إغراءات السياحة في صربيا.. بلا حدود

رحلة البحث عن سمراء في بلاد الشقراوات

TT

كان عليَّ أخذ جميع الاحتياطات المتعلقة بالطريق قبل السفر إلى صربيا، فالمسافة الفاصلة بين سراييفو وبلغراد تبلغ نحو 500 كيلومتر، الأجواء شتوية، وبساط الثلج الابيض يغطي كل شيء تقريبا في سهول شبه جزيرة البلقان وجبالها. فتحت راديو السيارة، نشرات الاخبار باللغة المحلية تحذر من السرعة، بينما كان الضباب يلف الأماكن، وينتابني شعور بأني واقف على المزلج وليس داخل سيارة رغم الدفء الذي أنعم به داخلها ولا سيما المنبعث من الكراسي المزودة بالتدفئة. كانت الطريق ملساء بفعل ترسبات الثلج أو ما يسمى «بلاك آيس» لم يدم ذلك الشعور طويلا فبعد ساعة ونصف الساعة تقريبا تحسنت الاجواء، وبدأ المطر ينزل رذاذا، وهو دليل على تراجع درجة الحرارة للافضل، بينما كانت شدة البرد تمنعه من ذلك من قبل، في فجر ذلك اليوم الصبوح من شهر فبراير(شباط). الحقيقية هي أني زرت بلغراد من قبل في مهمة عمل، بينما هذه المرة لأكتب موضوعا عن السياحة في البلاد. كانت وجهتي معروفة لذلك لم أفكر كثيرا في الأماكن التي سأزورها أو اختارها موضوعا للكتابة. توقفت عدة مرات لأضع جنازير العجلات أو لأسحبها حسب طبيعة الطريق، أو للتزود بالوقود وشراء بعض المأكولات الخفيفة والمعلبات، وتبادل الحديث والفكاهات مع البائعين والزبائن على حد سواء. فشعوب البلقان رغم انطوائها وجمودها أحيانا وخوفها من الآخر، تقدر المبادرة في العلاقات الانسانية، المهم أن تبدأ أنت بالحديث ليتحول الشخص الذي أمامك إلى صديق حميم. لم أنتظر كثيرا عند الحدود بين كرواتيا وصربيا، فبعد تفحصه لجواز سفري سألني شرطي صربي بتطفل عما إذا كنت متوجها لبلغراد بحثا عن شقراء، فرددت على الفور الشقراوات في كل مكان من البلقان بل أبحث عن سمراء! فضحك حتى فقد توازنه وسقط على عتبة مكتبه المتواضع على الحدود التي لم تكن قائمة قبل سنة 1992. لقد عرف بذكائه أن لي وجهة أخرى، وأن لا سمراوت في المنطقة. وصلت إلى بلغراد بعد الظهر وهي مدينة كبيرة، كانت النواة الاولى لقيام دولة صربيا في القرن التاسع نبعد نزوح أهلها من شمال آسيا لذلك تشبه سحنات شعوب الشرق. وظلت بلغراد منذ ذلك الحين عاصمة لصربيا، يحيط بها نهرا الدانوب والسافا، حتى سميت بأسمائهما الكثير من الشركات والمؤسسات المختلفة حتى الثقافية والاعلامية منها. بينما لا تزال قلعة كليمندان شامخة بين النهرين رغم الاهمال التي يبدو واضحا عند مشاهدتها عن قرب. ورغم زيارتي السابقة لبلغراد وحملي لخريطة طرقها إلا أني لم أتمكن من فك طلاسمها في تلك الليلة، فقررت الاستعانة بسيارة أجرة، تاكسي، للوصول لأحد الفنادق لقضاء تلك الليلة، واستئناف رحلتي إلى كوبانوك. لم يكن صاحب التاكسي جشعا كغيره في بعض الدول الاخرى ومنها العربية حيث كان مشواره الطويل بخمسة يورو فقط. كان الفندق من فئة ثلاثة نجوم، الغرف قليلة الإضاءة لذلك لم أتمكن من قراءة بعض صفحات من الكتاب الذي جلبته معي، وعندما سألت صاحب الفندق عن السبب أجابني بأن الغرف للنوم وليس للقراءة، فنوعية زبائنهم إما زوجان جاءا ليقضيا ذكرى زواجهما، أوعيد ميلاد أحدهما..؟ أجاب النادل بمكر «لإخفاء العيوب باسم الرومانسية». عموما لم أكن في حاجة للقراءة فقد أرهقني الطريق ونمت نوما عميقا تلك الليلة أو كما يقول السكان المحليون (كو يانيا).

في الصباح ولاسيما في الساعات الاولى كانت الشوارع شبه مقفرة عكس زيارتي السابقة التي كانت في الصيف حيث تعج الشوارع بالمترجلين والمتوجهين لأعمالهم أو السيارات المتوجهة إلى ضفاف الدانوب والسافا أو بحيرة تشاغلانيتسا للترفيه وللتخفيف من شدة الحر، حيث تصل إلى 40 مئوية أحيانا. فالبرد يجبر السكان على البقاء في منازلهم أو التنقل بالسيارات. عند الظهر وصلت إلى منتجع كوبانوك ووجدته يعج بالسياح من مختلف الاعمار، هذا المنتجع الذي سمعت عنه كثيرا، وتمنيت زيارته عدة مرات، كثبان من الثلج تشبه الامواج ومساحات بيضاء تمتد على مد البصر كالصحراء وتجمعات كبيرة من الناس كجزر متقاربة في بحر لجي. هذا ما أوحت لي به تلك المناظر الشتوية في منتجع كوبانوك فسارعت لتسجيلها بأصابع مرتعشة على دفتر ملاحظاتي. عدت إلى السيارة أغالب البرد وألوم نفسي على عدم ارتدائي لملابس التزلج في الفندق، وبدا التردد يسيطر علي، كيف أبدل ملابسي في هذا الجو لأرتدي ملابس التزلج؟ وكدت أغير رأيي لولا روح التحدي التي دفعتني للمغامرة، أنجزت المهمة الصعبة، وشعرت ببعض الدفء وأنا أتوجه إلى المصعد الكهربائي، وأخذ مكان في صف المنتظرين دورهم للصعود والانتقال للسفح والعودة على مزالجهم إلى المنطلق. تذكرت وأنا أعدل مزلجي وأتأكد من سلامة العصوين بيدي، طريقي إلى هناك وكيف كنت أشعر وأنا بداخل السيارة كما لو أني في ساحة للتزلج. قلت في نفسي لقد كان ذلك مجرد شعور أما الآن فأمام الامر الواقع. لا تخلو ساحة التزلج في كوبانوك من نوادر مضحكة، ومأساوية في بعض الحالات، فبعض المتزلجين من المبدئيين أو لم يسبق لهم التزلج ، سواء من السكان المحليين، أو الاجانب، حيث تكثر الحوادث وبعضها يكون مميتا.

وللمتزلج في كوبانوك عدة خيارات فهو غير ملزم بالتزلج، وبإمكانه الجلوس عند شرفات أحد الفنادق في المكان ليشاهد عن كثب حركة السياح والزوار وشقاوة الأطفال ومشاهد التزلج وبراعة المتمكنين وتعثر المبتدئيين فيعجب بهذا وتغزوه الابتسامة من حماقات البعض ممن يعرضون أنفسهم للسخرية. ففي كوبانوك سلسة فنادق على الجبل الفضي كما كان يسمى في العهد الروماني تتسع لاكثر من 5 آلاف شخص. التقيت بعدد من السياح المحليين والذين ذكروا لي أنهم زاروا عددا من البلاد العربية من بينها تونس. وروى لي توميسلاف، 35 عاما، كيف أن التونسيين يظنون أن كل السياح إما يتكلمون الفرنسية أو الانجليزية، فكان يشرح لهم عن تاريخ تونس أو الاماكن السياحية بهاتين اللغتين بينما أغلب السياح الصرب لا يتكلمون سوى لغتهم المحلية أو الروسية. وعن موقفهم من ذلك، قال مبتسما «لم نفهم شيئا كنا نردد «ياس، ياس ... ليتهم يوفرون لنا مترجمين بلغتنا». عدت لبلغراد بعد رحلة ممتعة في منتجع التزلج، وقضيت ليلتي في فندق آخر، في انتظار الصباح لأتجول في قطار تيتو، فقد تحول قطار الزعيم اليوغوسلافي الشهير جوزيف بروز تيتو الذي استقبل فيه زعماء العالم إلى مجرد مرفق سياحي بعد سنوات من الشعبية والمجد السياسي حيث كان جزءا من شخصية تيتو وهيلمانه الآيديولوجي. وكان تيتو قد استقبل في قطاره أكثر من 60 زعيم دولة أجنبية وكان بريجنيف والرئيسان المصري جمال عبد الناصر والفلسطيني الراحل ياسر عرفات والزعيم الليبي معمر القذافي وغيرهم من ضيوف القصر المتحرك وهو الاسم الذي يطلق على القطار التيتوي الذي قطع خلال سنوات حكم الديكتاتور اليوغوسلافي 600 ألف كيلومتر قبل أن يتحول في مايو(أيار) 1980 إلى سراي هائلة ألقت فيها شعوب يوغوسلافيا السابقة نظرة الوداع على جثمان زعيمهم الراحل. وبعد ربع قرن اكتشف ورثة القطار طقوس ومظاهر حقبة تيتو التي اختلفت الآراء في تقويمها وتسببت للبعض بعاهة هذيان الذاكرة. ورغم أن تيتو محسوب على الجبهة الاشتراكية ويشار إلى نظامه على أنه كان شيوعيا حتى لدى أنصاره والمنتمين لحزبه رغبة ورهبة أو إيمانا بالآيديولوجية، وإلا أن القطار الجمهوري كما يحلو للبعض تسميته لم يتلون باللون الأحمر رمز الشيوعية الغابرة، وإنما حافظ ومنذ الاربعينات على لونه الازرق الباهت. وما زال الكثيرون في بلغراد يتذكرون المارشال تيتو، فقد كان المارشال يقطع الاميال على متنه ليتجول في كل أرجاء يوغوسلافيا السابقة، ووصل عبره للمحافظات والقرى التي تقع اليوم داخل حدود الجمهوريات المستقلة. وقال الممثل سيرجان يوفالدانوفيتش الذي يقوم بتنشيط السياحة عبر قطار تيتو لـ«الشرق الاوسط»: «كان تيتو يستخدمه لاستقبال ضيوف الشرف وللالتقاء بمواطنيه الموزعين في كل الجمهوريات، حيث كان يقابل في كل مغادرة ووصول بباقة ورد من إحدى فتيات المناطق التي يزورها». ويقول يوفالدانوفيتش إن الفرق الوحيد بينه وبين تيتو أنه يقدم الزهور بينما كان الراحل يتلقاها من الفتيات. وتابع «خطرت لقطاع السياحة فكرة استخدام قطار تيتو لتنشيط السياحة بعد أن هجر لمدة 25 عاما وكاد يطويه النسيان بعد أن أصبح مجرد قطعة من ماضي الفيدرالية اليوغوسلافية المتفككة، وبذلك أصبح القطار عامل حذب سياحي. ويقول نيناد بانكوفيتش من مكتب السياحة الخارجية «لم يكن الامر سهلا فهذا القطار مميز لانه لم يصنع لنقل الركاب وإنما لخدمة رجل واحد فقط، لكننا نجحنا في إعداد العربات لرحلات سياحية وإذا سارت الامور على ما يرام فقد نفكر في استخدام جديد له» ويتسع القطار اليوم لـ 140 مسافرا يمكنهم أن يقضوا رحلة عبر الماضي بـ21 يورو فقط إضافة لمميزات القطار الذي يعود تاريخ صنعه إلى سنة 1947 وقد اعتبر آنذاك من أضخم قطارات العالم وأكثرها ترفا. وتعتبر المعارض والمتاحف في صربيا من بين الاماكن التي يقبل عليها السياح، بل تعمل الاوساط المحلية والدولية على نقلها كمعارض متجولة عبر العالم، مثل معرض أسواق الامبراطور دراغان الذي عرض في عدد كبير من العواصم الاوروبية. والمعرض المتجول هو نتاج التعاون بين الادارات العامة للترويج الثقافي والتعاون في الدول الاوروبية. ويتضمن معرض «أسواق الامبراطور طراجان»، الذي تم عرضه في بوخارست وروما وفيينا وغيرها، أجزاء أصلية من رخام متحف الاسواق الامبراطورية، و30 صورة فوتوغرافية للمهندس المعماري لويجي فيليتيسي، بالاضافة الى وثائق ومواد سمعية وبصرية عن المباني الاثرية والتقنيات الحديثة التي تم تبنيها في أعمال الترميم، وهي أعمال تجسد الفن الحديث في مائة عام. وفي هذا العرض يعرض المتحف الوطني في بلغراد لوحات لفنانين من فترات الفن الأوروبي بين 1830 إلى 1930، وهذه الفترة بعينها هي فترة تغيير وتحول من التقليدي والاكاديمي إلى الفن الحديث.. ليست هناك متاحف غنية جدا من حيث معروضها مثل متحف بلغراد الوطني والذي أحدث بدوره انقلابا فنيا في تاريخ فن الرسم الحديث. وعلمت «الشرق الاوسط» من مكتب الاحصاءات الصربي أن صربيا شهدت خلال عام 2006 توافد نحو 1866811 سائحا، وهو نفس عدد السائحين الذين زاروا صربيا خلال نفس الفترة عام 2005. وأكد المكتب الاحصائي أنه خلال الفترة سالفة الذكر قام نحو 6169092 سائحا بزيارة صربيا لمدة يوم واحد. وينجذب السياح إلى البلدات الكبرى فى صربيا، التي شهدت زيارة 685405 سياح حيث قضوا 1.2 مليون ليلة إقامة، بالاضافة إلى قيام 300 ألف سائح بزيارة المنتجعات قضوا فيها نحو مليوني ليلة. ويهتم معظم السياح الاجانب بزيارة المدن حيث قام نحو 284884 سائحا بقضاء 582729 ليلة. وأضاف المكتب أن أكثر السياح الاجانب الذين يفضلون قضاء ليلة واحدة يأتون من البوسنة وسلوفينيا وكرواتيا وايطاليا، ومعظمهم يبقون في بلغراد ونوفي ساد ونيس وبنجا وكوفيلياسا.