زرهون المغربية.. قلعة معلقة على جبل

التجول في أزقتها سفر في حنايا الزمن

مدينة زرهون...القلعة المعلقة فوق جبل بمنازلها البيضاء
TT

لعلهم قليلون من يعرفون أن مدينة زرهون المغربية (وسط البلاد)، هي من أولى المدن الإسلامية في منطقة شمال أفريقيا، اذ اتخذها مولاي إدريس الأكبر، مؤسس دولة الأدارسة عاصمة لدولته بعد مبايعة قبيلة «أوربة» الأمازيغية له سنة 788 ميلادية، لكونه يتحدر من السلالة النبوية الشريفة، وقادم من منطقة شبه الجزيرة العربية،لتمثل بذلك هذه المدينة الصغيرة بحجمها، والكبيرة بتاريخها، عاصمة لأول دولة إسلامية بالمغرب، مستقلة عن المشرق.

تحيط الجبال بمدينة زرهون من كل ناحية، مما جعلها تقع في موقع دفاعي، ولعل ذلك من الأسباب التي جعلت إدريس الأكبر يتخذها عاصمة لدولته الناشئة، إذ كانت محصنة آنذاك طبيعيا من أي غزو بسبب موقعها الاستراتيجي.

ولا يتعدى عدد سكان «زرهون»، ثلاثة عشر ألف نسمة، وتبعد كيلومترات قليلة شمال شرقي مدينة مكناس، وغير بعيد عنها بحوالي كيلومترين تقع منطقة وليلي الأثرية،التي تعود أطلالها إلى الفترة ما قبل الرومانية أي قبل دخول الإسلام لمنطقة الغرب الإسلامي، لذلك أصبحت زرهون بكل ما تتوفر عليه من نسيج حضاري ومعالم تاريخية من المدن العتيقة الضاربة جذورها في تاريخ منطقة شمال أفريقيا ككل.

كل من يزور هذه المدينة الصغيرة الواقعة فوق جبل، فلا بد أن تقوده أزقتها الضيقة في سفر عبر الزمن، إذ تتداخل فيها ألوان الجدران البيضاء بلون سقوفها الحمراء، أما سكانها فيحاولون ما أمكن الحفاظ على طابع مدينتهم الروحي و«المقدس»، بالنسبة لهم، وهو طابع يستلهم خصوصياته من الهوية العربية الإسلامية، لكن هذا لا يمنع من دخول السياح الأجانب للتجول بين دروبها، باستثناء المسجد الذي يضم ضريح إدريس الأكبر، الممنوع دخوله على غير المسلمين، لهذا تعتبر مدينة زرهون مهد الحضارة الإسلامية والنظام الحاكم بالمغرب،إذ جرت العادة أن تكون أولى زيارات العاهل المغربي بعد مبايعته لمدينة زرهون.

تقع زرهون فوق جبل يحمل اسم المدينة، حيث يلفت انتباه الزائر من بعيد قبل وصوله للمدينة منظر المنازل البيضاء المزدحمة فوقه، مثل قلعة معلقة على سفح جبل، تتوسطها صوامع ومنارات، لعل أبرزها «الصومعة المستديرة» التي كتبت عليها آيات قرآنية بخط عربي جميل،بالإضافة إلى منظر الغابات والبحيرات التي تحيط بها من جميع الجهات.

ومن يقتحم دروب المدينة من الزوار، يكتشف خبايا عن حقب مرت من الزمان الغابر، ويسترعي انتباهه منظر بائعي الحلويات التقليدية المتمركزين حول باب مرقد إدريس الأكبر، الذي يأتي إليه الناس من مختلف أنحاء البلاد خلال فترة الموسم السنوي الذي ينظم بالمدينة، بالإضافة إلى منظر الساقيات المنتشرة في أزقة المدينة، كما تتميز زرهون بأقواسها الأثرية التي يعود أحدها إلى العهد الإدريسي ويسمى بقوس «باب الحجر».

وتمتاز مدينة زرهون، بوفرة المياه العذبة، ويعتمد سكانها على الفلاحة المعيشية التقليدية، التي يأتي في مقدمة إنتاجاتها زيت الزيتون، التين والرمان، المنتوجات الحيوانية مثل العسل والألبان، بالإضافة إلى التجارة المحلية، التي تعرض ثمارها خلال سوق أسبوعي أيام السبت.

لا يمكن لمن يزور مدينة زرهون أن ينسى منظرها من فوق، إذ بمجرد وصوله لقمتها بعدما يكون قد صعد في مئات السلالم الطبيعية، يمكنه مشاهدة مختلف أنحاء المدينة من أعلى، ولا تستطيع مع هذا المنظر التمييز بين ما هو حضري وما هو قروي في المدينة، خاصة عندما يقع البصر على ما يسميه سكان المدينة «المنظر الجميل» لمدينة زرهون،هناك حيث يمكن للزائر تناول أكواب من الشاي الممتع التي توفرها أحد المقاهي الشعبية .

على جانب «المنظر الجميل» يشاهد الزائر جبلا يتخذ شكل خارطة المغرب، وتقع أسفله مَعْلمة رومانية مستديرة، تسمى «عين الحامة»، وهي تشبه «حمام سباحة»، توفر ماء دافئا ممزوجا بمادة الكبريت، يأتي من أجلها المرضى المصابون بالأمراض الجلدية خصوصا، كما يفد إليها السكان من مختلف الأعمار، خصوصا خلال فصل الصيف للاستجمام والاستمتاع بمائها والمناظر الطبيعية المحيطة بها. في وسط المدينة توجد ساحة شاسعة، شيدت حديثا تحمل اسم «ساحة بئر انزران» نسبة إلى المعركة الشهيرة، التي خاضها الجيش المغربي في الصحراء، حيث تعد متنفسا للسكان الذين يجتمعون فيها كل مساء، وزادتها رونقا الأضواء المقوسة التي تتخذ شكل قناديل وهاجة،والتي تجذب الناظر إليها.

وتحيط بالساحة المقاهي العصرية والتقليدية، والمطاعم الشعبية، والدكاكين القريبة من مرقد ادريس الأكبر من كل جانب، مما يضفي على المكان طابعا احتفاليا.

تعتبر مدينة زرهون قطبا سياحيا مهما لما تتمتع به من مآثر عمرانية ومؤهلات حضارية باعتبارها مركزا دينيا وملتقى حضاريا، خاصة بعد الاهتمام الذي شمل تراثها وعمرانها، وبنيت بها المساجد والمدارس والفنادق والحمامات التقليدية، كما شهدت في الآونة الأخيرة توسعا مهما على مستوى بنية الاستقبال، وباتت تتوفر على العديد من دور للضيافة أو ما يسمى «الرياضات» المتميزة بطابعها التقليدي،حيث توفر للسياح مختلف حاجياتهم.

لذلك لا يمكن لزائر هذه المدينة الصغيرة بحجمها والكبيرة بتراثها، والتي ما زالت تحافظ على طابعها الروحي وأصالتها، أن ينسى مشهد ازقتها العتيقة، واجواءها الروحانية.