أصيلة.. لوحة تشكيلية مغربية تجمع مثقفي العالم كل صيف

صغيرة بحجمها.. كبيرة بتاريخها

تتميز اصيلة بأبنيتها البيضاء وابوابها الزرقاء («الشرق الأوسط»)
TT

تـُعرف المدن وتشتهر بتاريخها ومقوماتها الديموغرافية والعمرانية، والأدوار التي تلعبها في حاضر الدول التي تحتضنها. وفي المغرب، مثلا، لا أحد يجادل في مكانة وقيمة مدن مثل مراكش والرباط والدار البيضاء وفاس وطنجة، وذلك نظراً للأدوار السياحية والإدارية والاقتصادية التي ظلت تلعبها في تاريخ وحاضر البلد وللإشعاع العالمي الذي توفر لها. وبالمقابل، هناك مدن مغربية أخرى استطاعت، رغم أنها تبدو، في الوهلة الأولى، أقل أدواراً وحجماً، أن تفرض اسمها وصورتها، وأن تثير إعجاب الباحثين عن مساحات من الاستجمام وتغيير الأجواء والاكتشاف والاستمتاع الذهني والفكري.

وفي أصيلة المغربية، يكاد زائرها يصاب بالدهشة وهو يقارن صيت المدينة وشهرتها بصغر حجمها، وعدد سكانها الذي لا يتجاوز 28 ألف نسمة، حسب إحصاء 2004، ودورها البيضاء، ذات الطابع المعماري الإسلامي والمتوسطي. وهكذا، فإذا كانت لمدن مراكش وطنجة والرباط وتطوان وأكادير، مثلا، شهرتها، التي تتكئ على مقومات سياحية وديموغرافية وعمرانية كبيرة، فإن أصيلة صارت تنافس كل هذه المدن على الصعيد السياحي، بل انها فاقت بعضها بحكم الدور الثقافي الذي تلعبه، وذلك بتحولها، مع فعاليات موسمها الثقافي الدولي، التي انطلقت قبل 30 عاما، إلى علامة ثقافية عالمية متميزة، في مغرب العالم العربي، حيث يناقش فيها مثقفون وسياسيون عالميون بارزون قضايا كبرى، تهم حاضر ومستقبل العالم.

وتقع أصيلة، نجمة شمال المغرب، التي تنام بوداعة على شاطئ المحيط الأطلسي، على بعد 40 كلم إلى الجنوب من طنجة، وعلى مستوى نفس المسافة، تقريباً، من مدينة العرائش، الشيء الذي وفـّر لها موقعاً مهماً جعلها تستفيد من وجودها ضمن مساحة جغرافية مهمة تقع في شمال المغرب، وتنفتح على المحيط الأطلسي بكامل رمزيته وزرقته، كما تقترب من الجنوب الإسباني، حيث شواطئ «الكوسطا دل صول» أي (شاطئ الشمس). ويمكن ردُّ الشهرة، التي صارت تميز أصيلة، إلى عاملين أساسيين: ماضيها المرتبط بتاريخها العريق؛ إذ تذكر بعض المصادر التاريخية أن تاريخها يرجع إلى 3600 عام، وحاضرها المرتبط، أساساً، بالعمل الذي يتم على المستوى الثقافي، والذي حولها إلى مدينة للفنون وملتقى لكبار رجال الفكر والسياسة وصناع القرار إلى جانب الأسماء الشامخة في سماء الفنون والآداب، الذين صاروا يضبطون صيفهم على إيقاع وبرنامج موسمها الثقافي.

ومنذ 30 عاماً، ومدينة أصيلة تتحول، مع كل موسم ثقافي، إلى مجمع للنقاش الثقافي، ومرسم كبير، ومعرض مفتوح في الهواء الطلق، أمام الزوار والسكان، شبانا وأطفالا، رجالا ونساء، حتى صارت حكاية موسم أصيلة الثقافي الدولي، هي نفسها حكاية الجداريات والألوان التي تراكمت على جدران دور المدينة العتيقة.

والمثير في حكاية أصيلة أن المثقفين لا يجذبهم فقط صيف المدينة وموسمها الثقافي الدولي؛ فالكاتب المغربي إدمون عمران المليح يرى أن «هذه المدينة، الواقعة على هامش المدن التي اجتذبت الكتاب في الماضي، تمثل بالنسبة لي تجسيداً (إليغوريا) للمغرب بأجمعه، مدينة تحفز على الكتابة، وتتيح لنا بأن نصل إلى أشياء جوهرية وأساسية تتيح لنا القيام بربط الصلة مع عمق الأصالة المغربية».

ورغم حجمها الصغير، اعتادت اصيلة أن تتوسع، مع مقدم كل صيف، لكي تحتضن زوارها، مثل جدارياتها، وكل اللوحات التي تؤثث لمَعارضها التشكيلية، والتي بقدر ما تضيق عليها إطاراتها بقدر ما تتسع ألوانها لتحلق بمتذوقيها نحو عوالم راقية من البهاء والجمال. وربما، لأجل ذلك توصف أصيلة من طرف الكثيرين بأنها «لوحة كبيرة»، أو«المدينة لوحة».

وليس اسم «أصيلة» إلا واحد من الاسماء التي عرفت وتعرف بها هذه المدينة الوديعة، غير أن هذا التعدد على مستوى الاسماء، وكذا على مستوى حقيقة الموقع الجغرافي الذي كانت تشغله، وتاريخ التأسيس، وهوية المؤسسين، هو أول إشكال يمكن أن يواجه الباحث في تاريخ المدينة. فقد حار واختلف المؤرخون في تسميتها: هل هي أصيلة أم «أزيلة»، كما عند بطليموس؟ فاليونانيون سموها «زيليس»، والحسن بن محمد الوزان أطلق عليها اسم «أرزيلا»، وهي«زيليس» في عيون الفينيقيين، و«أرثيلا» عند الإسبان و«أصيلة» عند العرب.

وإلى الحيرة التي تثيرها كل هذه الأسماء، فقد ذهب البعض إلى القول إن كلمة «أزيلا» مشتقة من لفظة «زيل» الأمازيغية، التي تعني الجـَمال.

وإلى «حيرة» المؤرخين، المرتبطة بتاريخ وماضي المدينة، شهد حاضر أصيلة، على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، تحولات مهمة على مستوى البنيات التحتية والمرافق العمومية وأشكال العمران، الشيء الذي جعلها تتحول إلى قطب ثقافي وسياحي مهم، وذلك بفضل روح المبادرة لدى القائمين على مؤسسة منتدى أصيلة، ومجلس بلدية المدينة، وعلى رأسيهما محمد بن عيسى، وزير خارجية المغرب السابق، مما حولها إلى محـَجّ لمثقفي المغرب والعالم، ووجهة سياحية يجد فيها زوار الداخل والخارج هامشاً لراحة البال وهناء الخاطر.

وقبل زوار الحاضر ومثقفي وفناني العالم، تؤكد المعطيات التاريخية أنه مرَّ من هذه المدينة الأصيلة والعريقة، الفينيقيون والقرطاجيون، قبل أن تتحول إلى قلعة رومانية تحمل اسم «زيليس»، على بعد أربعين كيلومترا جنوب «طنجيس». وفي القرن العاشر الميلادي، استقر بها النورمانديون القادمون من صقلية، ثم احتلها البرتغاليون سنة 1471. وبعد معركة «الملوك الثلاثة» (معركة وادي المخازن)، التي وقعت سنة 1578، والتي قتل فيها ملك البرتغال سان سيباستيان، ستتخلص المدينة من الاحتلال البرتغالي، على يد أحمد المنصور السعدي سنة 1589، لكنها سرعان ما ستسقط في أيدي الإسبانيين، الذين استمر احتلالهم لها إلى غاية سنة 1691، وهي السنة التي أعادها السلطان مولاي إسماعيل إلى نفوذ الدولة العلوية. وفي بداية القرن العشرين ستصبح معقلا للقائد احمد الريسوني، الذي بسط، انطلاقاً منها، نفوذه على الكثير من الأراضي الشمالية، قبل أن يطرده الإسبانيون منها، سنة 1924، ويحكموا قبضتهم عليها حتى مرحلة الاستقلال.

وتتميز أصيلة بمدينتها العتيقة، وبأزقتها الأنيقة، وبدورها ذات الجدران البيضاء والأبواب والنوافذ الزرقاء، وبالأسوار المحيطة بها، والتي يعود تاريخها إلى عهد البرتغاليين. وككل المدن التاريخية في المغرب، تعرف المدينة العتيقة بأصيلة بأبوابها، التي تنفتح عبر مداخلها على «باب القصبة» و«باب البحر» و«باب الحومر»، التي تلتقي عند ساحة «القمرة»، التي تنفتح بدورها على ساحة «الطيقان»، التي تنتهي إلى برج «القريقية»، الذي يطل على المحيط الأطلسي، حيث يمكن أن ينتهي المساء بالمتجول على إيقاع مشهد غروب الشمس والميناء وأمواج الأطلسي، في الأسفل، وضريح الولي الصالح سيدي أحمد المنصور، في الجانب الأعلى من السور.

وتُحسب لأصيلة نظافتها، التي منحت الجدران والجداريات فرصة التألق والوجود في محيط بيئي يليق بمدينة الفنون والثقافة، حتى أن التنافس يشتد بين سكانها على مستوى تزيين واجهات البيوت بالأغراس والنباتات، وهو تنافس صار يتيح فرصة الفوز بجائزة البيئة، التي يتم الإعلان عنها، على هامش الموسم الثقافي للمدينة.

وبما أن علاقة التاريخ بالمدن لا تقف عند حدود الأرقام فقط، فإن لأصيلة معالمها وبناياتها، التي ترافق حكايات الماضي وتحولات الحاضر. ويعتبر «قصر الريسوني» (الذي صار يحمل اسم «قصر الثقافة») من أهم معالم المدينة العتيقة، ويعود تاريخ بنائه إلى بداية القرن العشرين. وتتحول زيارة «قصر الريسوني» إلى متعة مضاعفة، حيث تتيه العين في محاولة القبض على تفاصيل الجمال الذي تتوزعه البناية. وعرف القصر، الذي يزين حاضر المدينة، عبر أحداث التاريخ وعند السكان، بـاسم «قصر الريسوني»، نسبة إلى أحمد الريسوني، المتحدر من أصول ريفية، والذي تنقل كتب التاريخ أنه بسط نفوذه على أصيلة والمناطق المجاورة، مع بدايات القرن الماضي.

ويذكر المؤرخون أن الريسوني كان قد جلب أمهر الصناع التقليديين في مختلف تخصصات الصناعة التقليدية، مثل النقش على الخشب والجبس وصناعة الزليج الأندلسي لبناء قصره، الذي انتهى لوحة فنية معمارية جميلة تثير إعجاب الناظرين.

ويتميز هذا القصر بالسقوف الرائعة والأعمدة الرخامية، كما يشكل الفناء، الذي يتوسطه محور مركزي للبناية، حيث ينفتح على فضاء مريح، يتحول، في نفس الوقت، إلى مصدر إضاءة بالنسبة لباقي مرافق البناية. وينفتح الفناء على صالات مزينة بالزليج الذي يتناسق مع سقف مزين بخشب منقوش وفق تقاليد الصنعة والمعمار التقليدي المغربي الأندلسي، والذي يجعلنا، دون كبير عناء، نتذكر قصور الأندلس ودور الضيافة، التي مازالت تزين مدناً مغربية عديدة.

ويبدو الجانب الزخرفي للقصر، والذي يعد من أبرز سمات فن المعمار المغربي، هو الأكثر جمالا، بحيث ينعكس عبر شكل الأبواب والشرفات المنفتحة على الفناء، وكذا زليجه (فسيفساؤه) وطريقة نقشه، تطبيقاً مرهفا ونقلا باذخا للذاكرة الحضارية للبلد. وينتظم الزليج، كقطع هندسية ملونة، بأشكال لا حصر لها، تزين جدرانه الداخلية وأرضياته، في تناسق مع الجبس والخشب المنقوش.

وعلى بعد أمتار قليلة من «باب القصبة»، يوجد مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية، الذي يتذكره أبناء المدينة مخزناً للحبوب، قبل أن يُعاد بناؤه وفق هندسة تساير تحويله إلى مقر رسمي لمؤسسة منتدى أصيلة، وفضاء لاحتضان الندوات التي يشارك فيها مفكرون وأدباء ومثقفون ومبدعون عالميون.

وبجوار «باب البحر»، يوجد برج «القمرة» التاريخي، الذي قضى به «دون سيباستيان»، ملك البرتغال، ليلته الأخيرة، قبل قيادة جيشه إلى معركة وادي المخازن، التي لقي حتفه فيها. وتحول هذا البرج، مع حاضر المدينة، إلى فضاء يحتضن معارض للفنون التشكيلية والصور الفوتوغرافية.

وإلى المدخل، من جهة «باب القصبة»، توجد حديقة «تشيكايا أوتامسي»، التي اقيمت تكريماً للشاعر الكونغولي الراحل، الذي كان أحد الأصدقاء الأوفياء لمدينة أصيلة.

أما خارج أسوار المدينة العتيقة، فتوجد معلمة لها رمزيتها التاريخية المهمة، هي «كدية السلطان»، او هي عبارة عن مسرح دائري صغير مفتوح على الهواء الطلق، يعلوه نصب إسمنتي اتخذ شكل موجة، صممه الفنان التشكيلي المغربي محمد المليحي. وهي «كدية» تستمد رمزيتها من كونها شُيّدت فوق ربوة توقف بها الملك الراحل محمد الخامس يوم مروره من أصيلة، متوجها إلى مدينة طنجة لإلقاء ما عرف في تاريخ المغرب الحديث بـ«خطاب طنجة التاريخي»، وذلك يوم 9 أبريل (نيسان) 1947. كما يوجد خارج الأسوار معلم حديث، هو مكتبة الأمير بندر بن سلطان، التي تم افتتاحها صيف 2004، وهي بناية تتوفر على أحدث الأجهزة المسموعة والمرئية، وعلى قاعة سينمائية، وقاعتين للمطالعة والندوات. وبالقرب منها، توجد «حديقة محمد عزيز الحبابي»، التي أخذت اسم المفكر المغربي الراحل، تكريماً له، باعتباره احد رواد موسم أصيلة، ورواد الثقافة المغربية المعاصرة.

وعبر معالمها التاريخية وحاضرها الفني والثقافي، يبدو أن أصيلة، البلدة الصغيرة والمدينة الوديعة، تتجه نحو تأكيد إصرارها المشروع على أن أجمل المدن هي تلك التي تكبر في أعين ناسها وزوارها، قبل أن تقاس بدرجة الكبر والامتداد الجغرافي في المساحات التي تحتضنها والفراغات التي تحيط بها.