ما الفرق بين الاستقالة والتقاعد .. بالنسبة لرئيس تحرير ?

بنى صرح مجلة «هاربرز» طيلة 30 سنة .. ويفكر بعد تركها في مشاريع أخرى

TT

يشعل لويس لافام سيجارة أخرى ويسحب نفسا عميقا. إنه في الواحدة والسبعين من العمر، ويستعد للاستقالة من منصبه كرئيس لتحرير مجلة «هاربرز» الأميركية، لكنه لا ينوي التقاعد الآن.

وبدلا من ذلك يروي قصة محاولته الفاشلة في العمل لدى وكالة الاستخبارات المركزية (سي. آي. ايه) عام 1957، عندما كان يأمل، بعد تخرجه من جامعتي ييل الاميركية وكمبريدج البريطانية، في العمل في الاستخبارات. ويقول إن أربعة رجال، كلهم متخرجون من ييل، أجروا حينها مقابلة على طاولة خشبية للعمل مع الوكالة. ويضيف ان اول سؤال طرح عليه كان: «لو كنت واقفاً في نقطة البداية رقم 13 في النادي الوطني للغولف في ساوثهامبتون، فأي مضرب ستستخدم؟». ينفث دخان سيجارته ويتذكر: «الآن، بعدما لعبت في هذا الملعب، عرفت الحفرة رقم 13، وهي حفرة قصيرة. لو قلت مضرب driver لأخطأت. قلت المضرب رقم 7 وكانت الاجابة صحيحة». اما السؤال الثاني فكان: «أنت تقترب من المرحلة الاخيرة في مرفأ في فيشرز آيلاند بعد الظهر، ما هو المسار الذي تتخذه؟». ويقول انه لا يتذكر الآن اجابته «لكنني اجبت اجابة صحيحة لأنني ابحرت في فيشرز آيلاند».

عندها، توقف بطريقة مسرحية للحظة، وكان يروي قصته بثقة رجل لم يعتد على المقاطعة. كان يجلس خلف مكتبه وسط كميات كبيرة من الكتب. وكان، كما هو دائما، انيقا: قميص ابيض بأزرار أكمام ذهبية تحت سترة تفصيل زرقاء في غاية الاناقة.

ويواصل تذكره السؤال الثالث قائلاً: «ذكروا لي اسم فتاة معروفة في دوائر الجامعات العريقة في شمال شرقي الولايات المتحدة المعروفة باسم عصبة اللبلاب، وقد سألوني ما إذا كانت ترتدي قميصا داخليا؟». يسحب نفسا من سيجارته، وينفث دخانه، ويقول إنه لم يكن يعرف الإجابة، وعندها انسحب من المقابلة، شاعرا بالاشمئزاز من غرور المحققين. ويقول: «قلت لهم. إنني آسف على اضاعة وقتكم. الي اللقاء».

ثم عاد الى منزله في سان فرانسيسكو، حيث خدم جده الذي كان يشغل منصب عمدة، قبل أن يبدأ عمله الصحافي في جريدة محلية.

ووصل لافام الى مجلة «هاربرز، الشهرية، في عام 1971، وقد منحه الصحافي الاميركي الاسطورة ويلي موريس وظيفة كاتب. بعدها بأسبوعين، طرد موريس من منصبه، واستقال معظم طاقم الصحافيين احتجاجا. وعندما هدأت الامور، كان لافام أصبح مديرا للتحرير، ثم أصبح رئيساً للتحرير عام 1976.

وفي يونيو (حزيران) 1980، اعلن اصحاب المجلة اعتزامهم التوقف عن نشرها بسبب الخسائر التي تحققها. وفي صحيفة «شيكاغو صن تايمز»، قرأ صحافي مبتدئ يدعى ريك ماكارثر الخبر، واستاء للخبر لانها كانت مجلته «المفضلة»، حسبما يقول الآن. اتصل ماكارثر بوالده الذي كان عضوا في مجلس ادارة «مؤسسة جون وكاثرين ماكارثر». ويتذكر ريك ماكارثر انه قال لوالده: هل تعتقد انه بإمكان مؤسسة ماكارثر انقاذ هاربرز، فرد عليه: ولم لا؟. اشترت «مؤسسة ماكارثر» المجلة واسست مؤسسة مجلة هاربرز لادارتها. واستمرت المجلة في خسائرها، وهو امر عادي بالنسبة لمجلة فكرية، وفي عام 1981 تخلت مؤسسة هاربرز عن خدمات لافام وعينت مايكل كينزلي رئيسا للتحرير.

شعر ريك ماكارثر، الذي كان تحول الى محرر في وكالة «يونايتد برس» بالضيق لطرد لافام. وحصل على اجازة بدون مرتب من الوكالة، وانضم الى مجلس ادارة مؤسسة هاربرز وبدأ بثورة مضادة. وفي عام 1984 طرد مجلس الادارة كينزلي وأعاد لافام الى وظيفته.

وعند عودته الثانية، جاء لافام بخطة لإجراء تجديد جذري على مجلة «هاربرز» التي تأسست عام 1850، وأدخل عليها ثلاثة أجزاء جديدة مثل «هاربرز انديكس» و«قراءات»، وهي مجموعة من الخطابات والنصوص وحتى مذكرات الانتحار، بالإضافة الى صفحتين هما عبارة عن موضوع وتعليق عليه بواسطة خبير في القضية التي يتناولها الموضوع.

وأصبح «هاربرز انديكس» من أكثر أقسام المجلات رواجا على مدى فترة ربع القرن السابقة.

يقول توم وولف، وهو صحافي وروائي: «كان ابتكارا ذكيا. انديكس رائعة. هذه الأشياء تمثل علاجا لمشكلة الاشتراك، ومثل رسومات نيويوركر. فأنت تفتح صحيفة نيويوركر وتنظر الى الرسومات وتشعر بأنك قرأتها مسبقا حتى اذا لم تقرأ أي شيء آخر. قسما إنديكس وقراءات لهما نفس الأثر في هاربرز».

لكن بالنسبة للافام يظل المقال هو قلب المجلة، حيث يتناول الكاتب موضوعا بعاطفة او ذكاء. ويقول لافام: «ابحث دائما عن الصوت في الكتابة. اريد ان اسمع عما رآه او شعر به او اعتقده الكاتب. انا لا ابحث عن معلومات، وإنما ابحث عن الخبرة والحكمة والمعنى».

نشر لافام عشرات المقالات البارزة، بما في ذلك ديفيد فوستر ووليس في رحلة بحرية واتهام كريستوفر هيتشينز لهنري كيسينجر بارتكاب جرائم حرب الى جانب مقالات للكاتب مايكل باتيرنيتي. حصلت «هاربرز» على 12 جائزة وطنية في الفترة التي عمل خلالها لافام رئيسا لتحريرها ووصلت الى المرحلة النهائية في خمس منافسات اخرى هذا العام ستعلن نتائجها في التاسع من مايو (آيار) المقبل. هذا عن الاخبار الايجابية، اما الاخبار السلبية فتتلخص في انه على الرغم من حجم توزيعها الذي يقدر بـ 228000 نسخة فإن «هاربرز» لا تزال تسجل خسارة تقدر بأكثر من مليوني دولار سنويا، إلا ان الناشر الحالي، ريك ماكآرثر، قال ان المؤسسة ستستمر في دفع نفقات المجلة.

وعند استقالته في 31 مارس (آذار) الحالي سيخلف لافام رئيس التحرير الجديد روجر هودج الذي التحق بـ «هاربرز» عام 1996 في وظيفة غير مدفوعة الأجر كمتدرب عندما كان يحضر لنيل درجة الدكتوراه في الفلسفة من كلية نيويورك للبحوث الاجتماعية. تدرج هودج في مختلف الوظائف ونشر عام 2000 موضوعا حول الفنان ماثيو بارني. ويعتبر هودج، 38 سنة، مناوئا للافام. فقد نشأ في مزرعة في تكساس وكانت يتفادى حفلات الكوكتيل التي كان يحبها لافام مفضلا ركوب دراجته من مكتب «هاربرز» في مانهاتن الى أطفاله في بروكلين، حيث يفضل ممارسة التزحلق ليلا في بروسبيكت بارك. ويقول هودج انه لا يعتزم إحداث تغييرات كبيرة. وقال في هذا السياق: «انا احب المجلة، ولا أشعر بأن هناك حاجة للإدلاء بأي تصريحات كبيرة لأنني سأصبح رئيسا لتحريرها».

مقالات لافام الشهرية، والتي ستصدر بصورة نصف شهرية عقب تقاعده، تعد من السمات المميزة التي تضفي طابعا خاصا للمجلة. وكانت هذه المقالات قد حصلت عام 1995 على جائزة، وثمن الحكام الذين قرروا منحه الجائزة وجهات نظره التي تحفز القراء. إلا ان جزءا من المشكلة يكمن في اسلوب لافام في الكتابة، الذي يصفه البعض بأنه كلاسيكي يتوسط اسلوب ادوارد جيبون وهـ. ل. مينشين وفيه جانب من اسلوب آمبروز بيرس. ففي عموده حول جنازة الرئيس الاميركي الراحل رونالد ريغان، كتب لافام: «تذكرت الشبه بين انتفاضة الثقافة المناوئة في الستينات وحركة الانبعاث الجمهوري خلال حقبة الثمانينات ـ نوعان من الفوضويين المثاليين يعتقدون انهم يستحقون اكثر مما حصلوا عليه مسبقا، احدهما يرفض ان يتطور وينمو، والآخر مصمم على عدم التطور والنمو».

ينظر لافام الى مقالاته بكونها ملاحظات ساخرة على الأخطاء والحماقات، ويقول: «حماقة البشر هي حماقة البشر بصرف النظر عن الفترة الزمنية التي تحدث فيها. أنا اراقب اخطاء وممارسات الحمقى. ما الذي يفترض ان افعله .. هل اقول انهم ليسوا حمقى؟».

وقد انعكس هذا الموقف في الفيلم الوثائقي للافام بعنوان «الطبقة الحاكمة الاميركية» The American Ruling Class، الذي عرض الربيع الماضي في نيويورك ومن المقرر افتتاحه في واشنطن في 31 مارس الجاري. كتب لافام سيناريو الفيلم ومثل دورا فيه كمرشد لممثلين لعبا دور خريجين شابين من جامعة ييل في جولة على النخبة الاميركية. وليس من المتوقع ان يحطم الفيلم أي رقم قياسي في عدد المشاهدين، لكنه يوضح قدرة لافام المثيرة للاهتمام في إقناع أصدقائه المشاهير بالظهور أمام الكاميرا مثل كورت غونيغات وولتر كرونكايت وبيل برادلي ومدير جامعة هارفارد الحالي لاري سامارز وجيمس بيكر، المسؤول السابق في إدارتي رونالد ريغان وجورج بوش الأب، الى جانب آخرين.

ويعتزم لافام تنفيذ عدة مشاريع عقب الاستقالة، من ضمنها إصدار مجلة ربع سنوية متخصصة في التاريخ، ولديه ايضا عدة أفكار حول تأليف كتب من ضمنها سيرة لويليام هاوارد تافت وكتاب حول تاريخ اميركا خلال النصف الثاني من القرن العشرين وربما صعود وهبوط قطاع الشحن التجاري في اميركا. والدافع من هذا الموضوع الاخير هو ان اسرته ظلت تعمل في مجال الشحن البحري منذ القرن الثامن عشر، حسبما قال.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»