أثينا.. عنوان التجدد الدائم

مدينة جميلة قابعة في أحضان التاريخ

TT

يقول الكثيرون إن زيارة المعالم التاريخية الرئيسية في المدن جزء لا يتجزأ من زيارتها كأن نقول إن زيارة لندن لا تكتمل دون الذهاب الى عين لندن ومشاهدة ساعة بيغ بين وإن زيارة باريس منقوصة إذا لا تتمشى في شارع الشانزيليزيه وكذلك الأمر ينطبق على روما ونافورة الحياة فيها.

إلا أنني لا اتفق مع هذا القول خاصة انني زرت جميع هذه المدن دون أن يحالفني الحظ وأعرج على تلك المعالم، لكنني أملك فكرة جيدة عن تلك المدن وعن كنوزها الكثيرة. ولكن وفي نفس الوقت يقال إن لكل قاعدة شواذ ومن هنا فإن الحالة الشاذة هي مدينة أثينا الإغريقية القابعة في حضن التاريخ حتى أذنيها وقلعتها الشهيرة التي تقف لتحييك أينما كنت في المدينة، وتذكرك انك في مدينة متميزة عن باقي جاراتها من مدن أوروبا العصرية. ومن هنا وبالفعل فإن زيارتك لأثينا لا تكتمل دون التعريج على الباراثينيون او هيكل الآلهة، كما يعرف باللهجة المحلية، فهذا الهيكل هو الوجه الآخر لعملة اليونان القديمة.

كانت تلك الأفكار قد راودتني خلال زيارتي للمدينة قبل سنين وها هي تعود بعد زيارتي لها أخيرا كأنني كنت قد غادرتها للتو. فبمجرد النظر للمكانة الرفيعة لهذا الموقع الأثري والتمعن ببراعة الفنانين الذين أفاضوا عليه من إبداعاتهم ومخيلاتهم التي لا تملك حدودا يقف المرء مذهولا من عظمة المكان وعمق ارتباطه بالتاريخ القديم وبإبداع الأجداد.

تعني الترجمة الحرفية لهيكل الآلهة (اثينا المدينة المرتفعة) أي أنه المكان الذي يقصده سكان المدينة للاحتماء من الهجمات التي كانت تشن عليهم أيام الحرب. بني هذا الصرح المعماري في القرن الخامس للميلاد واستمرت عملية البناء زهاء خمسة عشر عاما. كان هذا المكان في البداية معبدا ومن ثم تحول الى كنسية وثم إلى مسجد وفي نهاية المطاف تحول لمستودع تركي لتخزين البارود الأمر الذي أدى في النهاية الى انهياره وسقوطه جراء سوء استخدامه.

وعلى الرغم من تعرض هذا المكان لويلات الحروب على مدى السنين إلا أنه ما زال يكتنز بين جدرانه المهدمة عبق التاريخ الذي لا ينقطع وإنجازات سكان المدينة القدامى. ولكن أكثر ما يثير الإعجاب في النفوس أن هذا المكان أصبح يرمز للحداثة والتطور، والفضل هنا يعود إلى أعمال الترميم المتواصلة التي أعادت أمجاد الماضي وليكن هذا الصرح من جديد مفخرة المدينة، تلك المدينة التي عرفت على مدى العصور بتناقضاتها. وقد خضعت أخيرا لحملة تجميل شاملة بسبب استضافة البلاد للألعاب الأولمبية. ومن هنا الحق يقال إن مدينة أثينا كانت على موعد مع التاريخ مرة أخرى عندما نجحت وبتفوق في استضافة الالعاب بشهادة الجميع، على الرغم من تشكيك الجميع بقدرة المدينة على القيام بتلك المهمة نظرا للظروف الاقتصادية السيئة التي مرت بها اليونان. إلا أن اليونانيين أثبتوا للعالم أنهم على خطأ فقد كانت البلاد ممتلئة بالسياح من مختلف أنحاء العالم وتمكن الجميع من الاستمتاع بالألعاب الأولمبية. لطالما عرفت أثينا بعفويتها التي تصل إلى حد الفوضى لكن زيارة قصيرة للمدينة بعد الألعاب ستغير فكرتك عنها بدون شك. فقد أعيد تنظيم الشوارع العامة للمدينة والساحات والأسواق كما قامت السلطات بتنظيم حركة مواصلات النقل العام إلى مستوى يتناسب مع العبء التاريخي الذي تحمله مدينتهم. فقد ساعدت الطرق الحديثة على التغلب على الاختناقات المرورية التي تعاني منها المدينة وأصبح الانتقال من مكان إلى آخر أكثر سهولة من السابق، بينما خفت حدة التلوث البيئي الذي اشتهرت به أثينا خلال القرن العشرين. وأصبحت سهولة التنقل بين مناطق المدينة المختلفة و كذلك من الأرياف إلى وسط المدينة سواء بالسيارة الخاصة ام بالحافلات العمومية أمرا مهما في جذب العديد من السياح. كما أن المترو الذي يخترق أحياء المدينة ساعد السكان والزوار على حد سواء للانتقال إلى أجزاء جديدة من المدينة كان من الصعب عليهم الوصول اليها بسبب الازدحام المروري. كما أن عودة الترام الساحلي يمّكن الزائر من الذهاب إلى الشاطئ بسهولة أو الذهاب لتناول طعام العشاء في احد المطاعم الفاخرة بالقرب من المنطقة المزدهرة. ولم تقتصر جملة التحديثات على الطرق والمواصلات فحسب فقد تم إنعاش المسارح العامة والفنادق بشكل يتناغم مع روح العصر الحديث. ومن يتجول بين أحياء المدينة يرى أن الطابع العمراني للجزء الحديث منها ينسجم مع الطابع العمراني القديم الذي تشتهر به المدينة عن غيرها من مدن القارة الأوروبية. وقد تم تخصيص المناطق كل حسب نشاطه فالجزء الشمالي للمدينة أي ناحية كيسيفا أصبح مكان سكن ونقطة تجمع للأعداد الكبيرة من سكان أثينا. ومن ناحية أخرى تحولت منطقة كولوناكي مركزا عاما للتجارة والحياة الليلية، كما انتشرت المتاجر الكبيرة التي تبيع الماركات العالمية في الأماكن السياحية أمثال بلاكا وموناستيراكي.

التجديد والترميم في الفنادق: تم تجديد منطقة سوق مونستيراكي التي يباع فيها الأغراض القديمة. وقد شهدت هذه المدينة العريقة عملية تجديد وترميم للفنادق الراقية فيها لإكسابها طابعا عمرانيا أنيقا، وأكبر مثال على ذلك فندق سمير أميس في منطقة كيفيسيا. تعود اللمسات الإبداعية التي منحت لهذا الفندق أخيرا إلى إبداعات المهندس المعماري الشهير كريم راشد. وربما يقول البعض إن راشد قد بالغ في عملية ترميم وتجديد الفندق إلا انه يشكل مكانا مناسبا لقضاء شهر العسل. ويتميز هذا الفندق بتناسق ألوانه وتناغمها مع الجدران التي تبعث على الراحة والطمأنينة في النفس فهو يجمع بين الابتكار والرفاهية والألوان الزاهية، فزجاج الشرفات مزيج من الوردي الساطع والأخضر الخفيف. بينما تجد أن جدران الغرف اكتسبت اللون البرتقالي واللون الأخضر الفاتح كان من نصيب السجاد الذي يغطي الأرض كأنما يعانقها، ليتحول الفندق إلى متحف يحكي قصة تناغم الألوان وتناسقها. فندق سمير اميس موجود منذ زمن طويل إلا أن حركة التجديد التي مر بها والتي وصلت تكلفتها إلى نحو ستة عشر مليون دولار أميركي جاءت لتبين للعالم كيف احتضنت مدينة أثينا بجدارتها التاريخ، وأضافت في نفس الوقت بعض اللمسات الإبداعية التي زادت المكان بهاءا و نورا. لقد طال التجديد معظم معالم الحياة في أثينا القديمة والحديثة حتى أن مطاعم حديثة ارتبطت أسماؤها بالمشاهير قد فتحت أبوابها للسياح و سكان المدينة على حد سواء كمطعم بالثزار وهناك أيضا نادي دراغوستي في منطقة كولوناكي والذي يقال عنه إنه واحد من أفضل النوادي في أوروبا.

لقد طرأ تغيير كبير على مدينة أثينا خلال العشرة أعوام الماضية بعد أن تم اختيار المدينة بشكل رسمي لاستضافة الألعاب. لكن من المؤكد أن حملة التغيير على أثينا ليست بالجديدة فقد روت لنا كتب التاريخ كيف أن المدينة قد غيرت من شكلها وطابعها أكثر من مرة وفي عدة مناسبات. وكيف كانت قد حدثت خلال الحكم العثماني أو خلال الحكم الروماني للبلاد.

وعلى الرغم من حمى التغيير التي مرت بها البلاد خلال الحقبة الماضية إلا أنها لم تطل كنوزها التاريخية العمرانية التي تعود إلى العصر الذهبي الذي مرت به البلاد. ولا يخفى على احد أن اليونان كانت عاصمة الثقافة والحضارة في العالم لفترة طويلة وارتبط اسمها بالأساطير القديمة التي تحكي قصص الحب والتضحية. ومن المعالم التي ما زالت حاضرة في المدينة والتي يتوجب على كل من تطأ أقدامه أرض اليونان أن يزورها هو معبد هيفايستوس وكذلك هيكل الآلهة.

وإذا كان الزائر يبحث عن رحلة حقيقية تنقله من الماضي إلى الحاضر خلال خطوات قليلة فما عليه سوى أن يسلك المجاز الجديد الذي يبلغ طوله كيلو مترين ونصفا والذي يربط بين ماضي المدينة وحاضرها. فبينما يمكن للزائر أن يرمق بعينيه الصروح العمرانية القديمة يمكن له أن ينظر نحو الجهة الأخرى ليرى أثينا الحديثة ببناياتها التي تعانق السماء و شوارعها المنظمة و حركة مواصلاتها المنتظمة.