د. فيصل بن معمر لـ«الشرق الأوسط»: الوثيقة تفند بعض الآراء التاريخية وتؤكد انفتاح الدولة السعودية الأولى على جميع المذاهب

المشرف العام على مكتبة الملك عبد العزيز: إبراهيم باشا نقل 650 مخطوطاً أصلياً إلى المدرسة «المحمودية» * الأرشيف العثماني يزخر بالكثير من الوثائق التي تميط اللثام عن جوانب مخفية من تاريخ الدولة السعودية الأولى

TT

كشفت مكتبة الملك عبد العزيز العامة في العاصمة السعودية في نهاية الشهر الماضي، عن وثيقة تصف جزء من الحالة الثقافية والعلمية أثناء فترة حكم الدولة السعودية الأولى 1744 ـ 1818، من خلال اشتمالها على عناوين 650 مؤلفاً متنوعاً في مجالات المذاهب الإسلامية المختلفة والأدب والفكر. «الشرق الأوسط» التقت بالمشرف العام على مكتبة الملك عبد العزيز العامة، فيصل بن عبد الرحمن بن معمر، لتسليط الضوء على هذه الوثيقة وأهميتها وأثرها في الدراسات التاريخية ودلالاتها الثقافية والعلمية في تلك الحقبة.

إعلان مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالعاصمة السعودية أخيرا عن عثورها على وثيقة معرفية تاريخية عثمانية في غاية الأهمية عن الأحوال الثقافية في الدرعية، عاصمة الدولة السعودية الأولى، يطرح سؤالاً مهماً: لماذا ظلّ المشهد الثقافي والعلمي لهذه العاصمة التاريخية مغيباً طوال هذه الفترة؟

يجدر في البداية التأكيد على مسألة في غاية الأهمية، وهي أن الدولة السعودية الأولى، قامت على دعوة تجديدية ولولا توافر أدوات التمكين للدولة السعودية الأولى، لما كان لها ذلك التأثير الفكري والدعوي والفقهي، فقد تأسست الدولة السعودية على تحالف بين قائد بالفطرة، مفعم بالمطامح الوحدوية، وبين مصلح ديني، فحظيت هذه الدعوة الإسلامية بالتمكين والانتشار، نتيجة لتأييد الإمام محمد بن سعود، مؤسس الدولة القادرة على حمايتها ونشرها.

واستطاع أئمة الدولة السعودية الأولى من توحيد معظم مناطق شبه الجزيرة العربية من خلال عهد جديد اتسم بالاستقرار وانتشار الأمن والأمان، ونتيجة لذلك ازدهرت المعارف والنواحي العلمية والاقتصادية، هذا الرصيد الكبير من الاستقرار والأمن والأمان، الذي أحدثه أئمة الدولة السعودية الأولى، قابله على الجانب الآخر اهتمام من أئمة الدولة السعودية بالجانب العلمي والثقافي، تمثل ذلك في مساعدتهم للعلماء ووقف الكتب وتوفيرها لغير القادرين من طلبة العلم، وكان من تأثير ذلك ما وصلت إليه الحركة العلمية في نجد خلال الفترة التي ظهرت فيها الدعوة الإصلاحية على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك في الفترات التي تلتها، ولعل من أكبر فضائلهم في هذا الخصوص، تهيئة أهم أداة من أدوات العلم، وهي الكتب التي كانت الوعاء الذي نهل منه الأئمة وطلبة العلم، بالرغم من انتشار كثير من المعوقات التي واجهت هذه الدولة الفتية في بداية قيامها، ما أدى إلى تكالب الظروف عليها حتى تم إسقاطها مرتين خلال قرنين من الزمان.

وبالنظر إلى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ودراسة الحياة الدينية والعلمية في منطقة نجد آنذاك، فإن الباحث يتساءل دائماًً عن الآثار الدينية والعلمية والثقافية التي أسهمت في تكوين ثقافته، ومدى تأثره بعلماء عصره الذين سبقوه وتتلمذ عليهم ونهل من علمهم، ليخرج عالماً فقهياً مجدداً ومصلحاً دينياً، أثار حراكاً دينياً وثقافياً وعلمياً ليس في نجد فقط، بل في كثير أنحاء العالم، ما يعطي دلائل قوية على أن منطقة نجد، كانت تزخر بالعلماء والأئمة والأدباء الذين أسهموا جميعاً في تكوين الإمام محمد بن عبد الوهاب، في نجد عامة، وفي العيينة وحريملاء والدرعية على وجه الخصوص.

وبالعودة إلى سؤالك فإن المصادر التاريخية المتاحة ربما انصبت معظمها على توثيق جانب مهم من جوانب الدولة السعودية، وهو الدعوة السلفية، لذلك رأينا كثيراً من المصادر النجدية المعاصرة للأحداث تعرض عن ذكر مثل هذا التوثيق، لاعتقاد بعض أصحابها أنها ليست ذات فائدة، أو أنها لا تستحق الرصد، أو لأن التعليم النظامي لم يكن قد تشكل في ذلك الوقت، خصوصاً مع استمرار الضغط العسكري للدولة العثمانية، وما أعقب ذلك من سقوط الدرعية في 1818 بقيادة إبراهيم باشا، وبروز المشهد التاريخي والحربي، الذي وثق من خلال العديد من الدراسات، كل هذه الظروف ربما دون قصد أسهمت ـ بشكل أو بآخر ـ في تغييب المشهد الثقافي والمعرفي للدولة السعودية الأولى، لذلك أرّقنا البحث عن ذلك في مكتبة الملك عبد العزيز العامة، انطلاقاً من حرصها على إبراز هذا الجانب، فشرعنا في تكليف أحد الباحثين المختصين في الدراسات التاريخية العثمانية، بالبحث عن أي وثائق تحتوي على معلومات عن الدور الثقافي والمعرفي للدولة السعودية الأولى، وبعد أعوام نجحت المكتبة في مسعاها، وعثرنا على هذه الوثيقة العثمانية التي تعد كشفاً تاريخياً ووثائقياً مهماً على الحالة الثقافية والعلمية خلال هذه الفترة من عمر الدولة السعودية المتعاقبة، ومما لا شك فيه أن الأرشيف العثماني يزخر بالكثير من الوثائق التي تميط اللثام عن جوانب مخفية من تاريخ الدولة السعودية الأولى، لا سيما في الجانب العلمي والمعرفي، ولعل الأيام والأعوام المقبلة ستنبئ عن ذلك الجانب.

> هل ينفي ذلك توافر دراسات سابقة تناولت مظاهر الجانب الثقافي والعلمي من عمر هذه الدولة؟ وما أثر الذي تركته الدرعية في هذا الخصوص؟

ـ لا، فالثابت تاريخياً أن بعض الدراسات حفلت بمعلومات تخص الحياة العلمية في نجد، أشار معظمها إلى أن الدرعية قد شهدت حركة علمية، وكانت تموج في تلك الدروس التي كان يلقيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في مسجده كل يوم، ما شجع كثيرا من أبناء الدرعية، وبعض الأئمة من آل سعود على الاستماع إلى تلك الدروس، إضافة إلى من لحق به من تلاميذه الذين كانوا معه سواء في حواضر نجد أم باديتها، أو من قدم عليه من أقاليم أخرى من شبه الجزيرة العربية.

فنظام التعليم عادة لا ينتشر في منطقة ما ولا يؤتي ثماره المرجوة، ما لم تتهيأ له الأسباب التي تعين على استمراره وازدهاره، وعلى رأسها استقرار الأمن والوضع الاقتصادي الجيد، وهما ما كان عليه الوضع في ظل الدولة السعودية الأولى على الأقل في طورها الأخير، والتي شهدت فيها النهضة العلمية تحولاً كبيراً؛ أدى إلى اتخاذ الدرعية عاصمة الدولة مركزاً رئيساً للعلم والعلماء، فأصبحت مهوى أفئدة طلاب العلم داخل شبه الجزيرة العربية، وخاصة منطقة نجد، حيث كان التعليم فيها على جانبين، جانب الحواضر »النجدية»، والجانب الآخر هو البادية، وذلك بفعل الحراك الذي أحدثته دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحثها على التعليم ونشر العلم، ثم بتبني الدولة الجديدة للإنفاق على التعليم وتشجيعها للعلماء وطلبة العلم.

> ما الأهمية التاريخية لهذه الوثيقة العثمانية التاريخية وما مضمونها؟

ـ الوثيقة العثمانية تثير تساؤلات وتستنطق الباحثين وتشجع المختصين على البحث عن مثل هذه الوثائق أولا، وثانيا تتضمن كشفاً تاريخياً ومعرفياً في غاية الأهمية للأحوال الثقافية والعلمية التي توافرت في الدرعية عاصمة الدولة السعودية، حيث تضمنت بيانا مفصلا بـ 650 كتاباً نقلها إبراهيم باشا من قصر الإمام عبد الله بن سعود ـ يرحمه الله ـ وسلّمت إلى ناظر الحرم النبوي في المدينة المنورة إسماعيل آغا، وأحيط الخليفة العثماني محمود الثاني بشأن هذه الكتب، حيث أمر عام 1823 بإرسالها إلى المدرسة المحمودية التي أنشأها السلطان أمام باب السّلام.

> وما الذي استوقف النظر عند فحص هذه الوثيقة وما تحتويه من معلومات؟

ـ عند فحص عناوين الكتب التي وردت في الوثيقة، يجد الباحث نفسه أمام تساؤلات يثيرها حول مدى اهتمام أئمة الدولة السعودية الأولى بالعلم والعلماء، وكذا مدى انفتاحهم الكبير على المصادر الإسلامية لجميع المذاهب الأربعة، إضافة إلى المصادر التاريخية وكتب الأدب وغيرها، فقد تضمنت قائمة الكتب 31 كتاباً لفقه الإمام أبي حنيفة، و28 كتاباً عن التصوف، و16 مؤلفاً لفه الإمام مالك، و20 كتاباً لفقه الإمام الشافعي، و35 مؤلفاً لفقه الإمام أحمد بن حنبل، وكان فيها كتباً ومصادراً لجميع المذاهب.

وربما يلحظ الباحث أمرا مهما في هذه الوثيقة، وهو أن الدولة آنذاك لم تقيد نفسها في كتب العلوم الشرعية فقط، بل تجاوزت ذلك إلى كتب الأدب والتراث الفكري الإسلامي، وهذا ما تشهد به تلك القائمة، والتي تضمنت مقامات الحريري وكتبا أدبية وتراثية متعددة، حتى أن كتب التفسير، والتي تجاوزت 67 كتاباً، تضمنت تفسير البيضاوي وتفسير ابن كثير وتفسير الكواكبي وتفسير البغوي وغيرهم، وقد تعددت القائمة وتنوعت لتعبر بحق عن مكتبه علمية متكاملة في الدرعية، وربما تعطي آراء متنوعة وعلوم متعددة تعبر عن الحالة العلمية والثقافية السائدة آنذاك.

> علام يدل حرص آخر أئمة الدولة السعودية الأولى على تنويع المصادر المعرفية لعلماء عصره؟

ـ الإمام عبد الله بن سعود 1814 ـ 1818 الابن البكر للإمام سعود الكبير، والذي عرف بالتقوى والتورع والزهد والسخاء، قد بويع بالإمامة بعد وفاة والده الإمام سعود الكبير عام 1814 مع أن عهده، من بدايته، عهد تأسيس ووضع البنى التحتية للدولة، ولم تمهله الظروف فرصة لفسحة من الوقت لالتقاط الأنفاس، ومع تأثر الحركة العلمية والأوضاع الاقتصادية والإدارية كلها بذلك، إلا أنه استطاع تكوين هذه المكتبة ـ آنذاك ـ الثرية بمصادر الإسلام المتنوعة، والحقيقة أن إلقاء نظرة فاحصة على تلك القائمة يبيّن مدى حرص أئمة الدولة السعودية على الاهتمام بالعلم والمعرفة من جهة، والاستفادة من المصادر الإسلامية والمدونة في مختلف التخصصات من جهة أخرى، علما بأن تلك الكتب كانت مخطوطات أصلية، ثم اختيارها بعناية لتشكيل مكتبة الإمام عبد الله بن سعود.

> ماذا كان مصير هذه الكتب بعدما استولى إبراهيم باشا على الدرعية؟

ـ الوثيقة تؤكد أن إبراهيم باشا اهتم بهذه المكتبة المتنوعة اهتماماً كبيراً، وأمر بنقلها إلى المدينة المنورة، رغم طول المسافة ومشقة الطريق، بعد إبلاغ الخليفة العثماني بأمرها، ليؤكد قيمة ما تحتويه من كتب ومعارف، ولعل اختيار الخليفة العثماني لها؛ لتكون نواة لمدرسته التي أنشأها في المدينة المنورة من الشواهد التي تؤكد حرص الدولة السعودية الأولى على العلوم والمعارف، والاهتمام بجميع الكتب ذات القيمة والتنوع المذهبي والأدبي والتاريخي، فلقد كان لأئمة الدولة السعودية الأولى رؤية شاملة، وإدراكا كاملا بأهمية العلوم الأدبية والتاريخية في ثقافة الأمة وتنوير العلماء والباحثين، ومن جانب آخر فإن هذه المكتبة تفند بعض الآراء التاريخية التي وصفت الدولة السعودية الأولى بالانغلاق، وهذا ما تؤكده الوثيقة والتي تضمنت على مجموعات متوازنة لكتب المذاهب الأربعة بما فيها المذهب الحنبلي.

والجدير بالذكر أن تلك الكتب التي تعكس شمولية نظرة أئمة الدولة السعودية، قد قوبلت من لدن العثمانيين، حيث لم يروا بأساً من وضعها في مكتبة عامة في المدينة المنورة، ومعلوم أن العثمانيين في تلك الفترة كانوا خصوماً للدولة السعودية الأولى، فلو كانت تلك الكتب خارجة عن الرأي العام الإسلامي، لم تكن لتوضع في مكتبة عامة، ما يدل على وسطية الدولة السعودية الأولى في توجهاتها الدينية والعلمية، واستيعابها لكافة التخصصات العلمية والفروع الأدبية الموجودة آنذاك.

> ما الذي يمكننا فهمه أخيراً من هذه الوثيقة التاريخية؟ وبما أسست؟

ـ هذه الوثيقة العثمانية عن الأحوال الثقافية والدينية في الدولة السعودية الأولى، كما ذكرت تثير قضايا غاية في الأهمية فضلا عن استنهاضها للباحثين وتشجيعهم على إمكانية العثور على وثائق أخرى مشابهة، فالثابت أن هذه الوثيقة تتجاوب مع ما يعطيه الإسلام من مساحة واسعة للتعددية داخل إطاره العام، وقد سمحت هذه المساحة الواسعة في الدولة السعودية الأولى من الانفتاح على المذاهب الفقهية المتنوعة، وهذا ما غفلت عنه دون قصد بعض الدراسات والمصادر التاريخية الوطنية والعربية، وأثبتته هذه الوثيقة التاريخية العثمانية؛ التي تؤكد أن المصادر الأصلية مازالت تكشف كل يوم عن معلومات جديدة عن تاريخ الدولة السعودية الأولى، وخصوصاً ما كان منها بعيداً عن أعين الباحثين؛ الذين اكتفوا بالإشارة إلى بعض تلك المصادر، دون أن يطلعوا عليها، فجاءت معلوماتهم عنها مبسترة أو خاطئة في بعض الأحيان.

* الدولة السعودية الأولى (1744 ـ 1818)

* كانت بدايات تكوين الدولة السعودية الأولى بتولي الأمير سعود بن محمد بن مقرن في 1720 إمارة الدرعية، وبعد وفاته ليلة عيد الفطر من عام 1725 تولى زيد بن مرخان لمدة تقل عن العامين، ثم تولى بعده في عام 1727 الأمير محمد بن سعود، الذي أصبح يلقب فيما بعد بالإمام، وقاد البلاد إلى مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة، وأسس الدولة السعودية الأولى.

واكتسبت بلدة الدرعية في عهد الإمام محمد بن سعود مركزاً قوياً، واستقراراً داخلياً، وحكماً راسخاً جعلها مميزة في المنطقة، وفي 1744 غادر الشيخ محمد بن عبد الوهاب العيينة وتوجه إلى الدرعية التي ناصره أميرها محمد بن سعود وقدم له التأييد والتمكين من خلال الاتفاق التاريخي الذي حدث بينهما في ذلك العام، وأصبح المنطلق الأساس لتأسيس الدولة السعودية الأولى. وأصبح هذا التحالف هو الأساس الذي قامت عليه الدولة السعودية الأولى، وتمكن أئمة الدولة السعودية الأولى من توحيد معظم مناطق شبه الجزيرة العربية ونقلها إلى عصر جديد اتسم بالاستقرار وانتشار الأمن، وتطبيق الشريعة الإسلامية في نواحي الحياة كافة، وظهر الكثير من العلماء وازدهرت المعارف والنواحي العلمية والاقتصادية، وأنشأ العديد من المؤسسات والنظم الإدارية، وأصبحت الدولة السعودية الأولى تتمتع بمكانة سياسية عظيمة نتيجة لقوتها ومبادئها الإسلامية، واتساع رقعتها الجغرافية، وسياسة حكّامها المتزنة والمعتمدة على نصرة الدين الإسلامي، وخدمة المجتمع والرقي بمستواه الحضاري.

وكان انتهاء الدولة السعودية الأولى في عام 1818 نتيجة للحملات التي أرسلتها الدولة العثمانية عن طريق واليها في مصر، وكان آخرها حملة إبراهيم باشا التي تمكنت من هدم الدرعية وتدمير العديد من البلدان في نجد وما حولها.