جازان.. طعمها عسل وسهلها علاج

بلد المليون شاعر

سهول ووديان وخضرة دائمة («الشرق الأوسط»)
TT

«مثل صبيا في الغواني ما تشوف... لابسات الفُل والنقش اليماني عالكفوف والعيون الدعج من خلف الغواني فيها خوف... خوف يسبي الناظرين والهواء عني دخيل» أبيات طالما تغنى بها الفنان محمد عبده، والتي تتحدث عن صبيا وهي إحدى بنات منطقة جازان العذراء، إن أردت الحديث عن منطقة جازان، فلا بُد أن تتغنى بهذه الكلمات، لتصل إلى أن تعيش نشوة وجمال تلك المنطقة البكر، في أقصى جنوب السعودية.

جازان، إن كانت تُخرج العسل من بطون نحلها، وهو ما تشتهر به المنطقة، ويتميز عسل جبالها عن جميع أنواع العسل في العالم، بل وأفخره، فهي تُخرج أيضاً الشفاء بعد إذن الله، من بطنها للراغبين في بلوغ «العيون الحارة»، التي تمتاز بها بعض بطون جبال جازان، وتُعتبر علاجا من عدد من الأمراض الجلدية، إلى أن بلغت تلك العيون، اهتمام المُهتمين في استخراج واستكشاف العلاج من باطن الأرض.

وإن لم تكُن شجاعاً نوعاً ما، فقد تُصاب بالذعر كما حدث معي..، إن قررت زيارة جبال فيفا، خلال أي زيارة تقوم بها لمنطقة جازان، أقصى جنوب السعودية، التي تشد النظر إلى أبعد مدى، وتجلب المتعة إلى نفوس زائريها، أياً كان جنسهم، وطبيعتهم، وأشكالهم.

مُعانقة الجبال للسحاب، أسهل ما يُمكن مشاهدته خلال الصعود إلى أعلى قمم جبال فيفا، التي من الممكن أن تستغرق مدة وصول القمة فيها ما يُقارب النصف ساعة، إلى أن تصل إلى معانقتك السحاب أيضاً، في منظر جمالي ساحر، يكون الطريقة السهلة في التفكر في إبداع صنع الخالق.

جازان بلد كما يحلو للبعض تسميتها، بلد المليون شاعر، هذا هو بالفعل الوصف الأبلغ أن يُطلق على جازان، وسيلاحظ من يُقرر زيارة جازان بقراها ومحافظاتها ومراكزها، إثارة قريحته الشعرية، حتى إن لم يكُن شاعراً، وبالتالي، ستُصاب بالإحباط بالطبع إن لم تكُن ممن يُعبرون عن وصف الجمال بالقريحة الشعرية.

منطقة جازان تُعتبر الركيزة الجنوبية لخريطة السعودية، فهي تقع أقصى الجنوب الغربي للمملكة العربية السعودية، وتحدها من الجنوب والجنوب الشرقي الجمهورية العربية اليمنية، ومن الشمال والشمال الشرقي منطقة عسير ومن الغرب البحر الأحمر. تعد منطقة جازان من أصغر المناطق السعودية من حيث المساحة، والأبلغ من حيث الجمال، حيث تشغل المنطقة موقعاً استراتيجياً من إطلالتها على البحر الأحمر من الغرب، وتعبرها القوافل التجارية البرية، وترسو في موانئها السفن التجارية البحرية، وتخترقها العديد من الأودية المنحدرة من الشرق باتجاه الغرب لتصب في البحر الأحمر، أكبرها وادي جازان، وعلى حواف هذه الأودية وحولها ظهر وجود الإنسان في العصور القديمة والعصر الإسلامي، إضافةً إلى ساحل البحر الأحمر، الذي يحد المنطقة من الغرب.

منطقة جازان تُعتبر منطقة استقرار بشري منذ عصور قديمة، حيث تتمتع ببيئة طبيعية خلابة، ومساحات خضراء، ووفرة في المياه، وخصوبة في التربة والأراضي الزراعية، ومراع لا يُمكن الاستهانة بها.

عُرفت جازان كميناء منذ القرن السابع عشر الهجري، ولكنها لم تنل حظها من التنمية سوى في العقود الأخيرة، فيما تتوافر بالمنطقة مقومات سياحية عديدة، تؤهلها لتكون إحدى أهم مناطق الجذب السياحي في السعودية، والخليج، والعالم العربي، حيث تتوافر فيها جميع أنواع السياحة، كالسياحة الشتوية والصيفية والعلاجية والتاريخية.

يوجد في المنطقة موقع من أهم المواقع الأثرية العائدة إلى الألف الثاني قبل الميلاد في المملكة العربية السعودية، يعرف باسم (سهى) نفذت فيه عمليات تنقيب نتج عنها العثور على مجموعة من الأواني الفخارية، التي وبمقارنتها بمواد مشابهة من شرق الجزيرة العربية وفلسطين، اكتشف أنها من إنتاج العصر البرونزي وتاريخ من منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، فيما عُثر في المنطقة على العديد من المنشآت الحجرية التي تحكي قصص آلاف السنين، إضافةً إلى عدد من المواقع التي تعود للعصر الإسلامي الأول، واكتشاف موقعين يعتبران من أهم المواقع التاريخية (عثر، والشرجة)، عُثر على كمية من الأواني الفخارية والزجاجية وقطع العملة والقطع المعدنية،خلال عمليات التنقيب التي أُخضعت لها المنطقة قبل اكتشاف تلك المواقع.جازان، ذات المليون ونصف المليون نسمة، تتمتع بأجواء تقود النفس إلى الحيرة، ففي فصل الصيف الحارق في السعودية، تتمتع المنطقة بأجواء أكثر حرارة من المناطق الأخرى السعودية، ليأتي فصل الشتاء الذي تنعكس فيه المعادلة الجوية أو المناخية، من حيث الدفء في جازان، والبرد القارس في جميع المناطق السعودية، وهو ما يُعتبر نقطة جذب سياحي تُحسب للمنطقة، من ناحية جلب السائح السعودي، والخليجي في آنٍ معاً، وهو ما تسعى له الجهات الرسمية السعودية المهتمة بالسياحة، كالهيئة العليا للسياحة السعودية. الأمطار في تلك المنطقة، تجعل زائرها في حيرةٍ من أمره، فالمطر وبروقه، لا ينقطع عن جازان طوال العام، صيفاً وشتاءً، وكلما ارتفعت لأعلى عن سطح المنطقة، في أي وقت من أيام السنة سواء صيفاً أم شتاءً، فستشعر بالنقاء، والاعتدال الجوي، إلى أن تصل إلى مرحلة البرودة، حتى إن كان ذلك خلال موسم الصيف الحارق.

إن كُنت تبحث عن التاريخ، أو الآثار، أو صفاء ونقاء الأجواء، أو الجبل، فستجد ذلك حتماً في موقع واحد لا شبيه له، فكل هذه المواصفات، التي في الغالب ما تكون محل اهتمام الكثير من أبناء منطقة الخليج، والمنطقة العربية بشكل عام، فستجد كل ذلك في مكان واحد فقط، في جازان، جازان الفُل، كما يحلو لأبناء المنقطة التغزل بمنطقتهم.

الزراعة لها نصيب الأسد في نفس الإنسان الجازاني، وذلك لخصوبة أرض جازان، ووفرة مياهها العذبة، فأبسط ما يُمكن أن تراه في تلك المنطقة حال قررت زيارتها، هي أشجار الموز والقهوة، حيث أضحت تُنافس بعض الدول العالمية التي تشتهر بتصدير تلك الأنواع من الثمار، بعد أن حققت اكتفاءً ذاتياّ لأبناء المنطقة، من بطون منطقتهم الغالية على نفوسهم.

أهل جـازان الاسم الذي عرف منذ القرن الأول الهجري، وما زال صيته عبر القرون المتعاقبة، حتى هذا العصر، ابتداء «بجازان الوادي»، يتمتعون بصفات ربما تكون فريدةً بالنسبة لأبناء المنطقة، فالكرم، والجود، أصبح محط اهتمام وأنظار زائريها، «فالقهوة» التي يحصدها أبناء المنطقة من جبالها، ستكون أول هدايا الزائرين، إضافةً إلى «الريحان الفل» الذي يضعه أبناء المنطقة على رؤوسهم، كشعار فريد يُميزهم عن غيرهم، والذي أضحى عرفاً تقليدياً خاصاً بهم.

الزي الشعبي، الذي يُعتبر رسمياً لديهم، يتميز عن غيره من أبناء المنطقة، فالفُل والكادي، لا بُد أن يُزينا بنات جازان، اللاتي يتصفن بالعفوية، والكرم أيضاً كما هم أبناؤها الذكور، الذين بدورهم يعتبرون الكرم أبرز ما يُمكن أن يتصف به الإنسان الجازاني، وتتزين نحورهم بـ «خناجر» أو «جنبيات»، تُعتبر زياً رسمياً مُرادفاً للفُل والكادي على رؤوس وصدور بنات المنطقة، وهو ما يُشكل لهم إرثاً تاريخياً توارثوه عبر القرون الماضية، عن الآباء والأجداد. جبال جازان، تفيض من بطونها شلالات مياه، تدعو للعجب في بعض الأحيان، وتدعو في الوقت نفسه إلى الحيرة من ناحية منبع تلك المياه، التي في الغالب ما تكون عذبةً، تقود زائرها إلى الذهول فيما يتعلق بمنبع تلك المياه، والتي تُشكل منظراً جمالياً فريداً من نوعه، بل من الممكن أن يكون وحيداً على أرض الجزيرة العربية.

بالتالي، كُلُ محافظة، أو قرية، أو مركز، تتبع لتلك المنطقة، تمتاز بخصوصية فريدة، تتعلق بتاريخها، وطبيعتها، ومواردها، وسكانها، ولكنها، لا تُخفي حُب المنطقة الأم التي تحتضنها، فصبياء، أبو عريش وبيش، صامطة، الحرث، ضمد، الريث، فرسان، الدائر ببني مالك، أحد المسارحة، العيدابي، العارضة والدرب، تعني الشيء الكثير بالنسبة لأهل المنطقة بشكل عام، فيما تتميز كلٌ من هذه المحافظات بإرث تاريخي خاص بها لم يتكرر مع شقيقاتها الأخريات من المحافظات والمراكز، الأمر الذي قد يجعلك ترى الجازاني بعدة أشكال، وتقاليد، وأعراف، وإرث مختلف عن الآخر، ولكنه يجتمع تحت مظلة واحدة، هي جازان، والحب المشترك لتلك المنطقة من أبنائها وإن أبعدتهم الرقعة الجغرافية عن المنطقة الأم.

جازان، في نظر من بلغ قمم جبالها، وشاهد معانقة السحاب لتلك القمم، تحتاج لمساحة، ووقت أكبر للحديث عنها، والمشاهدة دائماً أبلغ من الحديث، مهما طال واتسع شرحه، ففي جمالها تُبحر سفن الأشواق والأحلام، وفي ابتسامة أهلها تصفو النفوس من الكدر والآلام، خلفت لنا واحتوت عددا من الأدباء والشعراء، الذين شدوا لنا من الشعر ما علق في الأذهان بأعذب وأرقى الكلمات شعراً ونثراً، ورسمها الفنانون بريشاتهم فصوروا لنا السهل والجبل والبحر بأبهى صورة وأعذبها.

هي في نظر أهلها، ومن علق سحرها في ذهنه، أبلغ من لوحة رُسمت لاحتواء الجمال، والطبيعة، والسحر الرباني، الذي يجمع التاريخ بعبقه، والسهل والجبل والبحر، في لوحةٍ فنية، النظر إليها أبلغ من الصور، والحديث، والروايات التي تُروى عنها، فالفُل والكادي، أول من يستقبل عُشاق تلك المنطقة بقراها الصغيرة المتواضعة، وأول المودعين، إلى أن تكتشف في نفسك أن روائح وعطور الفُل والكادي علقت بك، دون أن تعرف كيف، وأين، ومتى، وهي التي ستقودك لإعادة التفكير في زيارة أخرى، ومعانقة قمم جبالها وسهولها وشواطئها.