من «تايتانيك» إلى «كوين ماري الثانية» .. عندما تصبح الوسيلة هي الغاية

أسبوع في مدينة عائمة وراقية

TT

تقلع، مساء كل يوم سبت، سفينة «كاريبيان برنسس» (اميرة البحر الكاريبي) من ميناء فورت لوترديل (ولاية فلوريدا) في رحلة اسبوع كامل الى جزر البحر الكاريبي، وتحمل ثلاثة آلاف مسافر، وطاقم سفينة يتكون من اكثر من الف شخص (بمعدل شخص لراحة ثلاثة اشخاص). اذا كانت هذه السفينة مدينة، ستكون ربما اجمل مدن العالم، واكثرها حضارة، وارقاها سكانا، واعلاها تكلفة (مائة وخمسون دولارا في اليوم على الاقل).

لكنها، مثل المدن، مقسمة الى احياء. يعيش الذي يدفع مائة وخمسين دولارا في اليوم في غرفة صغيرة، ويعيش الذي يدفع ضعف ذلك في جناح كبير، يرى منه ماء المحيط الممتد الى ما لا نهاية. لكنهم كلهم يلتقون في ست قاعات طعام فاخرة، وثلاثة مسابح ضخمة، وقاعات سينما وتمثيل، ومجالس بيانو هادئة، وقاعات رقص صاخبة، وغرف تدليك وحمامات بخار. هذه ليست اجازة عادية، يلبس فيها كل شخص ملابس خفيفة او ملابس سباحة. هذه، ايضا، اجازة رسمية، يحتاج فيها كل شخص الى ملابس سهرة رسمية، بدلات للرجال وفساتين طويلة للنساء. ويعتبر العشاء وجبة رسمية ولا يسمح بدخول كل من يلبس جينز او شورت او قميص. وتقام كل ليلة سهرات ومسرحيات وحفلات استقبال. ويقيم قبطان السفينة اكبر السهرات، ويشرب كل شخص نخب القبطان، ويسعد من يقدر على الحديث معه، او التقاط صورة معه، وسط هؤلاء الآلاف. ويوفر القبطان للجميع اطنانا من الكافيار والسالمون المدخن و«اللوبستر» (سرطان البحر). ويقدر الذي لم يتعود على اتيكيت السهرات والحفلات الراقية ان يلتحق بفصل دراسي مكثف وسريع داخل السفينة، ويستمع الى خبراء يشرحون طريقة تحية النساء، واكل ذيل «اللوبستر».

دروس اتيكيت: وتقدم السفينة فصول اتيكيت للاولاد والبنات الذين يريد منهم آباؤهم وامهاتهم تعلم مثل هذه الاشياء وهم في سن مبكرة. يجلس اولاد في بدلات انيقة، وبنات في فساتين طويلة تتدلى عليها شعورهن، حول مائدة يشرح فيها خبير الاتيكيت طريقة استعمال الشوك والسكاكين والملاعق الموضوعة امام كل واحدة، وطريقة نقل الطعام من الصحن الى الفم، وطريقة المضغ (بدون فم مفتوح). تقدم السفينة، خلال الاسبوع، دروسا عن اشياء مثل الاتيكيت، فن الطبخ، ادارة اعمال، كومبيوتر، استثمارات، رقص، غناء. وتستضيف مؤتمرات عن اشياء مثل البيئة والضمان الاجتماعي وعلم الفلك (حيث يشاهد المشتركون الكواكب والنجوم على سطح السفينة، في سماء صافية في منتصف الليل ).

يتكون طاقم السفينة من اكثر من الف شخص يعملون في مجالات مثل الطبخ والصيانة والادارة والهندسة والملاحة والنظافة وتوفير كل كبيرة وصغيرة يحتاج اليها الشخص (يعمل في القسم الطبي اطباء وممرضات وفنيو معمل). ويعيش هؤلاء في طابق منفصل عن طوابق السياح، وعندهم اندية وملاهي واحواض سباحة خاصة بهم. (معظم العمال من دول العالم الثالث لأن اجورهم اقل).

اكل دائم: ماذا يفعل ثلاثة آلاف شخص داخل سفينة لسبعة ايام؟ يأكلون ويتريضون، ويأكلون ويسبحون، ويأكلون وينامون، ويأكلون ويشترون. (الاكل مجانا، جزء من التذكرة). تقدم ست قاعات طعام ست وجبات في اليوم: فطور في الصباح، وساندوتشات في الضحى، وغداء في منتصف اليوم، وشاي وساندوتشات في العصر، وعشاء مع غروب الشمس، وبوفيه منتصف الليل حتى ساعات الصباح الاولى. هذا غير مقهى حوض السباحة الرئيسي، وغير طلبات الغرف المتوفرة نهارا وليلا.

وعندما رست السفينة في جزيرة صغيرة مهجورة تملكها شركة «برنسيس»، وانتقل الى الجزيرة اكثر من الف شخص لقضاء يوم كامل على البلاج، انتقل معهم مطعم عملاق متحرك لتقديم اطعمة ومشروبات، حتى جاء وقت العودة الى السفينة. وعندما قررت جماعات استكشاف الجزيرة، وفر لهم المطعم المتحرك كل الطعام الذي احتاجوا له (حتى لا يجدوا انفسهم بدون طعام لساعة واحدة، وتحدث كارثة كبرى!) «كروز»: متعة جديدة: قال عشرة في المائة فقط من الاميركيين إنهم سافروا في مثل واحدة من هذه السفن السياحية العملاقة («كروز»). لكن ثمانين في المائة قالوا إنهم يتمنون ان يفعلوا نفس الشيء، وذلك لأنهم يعتبرونها موضة جديدة، وسياحة راقية. واصبحت، لهذا، شركات السفن المحيطية واحدة من اكثر شركات السياحة ربحا في العالم. وتميل كل شركة او كل سفينة نحو خدمة شريحة معينة من السياح. قالت برندا كابوستا، محررة السياحة في مجلة «ايه ايه ايه» الاميركية، إن سفن شركة «برنسيس» تميل نحو خدمة العائلات («كاريبيان برنسيس» فيها شاشة سينما عملاقة بالقرب من حوض السباحة ليقدر كل واحد على ان يسبح ويشاهد فيلما في نفس الوقت). وتميل شركة كارنفال نحو المرح على طريقة لاس فيغاس (رغم ان كل سفينة تقريبا فيها صالة مقامرة). وتميل شركة اميركان هولاند نحو توفيرالهدوء والراحة (ربما يفضلها الهاربون من الصخب والازعاج، حتى ازعاج الاطفال).

كانت معظم السفن تبحر من فلوريدا، لكنها، أخيرا، بدأت تبحر من مدن مثل نيويورك وفلادلفيا وبوسطن ولوس أنجليس. وكان معظمها يزور جزر البحر الكاريبي، لكنها أخيرا، بدأت تزور اميركا الوسطى واميركا الجنوبية. وبدأت تعبر المحيط الهادي الى آسيا (ظلت السفن السياحية تعبر المحيط الهادي منذ اكثر من مائة سنة، منذ قبل تايتانيك)، وانضمت الى سفن اوروبية تزور موانىء اوروبا وافريقيا وآسيا واستراليا.

عشرة ملايين: توقع تيري ديل، رئيس الاتحاد الدولي للسفن السياحية، ان عشرة ملايين شخص سيسافرون بهذه السفن خلال السنة الحالية، وان العدد سيزيد خلال السنوات القليلة القادمة. واشار الى ان الاقبال زاد لأكثر من سبب: اولا، زاد بسبب الخوف من الارهاب وخطف الطائرات، وذلك لأن المسافر في هذه السفن يعيش داخل سفينة، ويخرج منها لزيارة مواقع سياحية ثم يعود. ثانيا، زاد بسبب استعمال موانئ قريبة من المدن الكبرى، وذلك لأن المسافر اصبح يقود سيارته حتى مكان رسو السفينة.

واشار ديل الى ميناء نورفولك (ولاية فرجيينا) الجديد لاستعمال السفن السياحية، وقال إن مائة الف شخص استعملوه في السنة الماضية، وذلك لأنه قريب من واشنطن العاصمة. واشار الى ميناء جديد لهذه السفن في نيويورك، وقال إن الهدف هو اغراء سكان نيويورك المزدحمة والباردة في الشتاء للهروب الى جزر بحر الكاريبي البعيدة الدافئة.

دوران البحر: وقال د. غراند تارلنغ، مسؤول الشؤون الصحية في الشركة التي تملك سفن برنسس وكنارد، إن الناس لم تعد تخاف من دوران البحر، والذي كان في الماضي من اسباب عدم الاقبال على هذا النوع من السياحة. واشار الى ان فن بناء السفن الحديثة عالج مشكلة ابحار السفن وسط امواج عالية، وجعل هذه السفن قادرة على المحافظة على توزانها، ووضع اجهزة إلكترونية في اماكن معينة تقيس نسبة الميل يمينا او يسارا.

وقال إن نسبة الذين يشتكون من دوران البحر اصبحت اقل من واحد في الالف، وإنه كلما زاد حجم السفينة، زادت مقاومتها للامواج.

ما هو سبب دوران البحر؟ قال د. تارلنغ إنه يحدث عندما تتلقى العينان والاذنان ردود فعل متناقضة لحركة معينة: ترى العينان، داخل غرفة في السفينة، ان الغرفة ثابتة، ولكن الاذنين (الداخليتين) تحسان بأن السفينة تتحرك. ولهذا، يفقد الشخص توازنه رغم انه داخل غرفة ثابتة، ولهذا يحس بالدوارن.

البرت بالين: يعتبر البرت بالين ان السفن السياحية المحيطية عندما بنيت، قبل مائة وخمسين سنة، عندما حول واحدة من سفنه التجارية التابعة لخطوط هامبيرج نيويورك الى سفينة سياحية، ازدهر هذا النوع من السفر لمائة سنة حتى انتشر استعمال الطائرات، لكنه ظل مفضلا كسفر شبه ارستقراطي بعد ان اصبحت بعض السفن مثل قصور عائمة، مثل تايتانيك (غرقت، قبل ثمانين سنة، بعد ان صدمت جبلا جليدا، واصبحت القصة، قبل اربع سنوات، فيلما سينمائيا ناجحا).

ويعتقد ان فيلم تايتانيك من اسباب الاقبال على هذا النوع من السياحة (طبعا، لا يريد اي مسافر ان تغرق سفينته، ولا تعرض اي سفينة الفيلم).

واصبحت بعض السفن السياحية فنادق في حالات الطوارئ. حلت، قبل سنتين، مشكلة قلة الفنادق في اثينا خلال دورة الالعاب الاولمبية هناك. وحلت، في السنة الماضية، مشكلة اقامة موظفي وعمال الاغاثة في مدينة نيو اورلينز (ولاية لويزيانا)، عندما اجتاحها اعصار كاترينا، واغرق جزءا كبيرا منها. تعاقدت الحكومة الاميركية مع شركة كارنفال لتوفير ثلاث سفن عملاقة، مقابل ثمانين مليون دولار لكل سفينة لستة اشهر (انتقد، فيما بعد، العقد لأن قيمته كانت عالية، ولأن السفن لم تستعمل كلها، ولان العقد لم يشمل الطعام والشراب، وهما، طبعا، الاغراء الاساسي).

كوين ماري الثانية: نزلت، قبل سنة، الى البحر السفينة كوين ماري الثانية لتكون اكبر السفن السياحية المحيطية (لن تكن ذلك في مايو (آيار)، عندما تنزل سفينة اكبر منها، فريدوم اوف سيز، التابعة لشركة رويال كاريبيان. سيرتفع عدد قاعات الطعام في هذه الى خمس عشرة، وعدد المسابح الى خمسة).

تبحر كوين ماري الثانية الآن بين ميامي والبحر الكاريبي، هاربة من جليد شمال المحيط الاطلسي، لكنها ستعود الى هناك مع نهاية الشتاء لتعمل في خطها الرئيسي بين نيويورك وساوثهامتون في بريطانيا، ولم تخل رحلتها الاولى بين فلوريدا وساوثهامتون من مشاكل، وذلك عندما وصلت الى شركتها تهديدات بأن ارهابيين سينسفونها، اما بزوارق صغيرة تقابلها في عرض البحر، او طائرات تخطف من فلوريدا وتتحطم عليها. وفرضت عليها اجراءات أمنية مشددة، لكن لم يحدث لها اي اذى. وتتبع لشركة كنارد، وخلفت كوين اليزابيث الثانية التي خلفت كوين ماري، اول ملكة للسفن السياحية، والتي عبرت المحيط الاطلسي منذ سنة 1936، حتى تقاعدت سنة 1967.

رغم ان كوين ماري الثانية اكبر السفن السياحية، حتى الآن، لكنها ليست اكبر السفن المحيطية. تفوز بهذه ناقلات البترول، التي يزن بعضها نصف مليون طن، بالمقارنة مع ثمانين الف طن للملكة.

الأكثر ترفا: معظم السفن السابقة الذكر، رغم ترف الابحار فيها، لا تجاري سفنا اصغر حجما واقل زحمة واكثر خصوصية وافضل خدمات (واعلى سعرا). مثل سفن راديسون سفن سيز، وتحمل الواحدة خمسمائة مسافر تقريبا. ومثل سفن سيبورن، وتحمل الواحدة مائتي مسافر فقط. هذه الاخيرة مثل زورق خاص عملاق به غرف لهذا العدد من الناس. وتطل كل غرفة على المحيط، ويخدم كل مسافر بمعدل واحد من طاقم السفينة، ويشرب كل شخص ما يريد من انواع الشراب بدون ان يدفع اي مبلغ اضافي.

لكن حتى هذه السفن الراقية لا تسلم من المشاكل، مثل ما حدث للسفينة سيبورن سبريت في نوفمبر (تشرين الثاني). ابحرت وعليها اكثر من مائتي شخص (معظمهم اميركيون، دفع كل واحد عشرة آلاف دولار) في رحلة اسبوعين من الاسكندرية في مصر الى جزيرة سيشيل في المحيط الهندي. اعترضت عصابة مسلحة في زورقين السفينة قبال ساحل الصومال، واطلقت عليها النار، لكن قبطان السفينة استعمل ابواقا عالية الصوت وكأن السفينة تطلق مدافع على الزورقين حتى هربا.

وتجوب الآن سفن عسكرية اميركية ساحل الصومال والقرن الافريقي لمراقبة القراصنة والارهابيين، ولحماية المسافرين على هذه السفن المحيطية، خوفا من انتكاسة هذا النوع الجديد من السياحة، بعد ان انتقل اليه كثير من السياح خوفا من الارهابيين والخاطفين الذين عرقلوا السفر بالطائرات.