقوط نظام صدام حسين في التاسع من ابريل (نيسان) من عام 2003، وكذلك بعد ستة اشهر من ذلك.

وتقول المديرة «هديتنا الأولى كانت آلتي كمان وكلارينيت أرسلتها مواطنة اميركية كانت قد تأثرت بعملية السلب والنهب». ثم قامت الكنيسة في النرويج والسفارة السويسرية بتقديم عدد من الآلات الموسيقية مما سمح للمدرسة بالانطلاق من جديد». وفي بداية كل سنة دراسية، تحرص مديرة المدرسة على الشرح لطلابها بان «هذه المؤسسة مكان حضاري وسط بلد يفتك به العنف، لأنه مع الموسيقى نتعلم العيش بسلام واحترام الآخر». لكن المديرة تدرك جيدا الخطر المحيط بهذا النشاط وتقول انه «للأسف الجهلة كثر، وهم لا يعرفون ان الرقص والموسيقى كانا يدرسان في زمن الخلفاء العباسيين»، متساءلة «لم يتم اقحام الإسلام بالمسألة؟».

وفي قاعة المخصصة لتدريس الموسيقى الشرقية، تحاول الطالبة حنين عماد التركيز أثناء عزفها العود. وتقول «لدى وقوع انفجارات او اطلاق نار، ابحث عما يعزيني وألجأ الى الموسيقى، وحين أبدأ بالعزف أنسى اصوات الموت من حولي».

وفي القاعة المجاورة المخصصة لتعليم الموسيقى الكلاسيكية، تمتزج الحان البيانو والناي والكمان والكونترباس والبوق والكلارينيت. وتقول الطالبة زحل سلطان «انا لا اخاف الموت لأنني اراه كل يوم. ما اطمح اليه هو ان اصبح عازفة بيانو كبيرة». ويقول الطالب عادل عبد الناصر، 15 عاما «اعرف ان المسلمين يعتبرون الموسيقى حراما، أما أنا فأعزف آلتي وأؤدي صلواتي اليومية في آن معا». وفي قسم الصفوف الابتدائية، ينشد نحو عشرين طالبا وطالبة يبلغون من العمر عشر سنوات اغنية «سايلنت نايت» (ليلة صامتة) تحت اشراف المعلمة سوزان الكرخي، وحينها، تتلاشى اصوات سيارات الشرطة وإطلاقات النار الآتية من الشارع المجاور. وسوزان هي ام لطفلين أكملت دراسة العزف على آلة الأكورديون في الاتحاد السوفياتي سابقا وتقوم بتعليم اطفال المدرسة قراءة رموز الألحان.

وتقول بشيء من الأسى «إن التلامذة بالكاد يعرفون قراءة النوتات الموسيقية». وتضيف «لا اكشف أبدا عن مهنتي لشخص أراه للمرة الأولى، وحين يطرح علي السؤال سائق سيارة الأجرة، اكذب عليه، أو أقول له الحقيقة إذا بدا لي منفتح الذهن».