ميلانو.. فيها كنوز الفن وشاعرية البحيرات

مدينة المستقبل وسفيرة الأزياء

ميلانو.. مدينة الازياء والذوق الرفيع («الشرق الأوسط»)
TT

فازت ميلانو أغنى مدن ايطاليا في الشهر الماضي باختيارها عاصمة التصميم الحديث والمعارض في العالم، حيث سيقام فيها المعرض الدولي عام 2015 ولا شك أنها ستفاجئنا بإبداعاتها الشهيرة التي جعلت منها عاصمة التجارة والمال والذوق المصقول والتهذيب والثقافة الرفيعة المطلعة على أحدث الآراء والابتكارات في العالم وأحد مراكز الأزياء الدولية، اذ يكفي أن نذكر ابن البلد جورجيو أرماني وابنة البلد ميوتشا برادا أو المشاهير مثل الموسيقار الخالد جيوسيبي فيردي أو رجال الأعمال المعاصرين مثل ليوناردو ديل فيكيو ملك النظارات أو ماركو ترونكيتي بروفيرا المالك الرئيسي لشركة بيريللي لاطارات السيارات وربما أهم مساهم في شركة اليطاليا للطيران في المستقبل، كما انها مركز اوروبي اساسي للأعمال والبنوك، ففيها 400 بنك على الأقل. ميلانو ليست بجمال روما وآثارها التاريخية أو البندقية (فينيسيا) وشوارعها المائية أو جزيرة سردينيا ببحرها الأزرق الخلاب أو خصوصياتها كحميرها الأصلية من أيام العرب، لكنها عاصمة الشمال بساحاتها العريقة مثل ساحة الدومو ودار اوبرا لاسكالا ومدنها الغنية القريبة من الحدود السويسرية مثل بيرغامو وبريشا ومانتوا المشهورة تاريخيا وبحيراتها الشاعرية الفريدة في جمالها مثل بحيرة كومو التي تبعد عن ميلانو 45 كيلومترا وبحيرتي غاردا وماجوري، لكن لا تجاريها أي مدينة ايطالية في نشاطها وحيويتها وروحها العصرية وشرائها للاثار الفنية وعقول المبتكرين.

البرابرة اللومبارد: تجمع ايطاليا عدة أعراق فأهل ميلانو والمقاطعة المحيطة بها وهي مقاطعة لومبارديا أغنى مقاطعة ايطالية هم من أصل جرماني ومن قبائل المانية غزت شمال ايطاليا في القرن السادس الميلادي وكانت جزءا من الامبراطورية الرومانية المقدسة التي قضت على الرومان وحكمهم في روما. وما زالت روح التنافس والاقليمية منتشرة حتى الآن اذ أنهم يعتبرون حاليا في روما أن البرابرة اللومبارد غزوا ايطاليا وأن فوز سيلفيو برلسكوني من ميلانو في الانتخابات الأخيرة منذ شهر يعتبر نوعا من الصفعة لروما وللمرشح اليساري والتر فلتروني عمدة (محافظ) روما الذي كان ينافسه على رئاسة الوزارة. أما حزب «رابطة الشمال» فيسمي نفسه رابطة اللومبارد ويتهم روما باللصوصية لأنها تأخذ الضرائب من الشمال الغني وتهدرها «على كيفها». يلاحظ الزائر أن هناك فرقا في التنظيم واحترام القانون وحركة السير والأداء بين ميلانو وروما، فميلانو تنتمي الى شمال أوروبا وتشبه فيينا وموينخ نوعا ما بينما تنجذب روما الى الجنوب وشمس البحر الأبيض المتوسط وشطارة ابنائه. التاريخ يترك بصماته عليها بكل تأكيد فقد تزوج حكامها من عائلة فيسكونتي من العائلات المالكة في بريطانيا وفرنسا في القرن الرابع عشر وجعلوا من ميلانو أقوى مركز تجاري في أوروبا وفي القرن الثامن عشر كانت تحكمها عائلة هابسبورغ النمساوية لكن ميلانو ثارت ضدها عام 1840 والتحمت مع مقاطعة بيمونته في شمال غرب ايطاليا المجاورة لفرنسا كي يتم تحقيق الوحدة الإيطالية بعد ثلاثين عاما، واسم الموسيقار فيردي Verdi كان كلمة السر لإنجاز الوحدة تحت لواء الملك فيكتور ايمانويل فهو اختصار لعبارة: «فيتوريو ايمانويل ملك ايطاليا» وكان الناشطون للوحدة يكتبون اسمه على الجدران، وحين يعتقلهم الجيش النمساوي المحتل يقولون انهم من أنصار الموسيقى ومحبي اوبرات فيردي.

القبلة: لا تكتمل زيارة ميلانو الا بالوقوف أمام المبنى الضخم لكنيسة الدومو في وسط المدينة المعروفة بأسلوب البناء القوطي المتأثر بالنموذج الالماني والفرنسي. يقوم هذا الطراز على استخدام العقود المدببة التي أخذها الغرب عن العمارة الايرانية الساسانية والاسلامية وعلى أساس لوحات الزجاج المعشق الملون والتماثيل البارزة على الجدران والأبراج خارج الكاتدرائية. ويمكن للزائر أن يرى جبال الألب اذا وقف على سطح الكنيسة في يوم مشرق. بالقرب من هذا المكان يقع رواق فيتوريو ايمانويل بقبته الزجاجية وجدرانه المزخرفة وحوانيته التجارية الراقية وينطلق من الطرف الآخر الى دار اوبرا لاسكالا إحدى أعظم دور الاوبرا في العالم وبالتأكيد أفضلها في ايطاليا. وعلى الجانب الآخر نرى متحف قصر بريرا الذي بدأ في القرن الثامن عشر كأكاديمية الفنون الجميلة وفيه مجموعة رائعة للوحات عصر النهضة وفن الباروك ولوحات بييرو ديلا فرانشسكا وكاناليتو ورافاييل وبيليني وتنتيريتو وفيرونيزيه، وفيه أيضا أشهر لوحة تمت طباعتها مرارا لفرانشسكو هايز واسمها «القبلة» فهي لوحة عاطفية ووطنية أثارت شعور التفاؤل باقامة الوحدة الايطالية في القرن التاسع عشر. مقصد السياح ايضا هي كنيسة سانتا ماريا ديلي غراسيه التي يتوافد عليها الآلاف لرؤية لوحة ليوناردو دا فنشي الرائعة «العشاء الأخير». التسوق والتبضع: لا يمكنك مقاومة اغراء الملابس الفاخرة والتصاميم المبدعة والبضائع التي لن تجد مثلها الا في ميلانو، وتكفي جولة في شارع مونتي نابوليون والشوارع المحيطة به لتقتنع بذلك وترى كافة العلامات التجارية المعروفة والخاصة للصفوة من الأثرياء وتعود الى الفندق بمحفظة فارغة من الفلوس. أين ستجد أكبر مخزن لملابس جورجيو أرماني موزعة على ثلاثة طوابق الا في ميلانو؟ يسمونه هنا «الملك» وقد بدأ حياته المهنية في متجر كبير كبائع للملابس والآن عليك ان تدفع مبلغا محترما اذا اردت شراء بوكيه من الزهور صممه الملك بنفسه او تناولت بعض المقبلات البحرية اليابانية او على الاقل فنجان قهوة في المملكة الارمانية. من حين لآخر يطل جورجيو بنفسه ليتأكد من أن السوق يدور لصالحه ولا غرو فثروته تقدر الآن بخمسة مليارات دولار مما يجعله رابع أغنى أغنياء ايطاليا. أما ميوتشا برادا فقد أصبحت «ملكة ميلانو» بحق فلديها خمسة متاجر في تلك المنطقة الراقية بالذات تبيع الملابس النسائية والرجالية والاحذية والحقائب والمبتكرات الرياضية وكل ما يخطر ببالك او ببال محبي الشراء والتبضع حتى الطوق الجلدي لعنق الكلاب من تصميم ميوتشا بنفسها! ذكرى بوتشيني: تحتفل ايطاليا هذا العام بالذكرى الـ150 لولادة الموسيقار جاكومو بوتشيني (1858 – 1924) وبالطبع فان اوبرا لاسكالا كانت أول من بدأ تلك الاحتفالات. المفاجأة التاريخية أن بهو دار الاوبرا كان قبل مئتي سنة مقرا لبورصة ميلانو التجارية في الصباح ثم تنقلب الآية الى مسرح غنائي في الليل. بوتشيني هو خليفة فيردي في عالم الاوبرا ودرس في ميلانو وكل أعماله تقريبا تقتصر على المسرح الغنائي فهو مصدر الهامه وسعادته، كما أنه كان مولعا بحب السيارات والقوارب السريعة والمغامرات النسائية. شاهدت مجموعة ثلاثة اوبرات قصيرة تروي قصص سائق السفينة النهرية التي تنقل البضائع في باريس والذي تخونه زوجته مع احد العمال على متن السفينة فينتهي بقتلها وتسمى «تابارو» Tabarro ( أو: العباءة) وقصة الراهبة انجيلكا لكن القصة الثالثة حول جاني سكيكي هي القصة التي تمتاز بالطرافة فهي تدور حول كاتب بالعدل في فلورنسا يحمل هذا الاسم في القرن الثالث عشر ويربح قضية لورثة احد الاغنياء الذي منح ثروته الى الرهبان ثم يكتشف الورثة بعدها أن الكاتب بالعدل قد خدعهم وحول الثروة والأملاك الى نفسه تاركا لهم الفتات. قاد الاوركسترا بنجاح مذهل احد كبار قادة الموسيقى الايطاليين وهو ريكاردو شايي المولود في ميلانو عام 1953 وكان مساعدا للمايسترو الايطالي الكبير كلاوديو ابادو (ذي الأصل العربي من عائلة ابن عباد في الاندلس) حين كان المسؤول الموسيقي الأول في لاسكالا قبل ذهابه الى فيينا ثم برلين. وهذه الثلاثية قلما يجري عرضها منذ تلحينها في مطلع القرن العشرين خلافا لاوبرات بوتشيني الشهيرة الأكثر عرضا في العالم لأية مسرحية غنائية كلاسيكية مثل توسكا والبوهيميون ومدام بترفلاي وتوراندو التي تتمتع بشعبية كبيرة خاصة حين كان بافاروتي يقوم بالدور الرئيسي فيها ويغني «لاأحد ينام» Nessun dorma. كان الغناء على نفس المستوى العالي الذي يحرص عليه شايي أينما ذهب وكذلك اخراج لوقا رونكوني المتميز بالحركة والواقعية وجمال الملابس التاريخية المصنوعة من أفخر المنسوجات الحريرية والصوفية والديكور المبتكر والمناظر التي صممتها خصيصا مارغريتا بالي لهذا الانتاج الجديد.

المعرض الدولي 2015: بدأت منذ الآن التحضيرات للمعرض الدولي في ميلانو بعد سبع سنوات فهو وريث أول معرض دولي أقيم في باريس للاحتفال بالذكرى المئوية للثورة الفرنسية حين بني برج ايفل عام 1889 في تلك المناسبة. سيقام المعرض في ميلانو عام 2015 ويستمر لمدة ستة أشهر من أول مايو (أيار) الى آخر اكتوبر (تشرين الأول) وسيشتمل على سبعة آلاف حدث ونشاط تجاري وفني، والهدف هو بناء مدينة المستقبل، وستتصل ميلانو بمنطقة المعرض بالبر والماء عبر قناتين سيجري انشاؤهما لوصول الزوار وسيجري اختبار نظام رقمي جديد يشرف على ميلانو من السماء لينظم حركة المرور في المدينة حين يبدأ الازدحام. ميلانو خبيرة بتحضير المؤتمرات والمعارض والتصميم المعاصر والذوق الرفيع كما أن المعرض الدولي فيها سيشجع تعدد الثقافات كما ستتحول ميلانو الى أكثر مدن العالم نشاطا في تلك الفترة وتجذب السياح اليها والى منطقة لومبارديا وايطاليا بأجمعها كما ستكون أمام وسائل الاعلام مسرحا للعالم بأكمله، وشعارها «شارك وجبة طعامك مع جارك وبذلك ستفهم شخصيته وثقافته».

يحب الايطاليون الأناقة وميلانو هي عنوان الذوق الايطالي الفاخر لذا فهي معقل مصممي الأزياء الكبار والموضة العالمية تتبدل كل موسم حسبما تجري الرياح وتتجه النزعات الجمالية الخلاقة في ميلانو، وأكبر اطراء لمن تتميز بالمظهر الجذاب أو بالأناقة الذكية أي ما يسمونه بالايطالية bella figura هي أن يتنهد المعجبون أثناء مرورها أمامهم ويقولون علنا أم سرا «مرحبا ياحلوة» أو: تشاو بيلا.