3000 برج رملي في استقبالك وسط الصين

تجد فيها كل أشكال وأنواع التربة

مدينة جميلة تتمتع بسحر خاص لا تجده في باقي المدن الصينية
TT

كانت السيارة تعبر نفقا عميقا طوله حوالي ميلين. وبدأت تظهر امامنا عقب الخروج من النفق أعداد من الأبراج العملاقة تعانق السماء الملبدة بالسحب. انه منظر يصيب بالدهشة كل من يمكن ان يفاجأ بهذه المناظر التي تذكّر بلحظة الخروج من نفق لينكون باتجاه وسط مانهاتن. إلا ان هذه ليست نيويورك، وإنما منطقة وسط الصين والجزء النائي من جبال محافظة شمال غربي هونان، التي لم تكن وجهة للزوار، بل لم تصبح آهلة بالسكان إلا قبل حوالي 50 عاما. النفق الذي يوصل الى هذه المنطقة جديد، جرى تشييده العام الماضي بتكلفة قدرت بحوالي 200 مليون دولار. اما الأبراج المشار اليها، فليست ناطحات سحاب من النوع المشيد من الصلب والزجاج وإنما من الحجر الرملي. ويقدر عدد أبراج هذه المنطقة بـ3000، وتشكل هذه الأبراج معلم هذه المنطقة التي اعلنتها الامم المتحدة قبل 15 عاما واحدة من أكثر المناطق في الارض تنوعا في أشكال سطح التربة. حديقة وولينغيوان من أجمل المواقع الجاذبة للاهتمام بسبب طبيعتها ونباتاتها النادرة وتنوع الكائنات فيها. وكانت اليونسكو قد اعلنت ان هذه المنطقة في حاجة الى حماية لمصلحة البشرية جمعاء. منذ ذلك الوقت باتت هناك رغبة قوية لدى كثيرين للوقوف على ما في هذه المنطقة من حياة طبيعية دفعت اليونسكو الى تأكيدها على ضرورة حمايتها. عدد السياح الغربيين لا يزال محدودا، فيما هناك عدد كبير من الزوار الصينيين، عقب الازدهار الاقتصادي والحريات التي أطلقتها السلطات هناك. إذ بدأ الصينيون يكتشفون بلادهم اكثر من أي وقت سابق واكتشفوا بالفعل وولينغيوان.

ويأتي السياح الى هذه الزاوية من الصين التي يسهل الوصول اليها لرؤية المشهدين، على الرغم من ان معظم من تحدثت اليهم قالوا انهم جاءوا الى مشهد الابراج التي تشبه رسومات الحبر على الورق التي ظلت منذ قرون تجسد ناحية محددة من الفن الكلاسيكي الصيني. غير ان هناك اختلافا: فالفن خيالي، ومشاهد متخيلة هي نتاج العقل الابداعي، أما جيولوجيا وولنغيوان فقد خلقت ما يزيد على 100 ميل مربع من المشاهد هي الى حد كبير شيء واقعي، مهما كانت تبدو خيالية في البداية. وبينما كنت أقود السيارة من مدينة جونغكنغ الكبيرة في رحلة يوم شاق اعترف بأن معنوياتي لم تكن عالية الى حد ما. ولم يكن الطقس مناسبا، فقد كان هناك مطر شديد ورياح غربية شديدة زادت من نشر تلوث المدينة. وكنت قد زرت ما لا يحصى من المواقع السياحية الصينية في السابق وقد أفزعني كيف ان السلطات احالتها على ما يبدو الى نسخ آسيوية من غاتلنبيرغ أو بلاكبول او حتى ديزنيلاند في احسن الأحوال.

ولكن عند النظرة الأولى الى تلك الأبراج الشاهقة في بداية النفق تغير كل شيء (كما كان الحال مع الطقس كما لو كان بأمر آلهة الريح، فقد خف المطر الى ان اصبح شيئا لا يزيد عن الضباب، وباتت قمم الأعمدة ملفوفة بالغيوم وشفافة مثل الحرير).

وتحول المشهد في وولنغيوان الى ان يكون هائلا ومؤثرا غير انه هش من الناحية الجيولوجية بحيث انه يبدو بحاجة الى عناية به. والغابات الهائلة من الأعمدة تقف على شكل مربع مقابل التلال الزرقاء القصية معلنة عن نفسها باعتبارها الكنوز التي تعلن عنها اليونيسكو. وفي كل منعطف من الطريق هناك مشهد جذاب.

وفي اطار الدهشة وجدت نفسي وأنا اقول مرة تلو اخرى بينما أحدق من حافة منحدر او جسر: هذا عظيم مثل سور الصين العظيم. وكان علي بين حين وآخر ان اذكر نفسي ان وولنغيوان خلقتها طبيعة الصين، وتبدو في اماكن معينة مثالية وليست مشيدة مثل السور من جانب رجل كانت له دوافع سياسية.

غير ان السياسة أسهمت الى حد كبير في تحويل وولنغوان الى محطة هامة بالنسبة للزائر الصيني الحديث. وصادف ان جاء ضابط شيوعي رفيع اسمه هي لونغ، وهو من أقلية توجيا وبالتالي فإنه يتمسك بولائه للقضية الماوية، من هذه المنطقة الواقعة في اقليم هونان. وخلال الحرب الأهلية في سنوات ثلاثينات القرن العشرين لجأ الى وديان النهر القصية، وكان بين حين وآخر يخاطر في نشر الفوضى في اية قوات جمهورية قريبة.

وعندما انتهت الحرب وأعلنت جمهورية الصين الشعبية عام 1949 أصبح المارشال هي بطلا قوميا، ودخلت مسارح المعارك التي خاضها في جغرافية الملحمة القومية، جنباً إلى جنب مع المسيرة الكبرى التي قام بها ماو تسي تونغ وتفاصيل الاستيلاء على بكين. وهكذا بدأت مجموعة صغيرة من الزوار أواسط خمسينات القرن الماضي وكانوا روادا في هذا العمل. واقيم نصب برونزي عملاق للمارشال هي يبدو مناسبا على نحو بطولي على حافة منحدر وينتصب على 600 قدم من الصخور الرملية من اعماق تمتد خلفه. ويعتبر لمس حافة رداء المارشال في وولنغيوان، بالنسبة لكثيرين، تجسيدا لمثال آيديولوجي هائل. الا ان الامر يتعلق الآن بالارهاب والمتعة. ففي اواخر القرن العشرين، تبين للصين التي دخلت مرحلة تغيير ان لديها في هونان مشاهد طبيعية خلابة. فلديها سور الصين العظيم وغولين وجيش المحاربين «التاراكوتا» في جيان. والآن وعلى مقربة من شنغهاي وليست بعيدة للغاية عن بكين، لديها جوهرة، وإن كانت غير معروفة، ولم يشاهدها احد، ذات مشاهد طبيعية خلابة لا تنسى. واعلنتها الحكومة المركزية اول متنزه عام في عام 1982، ومنحتها اليونيسكو وضع موقع تراث عالمي في عام 1992، وفي عام 2004 اعلنتها واحدة من «جيوبارك» وهو اشارة لإمكانياتها الجيولوجية. وانفتحت الابواب وبدأ الصينيون يتدفقون عليها من كل مكان.

وقد جرى مؤخرا افتتاح مطار محلي في مدينة جانجياجي على بعد 20 ميلا، وبدأ العمل في مد طريقة يربط المتنزه بتشونكينغ التي يزيد عدد سكانها على 30 مليون وتقع على بعد 300 ميل غربا، بحيث لن يستغرق الامر وقتا طويلا، كما حدث لي. كما تم افتتاح طريق سريع من اربع حارات يربط المتنزه بحديقة تشانغشا، على بعد ثلاث ساعات بالسيارة. كما تربط المنطقة اربع رحلات جوية يوميا بهونغ كونغ. وتوجد ايضا مزيد من الرحلات تربط المتنزه بسيول عاصمة كوريا الجنوبية.

وكانت لدي بعض المخاوف. فقد زرت سور الصين العظيم في يوم حار للغاية، وشاهدت مسير الفلاسفة في كيوتو باليابان في منتصف موسم ساكورا، وعرفت البندقية خلال معرض البينالي – أي انني شاهدت الجانب السيئ من السياحة خلال فترات الازدحام. ولكن بعد ان زرت المتنزه لا اتردد ابدا في التعبير عن سعادتي لقدرة الصينيين على ادارة هذا الموقع غير العادي – باستخدام مزيج من الالتزام والرعاية الرقيقة. ولا يزال هذا الموقع العالمي، وإن كان لفترة قصيرة، غير مزدحم ولم يتأثر بأفواج السياح.

ان التقنيات المتقدمة والتكلفة العالية تتحكم في الازدحام. فهناك مجموعات متعددة من الرسوم – كلها تظهر على لوحة في مدخل المتنزه يصل ارتفاعها الى 20 قدما لكي يراها الجميع. وفي النهاية يتبين لك ان تكلفة دخول الحديقة 248 يوان. وهو ما يقرب من 32 دولاراً، وهو اكثر قليلا من متوسط اجر العامل الاسبوعي في الصين.

وعندما تدخل هناك المزيد من الرسوم: رسوم لركوب حافلة او التلفريك او رسوم لركوب مصعد في جانب واحد من الاعمدة المرتفعة ولزيارة الكهوف، وللتجديف في بحيرة صناعية تملكها شركة من هونغ كونغ.

وبالنسبة لأسرة صينية تزور ولينغيان فإن كل موضع اعتبار، وهي تستطيع أن تنفق راتب شهرين في يوم واحد. ولعل أسرة أجنبية تشعر بألم أقل لكن بسبب ارتفاع الأسعار فإن الجميع يشعرون بالامتياز، وهو شعور يجب على السياحة في القرن الواحد والعشرين أن تزرعه في نفوس المسافرين.

والأكثر من ذلك يعرف البوابون كم يوجد هناك بالضبط في داخل الحديقة في أي وقت كان، ولهم الصلاحية ان يمنعوا دخول أي زائر وهذا ما يجعل الأمر يبدو قاسيا لكن أولئك الواقفين في طوابير في الداخل لشراء بيتزا سان ماركو أو داخل المدينة المحرمة فإن هذا النوع من القرارات يبدو مناسبا.

أما الجانب السلبي فيكمن في أن طرق المشي المجانية قابلة لأن تصبح شديدة الاكتظاظ بالزوار، مع خطوط طويلة من المشاة، وهذا ما يخلق ازدحاما بشعا. ومثلما هو الحال في أماكن أخرى من ولينغيوان فإن هناك عددا كبيرا من القردة كافية لهذا العدد الكبير من الناس كي يستمتعوا برؤيتها وإطعامها (بشكل غير شرعي) لكن إذا كان صحيحا أن هناك مجاميع من الفهود وحيوانات البنغول (آكلة النمل) وأنواعا أخرى من الحيوانات والطيور فإنها تكون قد غادرت شواطئ نهر السوط الذهبي باتجاه الغابة.

الكثير من السياح الغربيين يحبون قضاء الليل في تلك الحديقة العامة لكن الضوابط لا تسمح بنصب الخيم ليلا، لكنها تسمح بالتجول عبر طرق مرسومة وأظن أن الكثير ممن يأتون إلى الحديقة غير مهتمين كثيرا بالانحناء احتراما للمارشال هي لكنهم سيفرحون لو كان الطقس جميلا للتمشي وتقصي تلك الكنوز النادرة المتمثلة بالطبيعة الصينية.

وهناك امتياز كبير جدا. اكتشفتُ حينما كنت أصعد السلالم الـ 3000 الموصلة إلى جانب المعهد معبدا في أعلى الجبال. وحسب العلامات الموضوعة كل نصف ميل تقريبا هناك واحدة تقول ممنوع التدخين في كل مكان داخل الحديقة. ولم أر أي شخص يشعل سيجارة، وفي الصين بدا لي هذا الشيء مثيرا للاستغراب.

والنتيجة هي أن ولينغيوان ليست ذات أشجار باسقة ومياه صافية وطيورا مستغرقة في تراتيلها وزهورا متألقة بل ان الطقس فيها مختلف تماما عن الطقس في أي مكان آخر من الصين وهذا ربما السبب الرئيسي الدافع للذهاب إليها. هنا يمكنك أن تتنفس هواء نقيا وعذبا وهو أمر يعد أكثر الانشطة القيمة في الصين، وتمنح مسرة كبيرة.

* خدمة «نيويورك تايمز»