نادل أعمى.. وأطباق فرنسية في مطعم لندني لا يشبه سواه

عشاء في ظلام دامس

TT

في ظلام دامس وعتمة قاتمة تتناول عشاءك لتكون ليلتك مغامرة شيقة تختبر فيها حواسك، وتقدر من خلالها نعمة النظر، وتبهر بأداء الندل المكفوفين الذين يتجولون في الظلام بكل راحة ودقة ويكونون في خدمتك متى طلبتها منهم.

الفكرة فرنسية بالاصل، فبعد افتتاح أول فرع لمطعم «دان لو نوار» Dans le noir منذ حوالي السنتين في باريس، لاقت الفكرة نجاحا منقطع النظير، فزار المطعم بفرعه الفرنسي أكثر من 50 ألف شخصا لغاية اليوم، وبعدها تبنت الفكرة شركة بريطانية تدعى اثيك انفستمانت Ethic Investment واختارت منطقة فارينغدن في وسط لندن لتكون عنوان العشاء المميز في أجواء لا تشبه سواها وللتعامل مع موظفين مكفوفين يثبتون لك من خلال تلك التجربة الفريدة بأننا نحن المكفوفون وليسوا هم.

عندما سمعت عن هذا المكان، استغربت الفكرة، فكيف يمكن أن تأكل من دون أن ترى الاكل في الصحن وكيف يمكن أن تتناول العشاء وأنت لا ترى وجوه الاشخاص الساهرين معك.

في هذا المطعم لكل سؤال جواب وتنظيم عالي المستوى، فقد أخذت جميع الجوانب في الحسبان، في المطعم قسم مضاء Lit Lounge يستقبلك فيه العاملون عند وصولك، تتصفح فيه لائحة الطعام التي يحضرها أشهر الطباخين الفرنسيين (ليسوا مكفوفين)، وبعدها يقسم الحاضرون الى مجموعات، يرافق كل مجموعة من رواد المكان، نادل يتولى خدمتهم طيلة السهرة بحيث لا يجوز التنقل بين الطاولات، بعد الجلوس لتناول العشاء، حتى لا تشكل حركتك عائقا للندل المدربين على المشي بين الطاولات وفي أروقة المكان الذي يعرفونه عن ظهر قلب.

في حال أردت طلب أي طبق إضافي يكفي أن تنادي اسم النادل المسؤول عن مجموعتك، كما أنه لا يمكنك الذهاب الى الحمام من دون طلب الاذن من النادل فيرافقك الى مكان مضاء.

عندما تأكل في الظلام يراودك شعور غريب، الاكل طعمه مختلف بحيث أن حواسك الاخرى وحاسة التذوق خاصة، تعمل بشكل كبير لتعويض حاسة النظر، المأكولات الفرنسية المقدمة فيها الكثير من الروائح العطرة، أو ربما أنك تتنشق رائحة الاطباق لانك لا تراها، وقد تكون عملية الاكل صعبة في البداية ولكنك سرعان ما تتعود على الوضع وتتأقلم بالجو بعد دقائق معدودة، عندما سألت أحد العاملين هناك إذا ما حدث أن طلب أحد الزوار مغادرة المكان قبل الانتهاء من العشاء، فجاوبني «نعم»، ولكن هذه الحالة نادرة جدا، ففي حال شعرت بعدم الارتياح يمكنك التوجه الى الصالة المضاءة.

يتسع المكان لحوالي 80 شخصا والحجز المسبق ضروري جدا، المطعم يفتح أبوابه كل يوم ويجدر بك الاتصال لحجز الوقت المحدد، لان العشاء يكون على شكل مجموعات تختار نفس الوقت، المجموعة الاولى تبدأ عشاءها في تمام الساعة السابعة مساء والمجموعة الثانية تبدأ عند الساعة التاسعة مساء.

بالنسبة للاسعار فهي مناسبة جدا نسبة لنوعية المأكولات، فهي تتراوح بين 27 و34 جنيها استرلينيا للشخص الواحد وتحوي أكثر من طبق واحد، هذا الى جانب طبق الحلوى.

ويمنع في المطعم استعمال القداحات والهواتف المحمولة فتضع أغراضك داخل خزانة خاصة بك، وذلك حتى لا تفسد أجواء العتمة على الساهرين كما تقدم المشروبات في أكواب غير قابلة للكسر لتجنب حصول أي حوادث تؤذي الساهرين والندل.

وللسلامة العامة هناك إنارة مخفية في الاسقف، تضاء في حال حدوث أي طارئ، وذلك للحفاظ على صحة الزوار والعاملين، ففي حال وقوع حريق أو ما شابه تضاء الانوار مباشرة في جميع أنحاء المكان، كما توجد في جميع زوايا المطعم كاميرات تعمل بالاشعة تحت الحمراء، كما يمكنك طلب مأكولات خاصة بك في حال كنت تعاني من حساسية معينة فمن المستطاع تعديل بعض الاطباق لتتناسب مع صحة الزبون.

يستغرق العشاء مدة حوالي ساعة ونصف الساعة، بعدها يمكنك التوجه الى القسم المضاء من المكان، لمتابعة السهرة إذا أردت.

الفكرة رائعة جدا، ويتعدى المطعم كونه مكانا للاكل فقط، السهرة تجربة رائعة، والاهم من هذا كله هو تقدير العاملين في ذلك المكان، فغالبا ما يكون الكفيف عاطلا عن العمل، او تكون الاعمال التي يمكن أن يقوم بها محدودة جدا، غير أن هذا المطعم يقدم فرصة لا تقدر بثمن لاشخاص عاديين مثلنا يميزهم عنا أنهم لا يرون، والعبرة التي نتعلمها بعد زيارة هذا المطعم هو أن الكفيف والمبصر يتساويان، لا بل يكون الكفيف هو ملك الظلام لانه يكون مرتاحا جدا في عمله، فعندما سألت أحد العاملين عن رأيه بهذه الفكرة، أبدى سروره العميق وقال بأن المطعم هو جنة المكفوفين لان الظلام يشكل المكان الانسب للعمل للاشخاص غير المبصرين، كما أن المطعم آخذ في التوسع، فيعمل فيه حاليا 8 ندل على أمل أن يصل العدد الى 12 قريبا جدا، ما يعطي الفرصة والامل لهؤلاء الناس للعمل.

يعتبرDans le noir من الاماكن الجديدة والمهمة في لندن، ففي أيامنا هذه، زيارة المطاعم المميزة تكون بمثابة زيارة معالم سياحية مهمة في أي عاصمة من عواصم العالم، فلقد التقيت العديد من السياح في ذلك المكان من جميع الجنسيات جاؤوا خصيصا لاختبار ليلة غير عادية وسمعوا عنه من خلال بعض الاصحاب ومن أناس اختبروا المكان في فرعه الفرنسي.

وقبل أن نتوجه الى الغرفة المظلمة كانت لدي الفرصة للتعرف على بعض الوجوه التي سوف تشاركني العشاء، فتبادلنا الحديث فقالت إحداهن مازحة: «الفكرة تناسب الجنس اللطيف، فلا داعي للتنبه لمسألة المظهر والهندام فلا احد يراك وأنت تأكلين».

وبشهادة ذواقة الاكل فإن الاكل في الظلام يجعلك تستمتع أكثر بطعم المأكولات ورائحتها، كما أن التجربة بحد ذاتها، فريدة من نوعها فعلا، خاصة عندما ترى شخصا غير مبصر يدلك على الطريق ويرشدك الى طاولتك، انصح الجميع بزيارة هذا المطعم الذي نتعلم منه عبرة وفيه فلسفة خاصة يصعب تفسيرها من دون معايشتها.

للحجز والاستعلام:

www.danslenoir.com رقم الهاتف: 02072531100