مالطا.. عاصمتها سفينة تمخر عباب البحر

رحلة خاصة إلى المدينة الصامتة

TT

بعد صلاة الظهر في مسجد الزعيم الليبي، العقيد معمر القذافي، في العاصمة المالطية فاليتا، قلت لإمام المسجد «تؤذن في مالطا!» فابتسم، وقال لي «الحمد الله الآن لدينا مسجد وروضة للأطفال ومدرسة إعدادية، وهي ليست فقط للمسلمين بل لمعظم الطلاب، وحتى المعلمين من المسيحيين.. والهدف من ذلك هو التقارب والتسامح بين الأديان».. للمرة الأولى أفهم المثل القائل «كَمَنْ يؤذن في مالطا»، أي عندما لا يسمعُكَ أحد أو لا يعيرك اهتماما. ورغم حكم الأتراك العثمانيين البلاد 221 عاماً، فإن الحرب الصليبية أزالت كل شيء له صلة بالإسلام والعرب والأتراك، وانتشرت في العاصمة فاليتا لوحدها 32 كنيسة، مما جعل مالطا أكثر مسيحية، فعندما يُؤذنُ فيها للصلاة لا يسمعك أحدٌ.

الموقع الاستراتيجي لمالطا بين القارتين الأفريقية والأوروبية جعل منها ملتقى طرق للتاريخ، إذ تبعد عن صقلية الإيطالية 60 ميلا جنوبا، وعن ليبيا 220 ميلا شمالاً.

عند وصولك إليها عبر البحر أو الجو، تبدو لك مالطا للوهلة الاول جافة، ولكن عندما تقترب منها تشاهد ارضا حجرية ذات وديان خضراء وعدد من أبراج الكنائس العالية والمبنية بالحجر، تشبه المِعمار الروماني القديم، إضافة إلى عدد كبير من الموانئ المطلة على البحر الابيض المتوسط، ومراكب الصيد الملونة بالألوان الزاهية التي تجذب النظر للوهلة الأولى.

مالطا عبارة عن ثلاث جزر مأهولة بالسكان هي: مالطا، غوزو، وكومينو.. والجزر غير المسكونة كومينوتو، فلفلة، وجزيرة القديس بولس.. وهذه الجزر نشأت كبقايا للوصل الجغرافي الذي كان يوما ما يربط قارتي أوروبا وأفريقيا. يسود البلادَ مناخ البحر المتوسط، كما أن معدل درجات الحرارة الشهرية يتراوح بين 12 و26 درجة مئوية، بينما 19 درجة مئوية هو معدل العام. ونسبة هطول الأمطار تبلغ زهاء 500 مم، ومعظمها يسقط خلال فصل الشتاء.. عدد السكان 350 ألف نسمة، وهم يعيشون في هذه الجزيرة لأكثر من 5 آلاف سنة. الجزيرة استُعمِرت عدة مرات من الفينيقيين والإسبان والنبلاء (الفرسان) التابعين لـ «سان جون من رودس» بعد ان طردهم الاتراك العثمانيون من جزيرة رودس.. والغريب في الامر أن نابوليون عندما أراد غزو شمال افريقيا طلب من فرسان مالطا السماح له بالدخول للتزود بالماء، فاستولى على الجزيرة المحصنة وطرد النبلاء، فطلب أهل الجزيرة من بريطانيا المساعدة على حماية بلادهم من الاستعمار، فحكمت بريطانيا ساعتئذ الجزيرة اكثر من 100 عام حتى نالت استقلالها عام 1964.. وكان الإرث الأهم من الحكم البريطاني للجزيرة هو النظام الديمقراطي السائد الآن في الجزيرة.

فأهل مالطا اليوم عبارة عن خليط من الاستعمار عبر السنين، يتحدثون اللغة المالطية، وهي إحدى اللغات السامية، نتجت عن لهجة عربية. لذا تجد أن حوالي 40 % من اللغة المالطية أصلها عربي، والباقي من اللغات الإيطالية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية.

المالطية لغة تستعمل الأحرف اللاتينية لتكون بذلك أول لغة سامية تكتب باللاتينية. وبسبب الوجود البريطاني الطويل للبلاد، فإن اللغة الانجليزية هي الأكثر استعمالا وانتشارا في البلاد، خاصة في الدوائر الحكومية.

اذا كنت تبحث عن الهدوء والاستجمام، أو الشاطئ الجميل أو المِعمار والتاريخ، فالكلُّ موجود داخل هذه الجزيرة الصغيرة، يمكنك عبورها من اولها الى آخرها في نصف نهار.. توجد بالجزيرة خدمات مواصلات جيدة حسب المواعيد، فيمكنك شراء تذكرة ليوم أو أربعة أيام أو أسبوع، وثمن التذكرة لأسبوع 6 ليرات (أي ما يعادل 18 دولارا)، (10جنيهات استرلينية). يمكنك ان تزور كلَّ اماكن الجزيرة شرقا وغربا وجنوبا وشمالا. أما اذا كنت تحب قيادة السيارة، فيمكنك استئجار سيارة فالطرق واضحة، حيث اللافتات مكتوبٌ عليها الاتجاه واسم المنطقة أو المدينة التي تريد زيارتها. أما اذا كنت من هواة الدراجة الهوائية، فيمكنك إيجار دراجة، لكن الأمر يحتاج الى لياقة بدنية لطبيعة ارض الجزيرة المليئة بالتضاريس المرتفعة والمنخفضة. اما اذا كنت من هواة المشي فعلى امتداد الجزيرة يوجد كورنيش، من فاليتا مرورا بجزيرا، وسليما، وسان اند روس، وسان باي، وبجيبا، وسان بول باي.. وكل ما شعرت بحرارة الجو تلامسك نسمة من نسمات البحر. اما اذا كنت من هواة البحر، فمعظم شواطئ الجزيرة سواحل ومطاعم وفنادق. ويُلاحَظُ في الجزيرة عدد كبير من المطاعم (الايطالية، واليونانية واللبنانية والمغربية، وأغلب المأكولات الشرقية) والمقاهي.. والفنادق تكاد تمحو معالم الجزيرة التاريخية ومعمارها القديم.

الجزيرة تعتمد في اقتصادها على السياحة، فكل شيء يرتبط بالسياحة توفيرا للراحة والاستجمام الممتع للسياح فيها.

أما اذا كنت من محبِّي المعمار والتاريخ، فالجزيرة غنية بالآثار الرومانية واليونانية والتركية، وكلها مبنية بالحجر الأبيض الجيري المنقوش بشكل فني جميل.

* مدن مالطا مدينا: يطلق أهل مالطا عليها «المدينة الصامتة» نسبة لهدوئها وأزقتها الضيقة، حيث لا تسمح بمرور السيارات من الداخل. عندما تزور مدينا تشعر بأنها محصنة، حيث الأسوار الشاهقة تحف المدينة من كل جنباتها، إذ لا يمكنك دخولها إلا عن طريق بوابتها الرئيسية. وموقع المدينة في مكان مرتفعٍ ومحصنٍ جعل الخلفاء في عهد الامبراطورية العثمانية يتخذونها عاصمة لهم وللجزيرة حتى عام 1700 (لم يبق أثر إسلامي في تلك المدينة الآن إلا ساحة لمسجد كتب عليها ساحة المسجد). ومن اسوار المدينة يمكنك مشاهدة المدن والمناطق القريبة من كل الاتجاهات لمراقبة «العدو» في تلك الفترة الماضية.

رباط: مدينة تحمل الاسم العربي، وتوجد بها مقابر بنيت تحت الارض بالطريقة الفرعونية.. وداخل المقبرة تجد كهوفا وغرفا ذات أحجام مختلفة، بينها ممرات تسمح لك بالمرور لأمتار قليلة، وهي حقا ذات منظر مهيب ومخيف للحظة الاولى. وما زاد خوفي هو المرشد السياحي عندما حكى لي قصة طلاب مدرسة اعدادية قاموا بزيارة إحدى المقابر للتعرف والوقوف على تاريخ أجدادهم، فاختفى الطلاب والمعلمون داخل المقبرة ولم يظهر لهم أثر حتى الآن.

فاليتا: عند زيارتك العاصمة، فاليتا، تشعر كأنك في سفينة تمخر عباب البحر دونما توقف.. شكل المدينة المستطيل والمُحَاط بمياه البحر المتوسط الزرقاء من كل الجهات جعلها محصنة من هجمات الغزاة في العصور الماضية. أهل مالطا شعب مسالم ذو طابع عربي في بعض عاداته.. فجميع الناس يتجمعون في الشوارع، يتجاذبون اطرف الحديث عن أحوالهم اليومية أو هموم معيشتهم. وفي المساء يلبسون ثيابا انيقة.. والنساء بدورهن يرتدين أحلى ما عندهن من زينة وملابس جميلة، ويخرجن للجلوس في المقاهي أو المطاعم المنتشرة على طول الكورنيش لتناول العشاء في جو عائلي رومانسي.

وكان اللافت للانتباه في العاصمة فاليتا، انتشار أصحاب «قوارب الموت» لقرب الجزيرة من شمال افريقيا، مما جعلها هدفا للمهاجرين غير الشرعيين الذين طالما لفظت مياه البحر كثيرا منهم.. سألت أحدهم.. «كيف حضرت لهذه الجزيرة المحصنة؟».. فرد قائلا بكل بساطة «قارب الموت!».. الرحلة من شمال أفريقيا (دونما تحديد لاسم الدولة، والأرجح ليبيا أو تونس لقربهما من الجزيرة) إلى فاليتا بمركب خشبي مكدس بمهاجرين تستغرق 3 ايام على الأكثر.. و«تنجح أو لا تنجح!».. هو هدف الرحلة. وأضاف، وهو يحكي بألم المأساة، «ان قائد المركب السنغالي يبحر والنجوم دليله، وفجأة اصطدم المركب بقارب صيد وكاد يغرق لولا لطف الله تعالى!».. وعادة ما تصدِمُ السفنُ، عن قصد، مراكبَ المهاجرين، مما يعرضهم للغرق معظم الأحيان. وبعد كل هذه المغامرة يتم وضع الذين يصلون بسلام في معسكر بحي الفار، جنوب العاصمة، لمدة عام أو عامين حتى يُنظر في أمرهم، البعض يتم إرجاعهم والبقية تبحث عن رحلة أخرى الى داخل اوروبا بداية بإيطاليا، بحثا عن معيشة أفضل..