قلعة حطمها النعاس

الجزائر المحروسة

TT

يجب ان تكون عضوا في نادي محبة الغرائب حتى تستطيع استطلاع المزارات السياحية البحرية للعاصمة الجزائرية في كامل راحة ورضا وسرور. لست متأكدًا.. لنبدأ التجوال! بالمناسبة، ليس هناك تاريخ عظيم لتأسيس العاصمة الجزائرية.. كل ما في الأمر أن قائدا فينيقيا في القرن السادس قبل الميلاد ضلّ الطريق وأشرف على الهلاك، وفجأة ظهر في السطح نورس فأمر القبطان بملاحقته عسى ان يكون دليلا على وجود يابسة، ولم يخيّب النورس الامنية فقاد السفينة إلى أرض جديدة لم تكن معروفة للفينيقيين من قبل. وتكريمًا لهذه الخدمة الانسانية سمّى الفينقيّون الأرض الجديدة بـ«إيكوسيوم»، أي «أرض النورس» والتي لم تكن سوى الجزائر.

وكرّت القرون بعذ دلك، وحلّ بإيكوسيوم التي صارت ميناءً تجاريًا ضخما استهوى كلا من الرومان والبيزيطيين والواندال ثم جحافل أوروبيي العصر الحديث، لكن المدينة ظلّت عصية الانكسار لتكون بعد 27 قرنًا من تأسيسها عاصمة الجمهورية الجزائرية. حاملة اسم «بلكين بن زيري»، الرجل الذي سمّاها «الجزائر» نسبة إلى جزر أربع تقابل ساحلها.

لن تحتار من أي مكان تبدأ زيارتك، ففي الإمكان البدء من أي مكان، إن جئت بحرًا فإن ميناء الجزائر وحده يستحق وقفات لا وقفة، هذا الميناء الذي يقع ضمن خليج يتعدّى قطره 39 كيلومترا، أوقف العالم على قدم وساق طوال ثلاث قرون، فبين 1516 و1830 كانت منطلقا للبحّارة الجزائريّين الذين أرهبوا كل السفن وفرضوا مشيئتهم. وكانوا «مارينز» العصور ما بعد الوسطى .

سوف تحدّثك حجارة الميناء أن الجزائريّين «طالبوا» العثمانيين القدوم إلى بلدهم. ولم يأت هؤلاء كما في المشرق العربي محتلين مستعمرين، بل جاءوا لبناء القوة البحرية الجزائرية التي يتحدث تاريخ تلك الفترة عنها بالعجائب، فقد احكمت سيطرتها على المتوسّط، وكانت الممالك والامبراطوريات الأوروبية تدفع «جزية» طائلة للسماح لها بالمرور عبر المتوسّط. و بين قائمة الدافعين كانت الولايات المتحّدة، إذ أن جورج واشنطون لم يجد ما يفتتح به أولى لحظات تأسيس الدولة الجديدة خيرا من توجيه رسالة لسلطان الجزائر (الداي حسين) سنة 1789 يرجوه فيها «السماح لسفننا العبور من الإقليم البحري التايع لإيالتكم».وإذا رفعت رأسك حال خروج من الميناء، فلن تصطاد عيناك شيئًا قبل «مقام الشهيد»، وهو تمثال على شكل ثلاث سعفات تفترق من الأسفل و تلتقي من الأعلى، خذ أي سيارة واسأل صاحبها أن يوصلك لـ«الحامة»، وسوف تكون بعد عشرين دقيقة عند أعلى هضبة غابية ينتصب التمثال على حافتها وتحوط أشجار السرو والعناب جنباتها، وإذا غضضت الطرف عن عشرات العشاق المتنزّهين فسوف تكتشف ضمن تلك الغابة مغارة مفروشة بالبياض والشمع.. في هذه المغارة بالضبط وبين هؤلاء العشاق كتبت رواية «دونكيشوت دي لامانثا». لقد كان أشهر روائي عالمي جنديا في «الأرمادا» أي الأسطول الإسباني الذي حاول منازلة نظيره الجزائري فهزم شر هزيمة سنة 1572. وأسر الكاتب، ويبدو أن الجزائريّين آنذاك قد راعوا شاعرية الرجل فحبسوه بأعلى مغارة تطل على العاصمة بأسرها، في منطقة الحامة التي كانت متنزّها طبيعيا حينها، وهناك كتبت الرواية الرائعة.. وإلى اليوم ما زالت المغارة كما كانت، ولم يقم الجزائريون بأكثر من الحافظ عليها وبناء مكتبة وطنية بجوارها.

ونزولا مع الطريق العام ستشاهد المتنزّه الطبيعي الحالي، والذي أنشئ قبل ثلاثة قرون ويحتل المرتبة الرابعة في العالم من حيث اتساع مساحته، هنالك ستجد أشجارا عمرها من عمر العاصمة الجزائرية وآثارا لكافة الملوك الذين عبروا المدينة، وهدايا من كل أنحاء العالم ونباتات غريبة لن تمتع عينيك بها إلا هنا كما هو الحال مع شجرة دراسينا «Dracaena» أو «Dragonia» المعروفة بـ«بشجرة التنين»، ويعود عمرها إلى عام 1847.

أما إذا لم تكن لديك رغبة في العودة إلى التاريخ وأردت التسلية، فليس أفضل من الوقوف أمام «الحصن 23».. هذا الحصن العثماني الذي طالما سكنه السلاطين، والذي كان شاهدا على حادثة طافحة بالغرابة، فقد كان الداي حسين نائما ذات يوم وإذا بالحراس يصرخون والنساء يبكين.. فتح السلطان نصف عين وقال لأقرب من رآه «ما الخطب؟»، فردّ الضابط البحري «إن الفرنسيّين يقصفون منطقة القصبة». لم يتحرّك الداي من فراشه وإنما طلب استدعاء مفاوضٍ فرنسي. ولما حضر شرَعَ يلقي على الداي نصف النائم سلسلة مطالبه واحتجاجاته على قذائف المدفعية التي تنهال على أسطوله من «القصبة»، قائلا إنه لن ينصرف وجنده قبل تحطيم أحد قصورها، فسأله الداي عن كلفة هذه «الغزوة» فأجاب الضابط، وحينها قال الداي «امنحوني نصف المبلغ وسأهدم هذا القصر اللعين الذي تفسدون نومي لأجل تحطيمه».. وهكذا كان! يمكنك أيضا أن تسأل عن قصر «لالا مريم» بنت السلطان التي احتضنت الأدباء والمبدعين. كما يمكنك أن تلج «القصبة» الحي التاريخي الذي تاهت فيه فرق المستعمِرين الفرنسيين، وصوّر فيه فيلم «معركة الجزائر» التحفة السينمائية التي أبدع فيها فيها المخرج الإيطالي جوليو بونتكورفو المتوفى منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن 86 عاما.

ماذا عن الفنادق؟.. ليست هناك مشكلة في الأفق.. يمكن ان تختار بين ألف فندق وفندق، بأسعار تناسب حاجة كل سائح بداية من 3 دولارات إلى مئات الدولارات، ويمكنك أن تختار بين فنادق بحرية كفندق الشيراتون المطل على الواجهة البحرية الغربية أو فنادق داخلية كفندق القديس جورج حيث سكن شارلي شابلن وكارل ماركس ودوايت ايزنهاور وجوزيف ستالين.. كيف حدث ذلك، تلك حكاية تسمعها حين نلتقي في العاصمة المحروسة.