رحلة قارئ

أريحا المنخفضة تقاوم حصارها المرتفع

TT

> تتمدد مدينة أريحا التاريخية على أخفض نقطة أرض في العالم قاطبة بعمق 350 متراً تحت سطح البحر وتمتاز بدفئها شتاء ووفرة مياهها وامتداد بساتينها وكثافة الأوكسجين على سطحها. بدأت رحلتنا من مدينة رام الله التي ترتفع نحو ثمانمائة متر عن سطح البحر باتجاه الجنوب الشرقي لنطل على أقدم مدينة في التاريخ تستلقي على حافة أخفض بحار العالم: البحر الميت، تابعنا المسار شمالا مرة أخرى عند نهايات جبال رام الله قبل بدء النزول العميق عبر مفترق طريق المعرجات على الأطراف الشرقية لبلدة رمون.. وقد تجاوزت المسافة بين حاجزي قلنديا ورمون عشرين كيلومترا.

شق البريطانيون قديما طريق المعرجات لتشكل أقصر مسافة بين الساحل الفلسطيني غربا والاغوار شرقا، وهي طريق ضيقة وملتوية جدا وخطرة. كانت المركبة الصغيرة تتهاوى برعب فوق الجبال الصخرية والوديان الجافة، فيما كان الركاب يدققون النظر بالمشاهد الطبيعية المنحوتة في الصخر .. بعضهم كان قلقاً من تعثر العجلات خوفا من السقوط في المنحدرات الخطرة، وبعضهم أبدى اعجاباً في اللوحات الطبيعية المنحوتة بجمال نادر على تلال متميزة تليق بمشهد سينمائي، وأكد المختصون أن المكان برمته عاش مغموراً تحت الماء آلاف السنين، وقد بدا ذلك بوضوح في تشكيلات الصخور والكثبان الرملية الصلبة.

في المدخل الشمالي للمدينة زرت موقعا سياحيا جميلا، لكن المياه المتدفقة لم توظف بشكل جيد، بدت معظم النباتات عطشى وقد تبدد لونها الأخضر وهي تنظر للمياه الجارية بقربها.. غادرت المكان أبحث عن تفسير لسر هذا التناقض بين وفرة المياه الصافية والجارية بسرعة داخل القنوات الاسمنتية وبين تردي حالة المكان؟! في زيارات سريعة خاطفة لثلاثة عشر متنزها ومطعما وموقعا سياحيا، اتضح أن بعضها استأنف عملية الترميم استعدادا لاستقبال الزوار، رغم أن الموسم السياحي في أريحا يقترب من نهايته مع حلول فصل الصيف. وشكلت حافلات طلبة المدارس القادمة من شمال ووسط وجنوب الضفة آخر المجموعات السياحية للموسم الحالي.

معلم بارز: «قصر هشام» أحد المعالم البارزة لمدينة القمر ويصعب زيارتها دون طرق بابه، كان مرشدنا السياحي تحت شمس ريحاوية حارقة، يقلب معلومات تاريخية وفيرة عن القصر الذي كان يتربع سيدا في المكان منذ 13 قرناً، استغرق بناؤه سنوات كثيرة ليستخدم مشتى للخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، ولم يصمد القصر سوى خمس سنوات عندما واجه اختبار زلزال عنيف ضرب المنطقة فحّوله الى رماد.

وبجوار القصر الأثري أقيم مشغل سيراميك حديث لإعادة ترميم الفسيفساء بتمويل ايطالي وخبرة ايطالية، كانت القاعة في المشغل تكتظ بالأعمال الفسيفسائية الجميلة من أجل تركيبها في أماكنها، حيث تعرضت للتلف.

من موقع تل السلطان الأثري، الذي أشرف منه المسيح عليه الصلاة والسلام على نهر الاردن، اقتحمنا جبل قرنطل المقدس بعربات «التلفريك» الحديثة.. كانت العربات الثلاث معلقة على حبل معدني تتأرجح على ارتفاع مائة متر وسط المسافة الممتدة بين تل السلطان وسفح جبل قرنطل والبالغة نحو 1300 متر، اضطر البعض للمغامرة في تجربته الاولى والإقلاع عبر التلفريك، أحدهم اعترف بخوفه وأغمض عينيه بل تصبب عرقاً عندما كان يتساءل آخر عن مصيرنا لو انقطع الحبل المعدني الذي تتأرجح عليه العربات.

حطت العربات الثلاث من رحلتها القصيرة في جبل قرنطل التاريخي المحفور في قلب تجويف صخري، وعلى مقربة منه تم حديثا تشييد مطعم فاخر، حيث تناولنا وجبة غداء شهية ونحن نطل على سهل أخضر للمدينة.

قبل الانطلاق عائدين من الجبل الى الأرض، استمعنا بايجاز عن خط عربات التلفريك والذي تعثر منذ بدء العدوان الاسرائيلي (ايلول 2000)، وأبدى صاحب المطعم أملاً في الاستقرار لضمان عودة السياحة الداخلية.. عدنا الى الأرض بالعربات الصغيرة الحمراء وتوقفنا إجباريا عدة دقائق في منتصف المسافة بين التل والجبل حتى ينزل ويصعد ركاب العربات الثلاث المتلاصقة في تل السلطان وجبل قرنطل.

اتجهنا الى القرية السياحية، ثم حديقة الباباي ونادي الفروسية والحديقة الاسبانية والروضة والخيام والوادي الأخضر والشلال والرابية.. وفي خاتمة الزيارات كان فندق «الانتركونتنيال»، كانت زيارة خاطفة متناقضة مع روعة المكان الذي يتطلب وقتاً للتدقيق، تجولنا سريعا بين المسابح والملاعب ثم تحركنا مساء باتجاه الغرب الى رام الله عبر بلدة حزما. كانت رحلة استكشافية رائعة، ويمكن القول في نهاية المشوار إن السياحة الداخلية في تلك المنطقة أكثر من جميلة، فكل ما هي بحاجة اليه هو الاستقرار الأمني والقيام ببعض الإجراءات كضبط الاسعار ومراقبة مستوى النظافة في بعض المواقع .. ومع ذلك بالإمكان الآن قهر هذه العقبات والقيام برحلات جماعية أو أسرية الى مدينة القمر التي تتنفس من رئة البحر الميت النابض بالحياة.