سياحة المتاحف.. حيث تلتقي أميركا ناسها وتاريخها وحروبها وعوراتها

صباحات واشنطن الماطرة وثلوجها المتهاطلة

TT

على الرغم من ان صباحات واشنطن ما تزال ماطرة، لكن الناس يأتون إلى هنا أفواجاً في عطلات نهاية الأسبوع. يأتون للتفرج على المتاحف، بعضهم للفائدة وهناك من يبحث عن متعة، آخرون لتزجية الوقت.. والتسكع. نعم الاميركيون أيضاً يتسكعون خاصة إذا كانوا من «هسبانوفون» أي اولئك المتحدرين من أميركا اللاتينية. ذلك الصباح كانت الأمطار والثلوج تتبادل الأدوار. قليل من المطر ثم كثير من الثلوج. كثير من الأمطار وقليل من الثلوج. لكن ذلك لم يمنع الناس من التوافد على منطقة «ناشونال مآل» حيث توجد المتاحف. منطقة تبدأ من قرب مسلة واشنطن الشهيرة، التي ترمز إلى «الجندي المجهول» حتى مبنى الكابيتول حيث الكونغرس. شوارع فسيحة، فسيحة جدا. تاريخ اميركا وجغرافيتها وناسها وحيواناتها وإبداعاتها.. حروبها وفتراتها المريرة والصاخبة، نجاحتها وخيباتها، كل ذلك داخل هذه المتاحف التي تحتضنها بنايات رمادية ضخمة. الناس يأتون من كل أنحاء أميركا ومن خارجها لزيارة متاحف واشنطن. بعضهم دافعه الفضول:

تقول آنجيلا سانسون من ولاية بنسلفانيا «ازور واشنطن دي سي كثيراً لكن هذا الاسبوع قررت ان أتعرف على هذه المتاحف». > رغم سوء أحوال الطقس ؟

ـ في الداخل متوفر كل شيء... التدفئة والمطاعم والمقاهي. > ما هو المتحف الذي اعجبك؟

ـ متحف الفضاء (ثم أضافت كلمة واوووو وهي في اللهجة الاميركية تعبر عن دهشة بالغة). > ما الذي أعجبك فيه؟

ـ مشاهدة سفن الفضاء بنظارة ثلاثية الأبعاد. المتاحف متلاصقة متجاورة تبدأ بـ «المتحف الوطني للتاريخ الاميركي» ثم «متحف التاريخ الطبيعي» و«متحف الفضاء» و«المتحف الوطني لتاريخ الهنود الحمر» و«متحف الفن الأفريقي». هناك متاحف أخرى صغيرة وقاعات للفنون و«الحديقة الوطنية للحيوانات»، تتوسط كل ذلك قلعة «سميثونيا» التي شيدت عام 1855. داخل هذه القلعة مركز للارشادات. يقول الكتيب الذي يوزع في جميع المتاحف «العاملون في هذا المركز يجيبون على اسئلتك ويساعدونك لبرمجة جولتك». أجابوا عن اسئلتنا نعم، لكنني لم أطلب مساعدتهم في برمجة الجولة.

كثيرون يجرون أطفالهم في عربات صغيرة. هناك من يجر نفسه، أو بالاحرى يتدحرج. البدانة شيء مرغوب في أميركا، هكذا بدا لي، أما بدانة الاميركيات من اصل افريقي فقد تعدت كل التصورات. نساء مثل الشاحنات جعلنا من عيادات الرشاقة المنتشرة في هذه الاصقاع نشاطاً عديم الجدوى. لا أعرف حقيقة اذا كنا هؤلاء النساء فعلا يتحدرن من اصول افريقية. في افريقيا الهزال هو القاعدة. وجدت أحداهن تسير في ممرات متحف الفنون الافريقية. تمشي بتؤدة، وهل تستطيع غير ذلك؟ حين تسير تشعر ان جميع المساحات حولها قد امتلأت. هي مثل العبارة تعبر نهر صغيراً. اقتربت منها اقتراباً جعلني أشعر أنني فأر أمام شجرة بلوط. سألتها:

> رائع هذا المتحف اليس كذلك؟ ـ قالت بصوت فيه نبرة زلزال «آها... مدهش».

> لماذا زيارة المتحف هذا اليوم الماطر؟ ـ أنا اقيم في دي سي (يختصر الاميركيون اسم واشنطن دي سي فيقولون دي سي) جئت لزيارة متحف الفن الافريقي. > لكن لماذا هذا المتحف؟

ـ هناك معرض للفنون الافريقية سينتهي في 26 من هذا الشهر.

> هل لأنك من أصول افريقية حرصت على زيارة المعرض؟

ـ أفريقيا.. نحن لسنا من هناك. تاريخنا هنا. (عكس ما يعتقد، فإن الاميركيين الأفارقة لا يعجبهم ان ينتسبوا الى افريقيا على الرغم ان اجدادهم جاؤوا من هناك) > ما اسمك؟

ـ جاكلين ووب. > اسم جميل ! ليس كل الذين يأتون الى منطقة المتاحف، يجيئون الى هنا للتفرج على ما بداخلها. هناك من يأتي الى المتاحف ولا يتجول داخلها، بل يكتفي بمناجاة صديقته التي ترافقه، وبين الفينة والاخرى يقول كلاماً هامساً في أذنها، ربما يكون كلاماً هامساً جميلاً. يأتون للتفرج على الخلق ولتزجية الوقت، وتناول وجبة الغداء او المشروبات داخل المتحف. الدخول الى جميع المتاحف بالمجان وهي مفتوحة طوال الاسبوع، بل طوال السنة من العاشرة صباحاً وحتى الخامسة والنصف عصراً، لا يطرأ تغيير على هذا التوقيت سوى مرة واحدة في «عيد الكريسماس» حيث تفتح الابواب في الثامنة والنصف صباحاً. بين الفينة والاخرى تنظم حفلات موسيقية داخل هذه المتاحف.. واحياناً لقاءات شعرية. ذلك الصباح كان هناك لقاء لشعراء. نظمت إذاعة «صوت اميركا» لقاءً مع ضيوف متميزين. للاشارة فقط فإن راديو «صوت اميركا» ما يزال يذيع بكل اللغات الا بالعربية التي أصبح لها صوت آخر هو «راديو سوا». الشهية لتشييد متاحف جديدة ما تزال مفتوحة. آخر هذه المتاحف التي تجمع له حالياً التبرعات هو «متحف العبودية». الحملة انطلقت بالفعل لتشييد «متحف الولايات المتحدة الوطني لتاريخ العبودية». هذا المتحف ستتوسطه باخرة في الحجم الحقيقي لبواخر ذلك الزمان، تلك التي كانت تنقل الرجال والنساء والاطفال من السواحل الافريقية الى «الدنيا الجديدة». رسالة متأخرة للاعتذار عن مأساة إنسانية. كانت الأشجار الباسقة في منطقة المتاحف تئن بسبب طقس ماطر وندف من الثلج المتهاطل بدون معنى تتكدس فوق الشوارع وعلى الجنبات. ريح قوية تهب على الأشجار عارية الاغصان. الريح تخلق صوتاً حزيناً. المؤكد ان الاميركيين الافارقة ابتدعوا غناء شديد العذوبة شديد المرارة مليء بالغضب ومليء في الوقت نفسه بالحبور. ربما بسبب هذا الطقس. المؤكد كذلك أن المتحف الجديد سيجمع بين متناقضين «المرارة والحبور». > لكن ماذا يوجد في المتاحف؟ ما هي المعروضات ؟

اليس هذا موضوع آخر؟ الا يستحق أن نتوقف عند متحف.. تلو آخر؟