«البريستول» في بيروت فندق الملوك والأمراء.. ورمز المعارضة

TT

تجاوز البريستول في منطقة الحمرا البيروتية اسمه كفندق من فنادق الدرجة الاولى، ليصبح منذ فترة عنوان لقاء المعارضة اللبنانية التي توسعت جبهتها إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ذلك ان المكان أعطى اللقاء اسمه، وبات صيغة تتداولها الصحف اليومية في صفحاتها الاولى، مؤشراً على الوضع السياسي ودليلاً الى فهرس المعارضين الذين اجتمعوا في قاعته الكبرى عدة مرات لإصدار بيانات وقرارات غيرت الخريطة السياسية اللبنانية.

تاريخ فندق البريستول يعود الى عام 1951، وهو الاول في منطقة الحمرا، التي حظيت بسمعة سياحية ذهبية بعد سنوات من انشائه. أما اصحابه فهم من آل ضومط، وقد برعوا في اصول الضيافة وقرأوا في تلك المرحلة مؤشرات تطور الصناعة الفندقية التي يشهدها لبنان، وتحديداً عاصمته، فسارعوا الى انجاز مشروعهم الذي صمم المهندس جون متى بناءه. وتولى ادارته للمرة الاولى جورج الريس، المعروف بكتبه عن فن الطبخ. وبعد وفاته تولت السيدة آراكليان المهمة لفترة 25 عاماً. وعرفت بقدرتها الإدارية وحنكتها في التعامل مع الزبائن والموظفين. وبعد الحرب الأهلية خضع الفندق الى عمليات ترميم وتجديد وإعادة تأهيل بدأت عام 1994. وتولى ادارته عدد من المديرين الاجانب، ليعود ابن صاحب الفندق مارك ضومط ويتسلم الادارة بنفسه.

يضم الفندق 155 غرفة وعدداً من الأجنحة، وهو مميز لدى رجال الاعمال، حيث تتوفر الخدمة السريعة من فاكس وإنترنت واتصالات عصرية وغرف اجتماعات وقاعات محاضرات ومؤتمرات علمية وسياسية ودولية.

ويشير مسؤول المؤتمرات والافراح في البريستول سامي رزق، الذي يعمل فيه منذ 36 عاماً الى «ان الفندق عرف ظروفاً صعبة خلال الحرب الاهلية، التي كان في فترة من الفترات أحد محاورها، لكن الادارة كانت تتعامل مع جميع الأفرقاء بالتساوي، ويعود السبب الى الجو الأليف داخله وتوفير الحماية الامنية الخاصة خلال الاحداث واستيعاب الجميع ومنع المسلحين من إدخال اسلحتهم اليه. لذا كانوا يضعونها خارجاً ويدخلون ليأكلوا فيشكروا وينصرفوا الى متابعة النضال».

لكن الفندق دفع مقابل الصورة العائلية ثمناً مادياً ومعنوياً كبيراً، اذ خسر حوالي تسعة من موظفيه، قتلوا نتيجة القصف والقنص خلال عبورهم المناطق الخطرة للوصول اليه. وبقي يعمل في ظل هذه الظروف ويؤمن الماء والكهرباء، حين كانت معظم المناطق اللبنانية والمرافق السياحية اللبنانية تفتقدها.

سامي رزق عاش الخطر في تلك المرحلة، لكنه يؤكد انه لم يتعرض الى كلمة تهدد حياته او تجرح كرامته. وبقي وفياً لعمله، حتى في أحلك الظروف، اذ دأب طوال 17 عاماً على العبور بين شطري بيروت الغربي والشرقي ومعظم الأحيان سيراً على الاقدام.

والفندق التزم مآدب قصر الرئاسة اللبنانية مع خمسة رؤساء جمهورية هم: شارل الحلو وسليمان فرنجية والياس سركيس وامين الجميل والياس الهراوي، وفي بدايات الرئيس الحالي العماد اميل لحود.

اما زواره البارزون، فيصعب إحصاؤهم ومنهم الراحلون الملك فيصل بن سعود وشاه ايران والاميرة ثريا وملك الأردن حسين بن طلال وامبراطور الحبشة هيلاسي لاسي والشاعر نزار قباني.

وقد كتب الملك حسين في سجل الفندق عبارة جاء فيها «الغريب يشعر انه ليس غريباً ويعيش في جو عائلي وليس وحيداً. اشكركم على كل ما قدتموه لنا وأتمنى ان يديم الله الاستقرار والسلام في لبنان. وأتمنى عند كل زيارة ان اكون في بيتي البريستول».

اما الشاعر الراحل نزار قباني فقد كتب ان «فندق البريستول هو جزء من تراث لبنان، وحضارته. وبرغم سنين الحرب المأساوية، التي حولت كل شيء الى رماد، بقي البريستول شامخاً يرفض الموت. عندما أدخله اشعر بالدفء والحرارة، وكأني ادخل الى بيتي وهذا شعور لا يمنحه اي فندق في العالم».

كما نزل في فندق البريستول ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز والرئيس الفرنسي جاك شيراك ورئيس الكنيسة القبطية الأنبا شنودة والأمير البير دو موناكو والأمين العام السابق للامم المتحدة الدكتور بطرس غالي والشيخ جابر العلي الصباح ووزير الخارجية الاميركي السابق هنري كيسنجر. ومن الفنانين الفرنسي شارل آزنافور وريتشارد كلايدرمان والراحلة داليدا، وجميع الفنانين الذين شاركوا في مهرجانات بيت الدين ونجوم سوبر ستار.

ومن أهم الشخصيات التي عرفها الفندق في المرحلة الراهنة وحولته الى جزيرة امنية، مقطوعة طرقاتها. فهو رئيس مجلس وزراء العراق اياد علاوي، خلال الصيف الماضي، حيث شهد اجراءات مشددة بينها احضار خمسة قناصين تمركزوا على سطحه، اضافة الى فرق من الجيش وقوى الأمن الداخلي والمخابرات ومن دون استثناء الكلاب البوليسية. آنذاك شعر الموظفون بالتعب والإرهاق والإرباك، لكنهم تفوقوا على ذواتهم في تأمين افضل الخدمات، كما نفر بعض النزلاء، لاسيما العائلات، لان الصبغة الامنية والسياسية طغت على ما عداها. وعرف الفندق تجربة امنية مشابهة مع زيارة وزير الخارجية الايراني قبل سنوات، حيث تولى أمن حزب الله، اضافة الى عناصر امن ايرانية الحماية والمراقبة.

ويذكر بعض قدامى الموظفين ان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، لم يكن يربك الإدارة او النزلاء باجراءاته الامنية رغم تشددها، اذ كان يستطيع ان يبقيها في خانة السرية، لاسيما خلال الاوقات الحرجة، ومنها الاجتياح الاسرائيلي، مؤكدين انه كان بارعاً في هذا المجال.

اما زعيم المعارضة وليد جنبلاط، فقد حجز طابقاً بكامله ولفترة طويلة إبان الحرب الأهلية. ومع تحول الفندق الى مقر لاجتماعات المعارضة، تولى فريق امني خاص لا علاقة للفندق به. تأمين الحماية اللازمة. وكانت عناصره تحضر قبل ليلة الاجتماع وتكشف على الصالة وتنام فيها حتى موعد الاجتماع، وتراقب المكان بحرص ودقة. وقد شددت الإجراءات إثر محاولة اغتيال النائب مروان حمادة، وهو أحد رموز المعارضة ومن كتلة جنبلاط.

واستقطاب البريستول للفعاليات السياسية اللبنانية لا يفرق بين موالاة ومعارضة، كما يشير سامي رزق. ففي لوبي الفندق يلتقي الجميع ويتبادلون السلام، وأحياناً بعد مؤتمر المعارضة فوراً، اذ صودف دخول بعض رموز الموالاة لتناول الغداء. فتبادلوا الحديث مع فريق المعارضة، فيما وقف مرافقو كل من الشخصيات المعارضة والموالاة خارج الفندق ضمن مجموعة واحدة لكن رزق يؤكد ان احلى ما يميز الفندق هو علاقة الوفاء التي تربط النزلاء به، فيعودون اليه تماماً كما يعودون الى بيتهم، لا يبحثون عن فندق آخر اكثر عصرية منه، واغلبهم احتفل بفرحه في إحدى قاعاته، ثم احتفل بافراح اولاده في القاعة نفسها.

ويطيب لرزق ان يتذكر الجانب المشرق من أجواء الفندق رغم قسوة الأحداث اللبنانية، عندما كانت الافراح تقام تحت وابل القصف العشوائي، ويتدفق المدعوون في ابهى حللهم، وكأنهم يتحدون الموت بارادة الحياة. كذلك نظم الفندق افراحاً كانت العروس وحدها حاضرة، يسبب تعذر وصول عريسها من المهجر نتيجة الأحوال الأمنية، فتولت الادارة الاحتفال بها وتأمين ايصالها الى المطار لتلتحق به. كما كانت ادارة الفندق تتولى تأمين ما ينقص من حواضر العرس في اللحظات الاخيرة كعقدة العنق مثلاً، او باقة الورد.

لكن اطرف ما يتذكره رزق، ضاحكاً حتى هذه اللحظة، هو حادث فقدان عريس، اذ تم تنظيم فرح ودعي اليه 500 شخص. ولم ينزل العريس من غرفته في الموعد المحدد، فتوجه رزق مع احد الموظفين الى الغرفة وقرع الباب عدة مرات من دون جواب. فلم يجد بداً من الاستعانة بالمسؤول عن الطوابق لفتح الباب والعثور على العريس غارقاً في نوم عميق، فسارع الى ايقاظه ومساعدته على ارتداء ملابسه ومرافقته الى العروس والمدعوين، وسط ابتسامات وهمسات ومراعاة عدم إفشاء سر العريس النعسان.

واليوم ما زال فندق البريستول مقصد الراغبين في خصوصية وخدمة ممتازة مع رصيد جديد لانه اصبح مرآة مشهد من مشاهد الديمقراطية الرائعة، الامر الذي دفع بشاب متحمس الى الغاء ترتيبات فرحه التي كان قد اعد عدتها في فندق فخم ونقل المناسبة اليه مع الإصرار على تأمين حجز عاجل. والسبب انه يريد الاحتفال بفرحة عمره في فندق المعارضة الوطنية، وليس في اي مكان آخر.