الأميركيون والسياح يندلقون نحو «ألكسندريا» بحثا عن الهواء المنعش

مدينة أميركية انبثقت بعد صفقة تبغ

TT

صيف لاهب في الساحل الشرقي من الولايات المتحدة. قطعاً هو «آب اللهاب». الناس تبحث عن نسمة هواء باردة. كثيرون جاءوا الى هنا، الى شاطئ نهر بوتماك، هروباً من الحر القائظ. قليلون جداً جاءوا يتفرجون على الكثيرين.. كنت واحداً من بين هذه القلة.

اميركيون من واشنطن وفرجينيا ومن خارجهما ايضا.. سياح من خارج «القارة الاميركية» اندلقوا نحو الشاطئ يتنسمون الصيف في واحدة من المدن التاريخية في بلد يشكو قلة التاريخ وكثرة الجغرافيا. عازفون وندل (جمع نادل) يتكسبون من كل هؤلاء.

لكن ما هي هذه الاسكندرية التي تستهوي الاميركيين والسياح؟ كثيرون في عالمنا العربي يعتقدون ان الاسم مشتق من «الاسكندرية» التي يحتضنها بحر ابيض متوسط، يزمجر هذه الايام، لكن لا علاقة بين «الكسندريا» و «الاسكندرية» الا في النطق. في القرن السابع عشر رست على شاطئ الكسندريا سفينة يقودها الكابتن روبرت هوسينغ، الذي حصل من ملك بريطانيا ايامئذ الملك تشارلز الثاني على قطعة أرض هبة تبلغ مساحتها ستة آلاف هيكتار في المنطقة لانه استطاع ان ينقل 120 شخصاً من انجلترا الى الساحل الاميركي في فرجينيا، وهي الطلائع الاولى من الانجليز الذي شرعوا في زراعة التبغ في فرجينيا وبفضله ازدهرت الولاية الى اليوم على الرغم من التضييق الذي طال التدخين في كل اميركا، لكن فرجينيا تتساهل مع المدخنين بسبب هذا الارث التاريخي، ارث جعل اعلانات التدخين عندما كانت مسموحة تقول: «دخن التبغ الفرجيني الفاخر»، الآن لم يعد هناك «تدخين فاخر او غير فاخر».

الضابط البريطاني هوسينغ اراد ان يستثمر الهبة بسرعة قياسية، لذلك باع الارض الى جون الكسندر لقاء ستة آلاف رطل من التبغ، شرع الكسندر في بناء المدينة عام 1749 فوق تلك الارض واطلق عليها اسمه، لذا يطلق عليها اليوم «الكسندريا القديمة» او «المدينة القديمة».

سياح انجليز كثيرون يزورون الكسندريا ويتجولون في «كنغ ستريت» وهو الشارع الرئيسي في المدينة الذي يعج بكل شيء، يتفرجون على المبنى التاريخي الباذخ، واصبح يعرف باسم «قاعة مدينة الكسندريا» او يقفون صفوفاً طويلة تتلوى للتفرج على المنزل الفخم الذي كان يسكن فيه جون الكسندر. الانجليز يتذكرون تاريخهم هنا.

معظم السياح يزورون هذه المدينة للتفرج على أنماط منقرضة من «البناء الكولينالي». منازل شيدت من طابق او طابقين تحمل بصمات معمار انجليزي عتيق. يصل عدد السياح الذين يزورون الكسندريا من خارج الولايات المتحدة حوالي مليون ونصف المليون سائح في السنة.

هناك أربعة أشياء تجذب هؤلاء:

> الرحلات النهرية في نهر بوتماك، حيث تقع المدينة في الضفة الغربية من النهر على بعد حوالي تسعة كيلومترات جنوب العاصمة واشنطن، وهي رحلات تتم عبر قوارب وعبارات حديثة مجهزة تجهيزاً عصريا ًوبداخلها مطاعم وحانات.. وموسيقى.

> أما من يندلقون في شوارع الكسندريا القديمة، فهم اولئك الذين يستهويهم المعمار الفريد، بنايات وبيوت تجمع ما بين «الاصالة والمعاصرة»، كما يقول نقاد الأدب. واللافت في هذه البيوت هو نوعية الابواب والنوافذ. بعض الابواب عمرها من عمر المدينة نفسها.

> الفئة الثالثة اولئك الذين تستهويهم موسيقى الشوارع. ذلك المساء، وكان مساءً غائماً وطويلاً استطاع ان يقضم الكثير من الوقت الذي يفترض ان «يرخي فيه الليل علينا بسدوله»، كما كان شأن ليل امرئ القيس، توزع عدد من الموسيقيين في بعض اركان ونواصي وشوارع المدينة.

عازف افريقي على الغيتار، يدندن بأهازيج افريقية قرب النافورة الرئيسية، يرتدي ثياباً فضفاضة مزركشة كما هو شأن الافارقة، ويرطن بكلمات لا يفهمها المارة، لكنهم يشجعونه ببعض «الوريقات الخضراء»... ذلك ما يبحث عنه بالتأكيد، لا يهم الناس ما يقول حتى لو كان يشتمهم المهم انهم يجودون عليه بقليل من المال، المؤكد انه يجمع الحصيلة ويذهب ليرسل منها جزءا الى قرية نائية في مجاهل القارة الافريقية، ولسان حاله يقول: يجود علينا الاكرمون بمالهم ونحن من مال الاكرمين نجود.

وفي طرف شارع «كنغ ستريت»، وقف عازفان آسيوي.. صيني على ما يبدو، كل من تحولت عينيه الى خط منحن لا بد ان يكون صينياً. كان هذا «الصيني» يعزف على آلة وترية صينية الحاناً شجية، الى جانبه كان هناك اميركي اسود ينفخ في الناي، الحانه مثل الحان الاميركيين السود، غناء شديد العذوبة شديد المرارة، مليئة بالغضب، ومليئة في الوقت نفسه بالحبور.

قرب الشاطئ كان هناك موسيقيان كذلك، اميركي يعزف على غيتار وهو جالس القرفصاء، لم يكن يقول شيئاً بل «يدندن» فقط.

وحيث توجد القوارب والعبارات، رجل يعزف على آلته الموسيقية وهي عبارة عن كاسات نصف ممتلئة بالماء مرصوصة فوق طاولة، تخرج لحناً جميلاً، لكن ليس المهم هو اللحن، انما المهم هو كيف يمكن العزف على كاسات نصف ممتلئة بالماء، ينبعث من رنينها وبضربات خفية لحن، بل الحان.

> الفئة الرابعة من الذين يزورون الكسندريا هم اولئك الذين يأتون الى المدينة ليأكلوا أكلات شهية في مطاعم فاضت كراسيها وطاولاتها وزحفت نحو الشارع، بالطبع، لم يكن ممكناً وصف أكل لم نتذوقه، فواتير مطاعم الكسندريا.. تبعثر ميزانية شهر بأكمله. لذلك ممنوع الاقتراب مسموح التصوير! أهم ما يلفت الانتباه ان معظم النادلات شابات يافعات، دعتنا واحدة لزيارة مطعمها وهي تقول: «جربوا لمرة واحدة وبعدها ستزوروننا يومياً»، كانت تضحك، لها غمازتان على خديها تفعلان الأعاجيب عندما تضحك.

لم نجرب.