رحيل عبد السلام العجيلي فارس الحكاية العربية

TT

بعد أربعة أيام من غيبوبة تامة، رحل الأديب السوري الكبير عبد السلام العجيلي، ابن الرقة البار وطبيبها، ونائبها حين كان في عز شبابه. وهو الرجل الذي تمسك بقريته، وفراتها، كما لم نر أديباً يفعل مثله من قبل. فهذا القاص والروائي الذي عرف حياة المدن، وجاب العواصم طولاً وعرضاً من أميركا الجنوبية وحتى الهند وهونغ كونغ واليابان، كان لا يكتب الا في الرقة، ولا يريد ان يعيش الا فيها، جاعلاً من دمشق مقرا لا مستقرا، ومن كل بقعة في الأرض مزاراً لا مقاماً.

توفي العجيلي، في «رقته» الأثيرة، صباح أمس، ودفن سريعاً ـ كما أراد ـ رافضاً أي مأتم رسمي، محاطاً بأبناء قريته الذين طببهم وشفاهم وبلسم جراحهم الخارجية والداخلية، بما يفيض على 45 كتاباً أدبياً، تنوعت في اساليبها، وانواعها، قافزاً بين الرواية والقصة والمقالة، وقبلها جميعاً كتب الشعر، وحاول كتابة المسرحية. وها هو يرحل قبل أن يرى مجموعة أعماله الكاملة، تصدر عن "دار رياض الريس".

منذ كان عمره اثنتي عشرة سنة وعبد السلام العجيلي يكتب، ويحاول أن يجعل مما كتبه شيئاً ممسرحاً يمكن ان يشاهده الناس ويستمتعوا برؤيته، حتى قبل أن يرى المسرح بأم العين. تعلم في مدرسة الرقة الابتدائية، لكن مرضاَ الم به ـ بقي يقول انه لم يعرف له اسماً ـ أبعده عن الدراسة اربع سنوات، عمل خلالها في طاحونة أهله يبيع من يريد أن يشتري، ويقرأ الكتب، مستغرقاً في مغامرات ابطال حمزة البهلوان، وقصص جرجي زيدان التاريخية. منذ تلك الأيام كان العجيلي يقول لوالده «أحلم بأن اكون بطلاً اسطورياً، أفتح البلاد وأذهب شرقاً وغرباً محارباً لأعلي كلمة كلمة الحق!».

وقد فعل ربما، كل ما حلم به ذاك الصبي النهم للقراءة الذي تربى على الف ليلة وليلة، وعنترة والزير سالم، وتغريبة بني هلال، تلك الكتب التي كان يقرأها الكبار حينها، لقد حمل في جعبته زاداً من خيال، وخزيناً تراثياً جعله بعد ذلك، يحاول أن يكتب على طريقة المعلقات، أو يقارب الموشحات، منوعاً في الأساليب، متمرداً على الشكل الواحد.

تكراراً روى العجيلي انه لا يعرف لماذا يصنّف تحديداً على أنه قاص. فلو لم تكن الرواية هي بنت هذا العصر المدللة، لربما كان اختار أشكالاً أخرى ليقول كلمته. وكان يروي العجيلي، دائماً انه كتب مئات المقالات، وحاول منذ البدء، تطويع عباراته الشعرية نثراً كي تستقيم قصصاً. وانه اراد ان ينتمي للقص كي يساير مزاج العصر.

أديب من صنف خاص، لأنه جعل تجربته الحياتية الغزيرة كلها في خدمة الحكاية، عمله كنائب ومن ثم عمله كوزير للثقافة والخارجية والإعلام، وكطبيب مبرز، صبّت دائماً في تلك القصص الكثيرة التي كان يرويها ويروي عنها الكثير.

«حياء مفرط كنت أتسم به منذ الصغر، وانطوائية على نفسي ما زالت تلازمني حتى اليوم. لم يكن في الأمر خوف من الانتقاد، ولا كنت قليل الثقة بنفسي، بل إن الثقة بالنفس كانت تملؤني وتجعلني دوماً أقيس قيمة الآخرين بنسبتهم إلى تقييمي لنفسي»، يعترف العجيلي، ويروي أيضاً انه تخفى وراء ما يزيد على عشرين اسماً مستعاراً، حين كان يكتب وهو تلميذ في كلية الطب، قبل أن يكشف عن اسمه وهويته. هكذا كان، وهكذا بقي العجيلي، يفضل الوحدة والكتابة، والاستفادة من الوقت القليل الذي يتبقى له من العيادة، غير آبه بحياة المثقفين وأحاديثهم وجلساتهم وأجوائهم. «الإنتاج همزة وصل بيني وبين كثير من الأوساط التي كنت اتجنبها بانطوائيتي المعهودة، وبميلي إلى أن أكون في الأدب مجرد هاو، لا عاملاً جادا».

لقد غلبت صفة الأديب، كل الصفات والأعمال التي مارسها العجيلي، لكنه يقول بأنه لم يتعمد ذلك «بل إني أحاول أن أكون أديبا على الورق فقط، بمعني أن تكون صلتي مع القراء والأدباء الآخرين صلة قراءة وكتابة، لا صلة شخصية».

في عام 1948 استقال عبد السلام العجيلي من عضوية البرلمان والتحق بجيش الإنقاذ، كطبيب، ومدافع عن الحق العربي في فلسطين. وفي حرب تشرين زار الجبهات التي دار فيها القتال، وقابل المتحاربين واستمع إلى حكاياتهم، وكتب رواية «أزاهير تشرين المدماة» التي كان يتمنى لها أن تتحول إلى فيلم سينمائي. وقال وهو يتألم على العراق: «لو كان بيدي أن أشارك مشاركة فعلية المعذبين والمضطهدين والمناضلين في العراق، ولو بأبسط الطرق، لكان ذلك أجدى في ما أعتقد من ألف صحيفة تكتب عن هؤلاء المعذبين والمضطهدين... فالكلام عن هذا الشر كلام موجه إلينا وحدنا، ولا يرضيني».

وعكة، فجراحة، ففالج ألم بعبد السلام العجيلي، وزلة قدم أقعدته عن الحركة.

بوفاة عبد السلام العجيلي صباح أمس، خسر القص العربي أحد فرسانه الكبار، ليس لأن الرجل كتب ما لا يضاهيه في الأدب العربي، بل لأنه من فصيلة أولئك الكتاب الذين ردموا الهوة بين الحياة والحكاية.

ترجم عبد السلام العجيلي الى العديد من اللغات، وكرم لمرات عديدة، وأحبه القراء العرب في «ألوان الحب الثلاثة»، كما «قلوب على الأسلاك» و«المغمورون» و«قناديل اشبيلية» و«فارس مدينة القنطرة».