غويانا جنة الأمازون.. تكشف عن خباياها

شلالات وأدغال تنطق بلغة الطبيعة المنقرضة

TT

جلستُ عند نافذة الفندق متأملا نهر ديمارا، أحد الشرايين الكثيرة التي تغذي جورج تاون، عاصمة غويانا. لم يلزمني الكثير من التفكير لأعرف لماذا أطلق الرحالة والمستكشفون على هذه الدولة الصغيرة في حجمها، الكبيرة في إمكانياتها «بلاد الألدورادو» أو «العالم المفقود». مرهقا كنت بعد رحلة طويلة من فنزويلا لم تغب عنها المفاجآت، وبعض التعقيدات، وهذا أمر طبيعي في أمريكا الجنوبية، لكنني كنت ممتلئا حماسا ونشاطا لاكتشف أنحاء المدينة الجملية، قبل أن انطلق في رحلة عبر غابات الأمازون. الهدوء يخيم على أنحاء المدينة، لا يعكر صفوه سوى غناء طائر المكاي الملون وصفير السفن الراسية عند الميناء. الباعة جالسون عند حافة الطريق بهدوء، لا يزعجون المارة بإلحاحهم وصراخهم المتواصل، كما هو الأمر في العديد من دول أمريكا اللاتينية. اعتقدت لوهلة أنني أنظهر إلى لوحة متحركة خطها فنان كبير، فكل عناصر الجمال موجودة: من مياه البحر المطل من بعيد، والنهر الممزوج بأعشاب الأمازون، والبيوت الخشبية القديمة يقف عند حافتها رجال ونساء يتجاذبون أطراف الحديث بينما يقوم البحارة بإنزال القمح والأرز من السفينة الراسية على مشارف المياه.

لم يسعني الجلوس محبوسا عن الهواء الطلق وبعيدا عن الناس خلف زجاج النافذة. هرعت هائما على وجهي بين شوارع المدينة المزينة بالأشجار العملاقة والحدائق الغناء. مر الوقت دون أن أشعر به، فكل بناية وشارع تحكي قصة ما. فقد مر على هذه البلاد عبر تاريخها الكثير من المآسي والويلات على يد المستعمرين الذين استنزفوا البلاد واستعبدوا السكان عشرات السنين وتقاتل أهلها سنين طويلة قبل أن يعتادوا العيش سوية.

لن يحتاج الزائر لكتاب تاريخ أو دليل سياحي حذق لمعرفة أن هذه المدينة الواقعة على حافة المحيط الأطلسي كانت مستعمرة أوروبية. فبصمتهم واضحة في كل مكان، إن لم يكن في البنايات والحدائق المزدانة بكل ما لذ وطاب، فبزي رجال الشرطة المترجلين والشوارع المقسمة بدقة وعناية والبنايات البيضاء والرمادية المصممة على شكل كاتيدرائيات كتلك التي تجدها في لندن وأمستردام. بالفعل فقد كانت غويانا محط أطماع الهولنديين ومن بعدهم الإنجليز. ولا أجد في الأمر غرابة على الإطلاق، فما تحويه البلاد من كنوز طبيعية يجعلها محط أطماع أي كان. ففي غابات الأمازون، والتي تشكل جزءا كبيرا من المساحة الكلية للبلاد، يوجد الكثير من الحجارة الكريمة مثل الذهب والماس. إلا أن الإنجليز فيما مضى استغلوها لزراعة قصب السكر ونقله إلى بريطانيا. ومن أجل ذلك فقد جلبوا معهم العمال من الهند وكذلك العبيد من أفريقيا لحرث الأرض وقلع الزرع. بعد جولة صغيرة وجدت نفسي واقفا أمام كاتيدرائية سانت جورج الخشبية. كان المشهد جميلا فقد بدت الكاتيدرائية المحاطة بالأشجار كأنها ممتدة من السماء. ووسط انغماسي بالتأمل بهذا المبنى الأثري اقترب مني رجل هندي الملامح وحياني بالإنجليزية، لكنني ما أن أدركت أنه من الهند حتى أجبته بالأوردو محييا. اندهش الرجل وأطلق العنان لنفسه بالحديث معي بلغته الأم، لم أشأ أن أخيب ظنه وأخبره أنني لا أعرف إلا بعض الكلمات القليلة خاصة أنه كان يتحدث والابتسامة لا تغادر محياه الهزيل، فتركته يتحدث بانسياب دون أن أعرف نصف ما قاله. أقنعت الرجل، الذي قال لي أن اسمه عبد الرحمن، بالتحدث بالإنجليزية، ولم يتردد. قال لي عبد الرحمن بكل فخر إن كاتيدرائية سانت جورج هي أعلى مبنى خشبي في العالم. تحدث عبد الرحمن، الذي ولد وترعرع في غويانا، عن بلده الجديد بكل فخر. فهو لا يعرف شيئا عن وطنه الأم سوى ما يراه عبر أفلام هوليوود. أخذ يشرح لي كم أن غويانا بلد نادر يصعب أن يجد الشخص مثله في العالم، خاصة في أمريكا الجنوبية. فالجمال الطبيعي لا يضاهى، بوجود العشرات من الأنهر والغابات الاستوائية الكثيفة، التي لم تسمح لضوء الشمس بالتسلل إلى الأرض الممتلئة بملايين الحيوانات البرية التي انقرضت منذ زمن في العديد من الدول. يعيش بين غابات غويانا الفهد الأسود النادر بينما تسبح سمكة ارابايما، أضخم سمكة مياه عذبة في العالم، في مياه أنهرها بكل حرية منذ ملايين السنين. فوق هذا كله تبقى غويانا واحدة من أكثر بلاد القارة الفقيرة أمانا، فعدد السكان لا يتعدى مليون ونصف المليون نسمة، بالإضافة إلى بعض الآلاف من السكان الأصليين القاطنين بين الأدغال، الذين فضلوا عدم الاختلاط بالعالم الخارجي. كما أن سكان البلاد ذوي الأصول الهندية والأفريقية والصينية والهنود الحمر تعلموا على مدى عشرات السنين التعايش في سلام ووئام، بعد أن مروا بنزاعات طائفية غير مجدية. كل هذا جعل غويانا جنة آمنة للسياح الراغبين بتمضية بعض الوقت وسط أحضان الطبيعة. أصر عبد الرحمن أن يصطحبني لمنزله لتناول طعام الغداء، فلم أتردد بالموافقة، لعلمي أنني سأتذوق أحد الأطباق الهندية، وعلى الأرجح سيكون البرياني. لم يخب ظني بالغداء ولا رحابة الصدر التي وجدتها عند عبد الرحمن وغيره من سكان غويانا. صحيح أنهم يملكون القليل من المادة لتقديمها، لكن كرمهم وابتساماتهم المتواصلة تجعلهم أغنى الأغنياء في نظري.

كان هناك الكثير لمشاهدته في غويانا، لكنني ولضيق الوقت وصعوبة الانتقال من مكان إلى آخر اضطررت أن أحصر اختياراتي بين أنهر ديماريرا واسكويبو وبيربيس، فهذه الأنهر الثلاثة تعتبر كخطوط مترو تربط بين أجزاء البلاد المترامية. ماذا تزور في غويانا؟

في اليوم الأول لم أتردد في تحديد وجهتي، إنها شلالات كيتور. كيف لا وقد جئت لغويانا لمشاهدتها.

قد تكون شلالات نياغارا هي الأشهر في العالم، لكن شلالات كيتور تفوقها جمالا وسحرا عشرات المرات، حتى أصبحت جزءا رئيسيا من برنامج أي سائح يزور غويانا. وبلغة الأرقام فإن شلالات كيتور أعلى من شلالات نياغارا بخمس مرات. تتشكل هذه الشلالات بعد أن يهبط نهر بوتارو البالغ عرضه 400 قدم (المتفرع من نهر اسكويبو) مسافة 740 قدما محدثا ضجيجا هائلا متواصلا يعكس مدى قوة الطبيعة وقدرتها على صنع المعجزات. عادة ما يواجه السائح خيارين لا ثالث لهما للوصول إلى الشلال: إما بواسطة الطائرة وتستغرق الرحلة ثلاث ساعات وإما مشيا على الأقدام بين أغصان الغابة الكثيفة في رحلة تستمر خمسة أيام. اختيار الطائرة بالنسبة لي مستحيل، فكيف لي أن أشاهد الطبيعة الساحرة واستمتع بها من خلف شباك زجاجي وسط ضجيج محرك الطائرة؟ بالتأكيد كانت رحلة الطائرة ستفقدني التجربة التي أملت أن أخوضها. لكنني كنت متعبا أيضا بعد رحلة بين غابات الأمازون قد أنهيتها في البرازيل، فلم أرغب بالسير كثيرا. اقترح عبد الرحمن أن يصطحبني وبعض الأصدقاء في قارب خشبي، لكن علينا أن نستقل القارب من بلدة «المهدية» على بعد عشر ساعات بالحافلة من جورج تاون. لم تكن الطريق معبدة بشكل مثالي، لكنني تعودت عليها، حتى أصبحت المطبات جزءا من المتعة، وكلما ازدادت سوءا، أصبحت مصدرا للضحك واللهو. ركب معنا في الحافلة عدد من سكان مدينة المهدية، والتي تحولت من مدينة مناجم للذهب إلى معلم سياحي يحكي تاريخ البلاد. غالبية سكانها من الهنود، سواء من المسلمين أو الهندوس. لم يفارق الحافلة على طول طريقها أصوات القردة التي تختلس النظر من بين أغصان الغابة وطائر المكاو بألوانه الزرقاء والصفراء وكذلك المئات، بل الآلاف من الطيور الملونة الجميلة التي تعيش في جنتها المعزولة. تناولنا طعام الغداء برفقة أحد أصدقاء عبد الرحمن الذي يعمل في متجر هناك، كما قد أمّن لنا القارب الذي سينقلنا عبر نهر بوتارو.

في الصباح التالي كنا على موعد مع غابة الأمازون من جديد. مهما ذهبت إلى هناك فلن تكل وتمل. كل لحظة بين هذه الأدغال هي لحظة ولادة ذاكرة جديدة في محياك. الحياة كما تخيلناها قبل ملايين السنين ما زالت موجودة عند أسفل أغصان الأشجار وتحت سطح الماء، وطبعا في الهواء الطلق. هنا يقف الإنسان مشاهدا لا أكثر، زائرا يحترم قواعد اللعبة، لا يطأ مكانا لا يسمح له به، ولا يعبث بشيء قبل التأكد منه، فكل حيوان هنا قد يكون مفترسا، بغض النظر عن حجمه ولونه، هذا ما نبهني إليه عبد الرحمن، بعد أن شاهد ضفدعا صغيرا يقفز بالقرب من حافة النهر. تبين أن هذا الضفدع قادر على طرح بقرة خلال ثوان، وأن سمه الزعاف الذي ينفثه أقوى من سم العقرب بخمس مرات. وسط الهدوء الموشوب بالحذر ظهرت فقاعة كبيرة بالقرب من القارب، وعلى الفور، كما كنت قد اعتقدت، كانت أسماك البيرانا تمزق إحدى فريساتها تحت الماء. هذه هي الأمازون، لا تعرف من أين ومتى تأتيك المفاجأة!! قبيل المساء وصلنا عند منطقة عادة ما يخيم فيها مرتادو النهر استعدادا ليوم ثان في الغابة قرب شلالات أماتوك. في اليوم التالي كان علينا حمل القارب فوق الشلال حتى نواصل الطريق بعكس اتجاه سير النهر. استمرت هذه الرحلة يوما كاملا أيضا انتهت عند حافة شلالات واراتوك. كان الشلال هائلا حتى اعتقدت أنني وصلت، لكن عبد الرحمن سخر مني قائلا «كيف تهين شلال كيتور هكذا، ما تراه مجرد صورة مصغرة للمشهد الحقيقي». في اليوم التالي كنت مستعدا للمشي، فقد تعبت من الجلوس بين أخشاب القارب، لكنني لم أدرك أنني سأمشي النهار كله قبل أن نخيم وسط الغابة استعدادا ليومنا الحافل. قال لي عبد الرحمن عندها لا تقلق «لقد وصلنا». وفي الصباح التالي اكتشفت أن علينا المسير أربع ساعات أخرى، وهذه المرة الى أعلى الجبل!! قلت لنفسي ساخرا كل هذا من أجل أن ننظر الى حفنة ماء تسقط من أعلى إلى الأسفل!!!. بعد أربع ساعات مضنية ومتعبة سمعت صوت هدير ضخم كأن الأرض انشقت إلى نصفين علمت حينها أنني وصلت إلى شلالات كيتور، المكان الذي حلمت به طوال الأيام الماضية. كان المشهد يستحق العناء والتعب وقرصات البعوض والحشرات والطعام المعلب وحتى الإسهال الذي أصابني في الطريق، بل أكثر من ذلك بكثير. في بعض الأوقات، يقف الإنسان عند مشهد للطبيعة محتارا، أيشعر بالحزن أم يشعر بالفخر، أيبكي أم يضحك، أيجلس أم يقف؟ في لحظة ما يتوقف كل شيء عن فعل أي شيء وينحصر العالم في إطار صغير هو المشهد الذي أمامه. شاهدت ذلك من قبل أمام جبال الهيمالايا، وفي جزر المحيط الهندي والآن أمر بنفس التجربة. هنا يعجز الكلام عن الوصف ما تراه العين. فكل ما شاهدته عبارة عن تجربة مترابطة لا يمكن تجزئتها ووصفها. شعور عظمة الطبيعة يتجسد في الهواء والماء، وفي الصوت والصورة في نسيم الهواء وانعكاس ضوء الشمس على سطح الماء. كانت التجربة رائعة وتستحق كل التعب الذي مررت به. يا لها من دولة رائعة... والمزيد يأتي لاحقا.