الصينيون والعرب أول من عرف الكتابة السياحية

انتشرت في أوروبا في القرن الثامن عشر

الكتابة السياحية تطورت وتخصصت عبر العصور («الشرق الأوسط»)
TT

أدب السفر وأدب السياحة وأدب المغامرات، كلها اسماء لعالم، أدبي واحد نعرفه قديما وحديثا بأدب الرحلات. ومن طبيعة هذا الادب تسجيل احوال الناس وسبل معيشتها ومشاعرها والاحداث والمفاجآت التي تحصل خلال التنقل والسفر في البلدان الغريبة. وما يعطي هذا النوع من الكتابة صفة الادب عادة، هو تمتعه بسرد متماسك وسهل، واحيانا برؤى شخصية نافذة تعكس بعض القيم الانسانية العامة، بعيدا عن الارقام والخرائط والمعلومات التقليدية والجداول كما هو الحال في محطات القطار والسفن. ورغم ان ادب الرحلات خاص بالسفر وعالمه فإنه يضم تحت جناحيه، ما يعرف بأدب المغامرات وادب الاكتشاف، اللذين يعتبران من اشهر الآداب العربية والاوروبية، منذ الف عام تقريبا.

المعلومات المتوفرة، تقول إن اول تسجيل لـ «التمتع برحلة ما»، او بكلام آخر محاولة الكتابة السياحية بالمعنى الحرفي (السفر للسفر ذاته والكتابة عنه)، يعود الى العلامة والشاعر الايطالي فرانسيسكو بيطرارك في القرن الرابع عشر (1304-1374) الذي تكلم وسجل رحلة صعوده وتسلقه جبل «فينتو» (6 الآف قدم) في جنوب فرنسا عام 1336. وفي الاوراق التي تركها العلامة المعروف في ذلك الوقات بانه «شيخ الإنسانيين» في بدايات عصر النهضة، يحاول الشاعر المقارنة بين محاولة تسلق الجبل وكيفية تطور حسه الاخلاقي خلال حياته الطويلة.

كما ترك مايكولت تلمانت شاعر دق بيرغاندي، وحسب ما تؤكده الموسوعة الالكترونية الحرة، انطباعاته الاولى خلال الرحلة التي قام بها لجبال «جورا» التي تصل فرنسا بسويسرا وايطاليا في منتصف القرن الخامس عشر. وفي الانطباعات يتكلم الشاعر عن رد فعله على الصخور والاجواء المرعبة التي عاشها. وكان في بداية القرن نفسه، في اوروبا، قد كتب انطوان دي لا سال عن رحلته الى جزر ليباري البركانية. ويقول جايلز لا بوفوار عن سبب سفره وكتابته عن السفر في كتاب Livre de la description des pays قائلا: «لأن الكثير من الناس ومن مشارب واوطان مختلفة تجد متعة ـ كما فعلت انا في الماضي ـ برؤية العالم وما فيه. وايضا لأن الكثير من الناس يرغبون التعرف على المكان من دون السفر اليه، وآخرون يفضلون الرؤية والسفر، ابدأ كتابي...».

ومن وثائق ادب السفر والسياحة القديمة والاساسية التي تعتبر من المراجع الأدبية السياحية الحديثة ايضا، كتاب «رحلات» لريتشارد هاكلوت (1552-1616) الذي صدر عام 1589. وقد كتب الرحالة الانجليزي الذي كان يشن حملة لتشجيع الهجرة الانجليزية الى اميركا الشمالية، عددا آخر من الكتب خلال ترحاله واكتشافه للقارة المجهولة.

بالإضافة الى هذا الكتاب، يعتمد الباحثون والخبراء على الكتب التي تركها رجال الدين والسفراء والتجار والاغنياء وابناء الملوك والامراء (كانوا قادرين على الوصل الى اماكن كثيرة ومشهورة وبعيدة يعجز الانسان العادي عن الوصول اليها) لوضع المواصفات الاساسية لأدب الرحلات او السفر ومكوناته ومقوماته. وقد كثر هذا النوع من الكتابة نهاية القرن السابع عشر في اوروبا خلال ما يعرف الآن بظاهرة الـ «غراند تور» السياحية التي كانت حكرا على الاغنياء قبل وصول القطار وتوفره للعامة من الناس عام 1840.

في القرن الثامن عشر، اصبح ادب الرحلات او ادب السفر منتشرا ومعروفا في اوروبا وبريطانيا بشكل خاص. وحاول معظم الشعراء والكتاب المعروفين في تلك الفترة، دخول عالم الكتابة السياحية وعالم السفر والأماكن المجهولة وترك الانطباعات عنها. ومن اشهر الكتب «يوميات الكابتن كوك» (1784) التي حولت الى فيلم في السنوات الاخيرة. اما في نهايات القرن التاسع عشر، فقد ذاع صيت الكاتب الاسكوتلندي المعروف روبرت ستيفانسون ( 1850-1894 )، كأحد اهم كتب الرحلات والسفر. وقد ترعرع ستيفانسون ضمن عائلة من المهندسين والمخترعين ومحبي السفر والمغامرة، خصوصا والده الذي كان اول مؤسسي وبنائي المنارات في اسكوتلندا آنذاك. وكان كل من الكاتب الارجنتيني لويس بورخيس، والاميركي ايرنست همنغواي والانجليزي كيبلنغ من عشاق الكاتب الاسكوتلندي الرشيق. على أية حال لا بد من القول، ان عالم الكتابة في السياحية والسفر، بدأ قبل ذلك وبعيدا عن اوروبا، خصوصا في الصين شرقا، في العصور الوسطى ايام حكم عائلة «سونغ» (بين القرن الالف والقرن الثالث عشر ـ الفترة التي اشتهر بها بن جبير وابن بطوطة. وكان يعرف هذا العالم بـ «أدب سجل السفر» (youji wenxue)، وكان يكتب هذا الادب بأساليب عدة مثل السرد والنثر والشعر واليوميات وغيره. وحملت الكثير من وثائق السفر والسياحة آنذاك، معلومات طوبغرافية وجغرافية مهمة عن المناطق التي تمت زيارتها، حملت بعضها للكاتب سو شي (القرن الحادي عشر) نقاشات فلسفية واخلاقية كانت تشغل بال النخبة والعامة في تلك الازمان. وعن ابن بطوطة، تقول الموسوعة الحرة، ان اسمه الاصلي، محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي (1304 - 1377) وهو «رحّالة ومؤرخ وقاضٍ وفقيه أمازيغي لقب امير الرحالين المسلمين». ولد ابن بطوطة في طنجة بالمغرب، وعرف عن عائلته «عملها في القضاء، وفي فتوته درس الشريعة وقرر عام 1325 وهو ابن 20 عاماً، أن يخرج حاجاً، كما أمل من سفره أن يتعلم المزيد عن ممارسة الشريعة في أنحاء بلاد الاسلام. وخرج من طنجة فطاف بلاد المغرب، مصر، الشام، الحجاز، العراق، فارس، اليمن، البحرين، تركستان، ما وراء النهر وبعض الهند، الصين، جاوة، بلاد التتار وأواسط أفريقيا. واتصل بكثير من الملوك والأمراء فمدحهم ـ وكان ينظم الشعر ـ واستعان بهباتهم على أسفاره. وعاد إلى المغرب« ليملي اخبار رحلته على محمد الكلبي في فاس والتي اطلق عليها اسم: «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار». ترجمت الرحلة إلى لغات كثيرة، منها البرتغالية والفرنسية والانجليزية والروسية والألمانية، بالإضافة إلى لغته الامازيغية. وقد كان ابن بطوطة يتقن اللغتين التركية والفارسية، واستغرقت رحلته 27 سنة (1325-1352 )، وقد توفي في مراكش سنة 1377. وتطلق عليه جامعة كامبريدج البريطانية المعروفة في كتبها ومنشوراتها بـ «أمير الرحالة المسلمين». في أول رحلة له مر ابن بطوطة في الجزائر وتونس ومصر وفلسطين وسوريا و منها إلى مكة. وقام بثلاث رحلات استغرقت 29 سنة تقريبا، كان أطولها، رحلته الاولى الى المغرب والمشرق. وقد امضى ابن بطوطة سنتين في الهند وسنة ونصف السنة في الصين «وفي هذه الفترة وصف كل ما شاهده وعاينه فيهما وذكر كل من عرفه من سلاطين ورجال ونساء ووصف ملابسهم وعاداتهم وأخلاقهم وضيافتهم وما حدث أثناء إقامته من حوادث وحروب وغزو وفتك بالسلاطين والأمراء ورجال الدين وكان ابن بطوطة خلال إقامته هذه مندفعا بعاطفته الدينية إلى لزوم المساجد والزوايا فلم يدع زاوية إلا وزارها ونزل ضيفا عليها». أما ابن جبير (محمد بن أحمد بن جبير الكناني) فقد ولد في بلنسية عام 1145، وتعلم على يد ابيه قبل ان يوظفه أمير غرناطة أبو سعيد بن عبد المؤمن ملك الموحدين آنذاك، ككاتم للسر مما اضطره الى العيش في غرناطة. وتقول الروايات ان ابن جبير صمم على القيام برحلة الى الحج تكفيرا عن خطيئته في شرب الخمر بسبب الأمير ابي سعيد، وقضى في سفرته سنتين، دون خلالها مشاهداته وملاحظاته (عام 1186) في يوميات عرفت لاحقا بـ «رحلة ابن جبير»، ويطلق على الرحلة في عالم التراث العربي اسم «تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار» وانتشر كتاب ابن جبير في الكثير من الانحاء شرقا وغربا، الى ان ترجمه المؤرخ والمترجم الانجليزى ويليام رايت William Wright وقام بنشره وطبعه في كتاب جمع عددا كبيرا من الرحلات لرحالة وحجاج عرب واجانب مسلمين ومسيحيين ويهودا عرف باسم Early travellers in palastine، كما تؤكد الموسوعة الحرة. واكمل ابن جبير، حجته «بزيارة المسجد النبوي ثم اتجه في طريقه إلى العراق وخراسان وكردستان والشام ووصف عادات وتقاليد السكان في الممالك الصليبية في عكا وصور وغيرها ورأى بنفسه التعاون والتبادل التجاري المشترك بين المسلمين والفرنج، ويقال انه سافر ثلاث مرات في حياته إلى الشرق ثم استقر بمصر وتوفى بالإسكندرية عام 1217. ويقول ربيع محمود في «الشبكة الاسلامية»، ان ابن جبير كان يحب الرحلات والتنقل فترك الأمير وقام بثلاث رحلات إلى المشرق. في الرحلة الأولى خرج من غرناطة إلى (سبتة) ومنها ركب البحر إلى الإسكندرية ومنها توجه إلى مكة عن طريق (عيذاب) فجدة، فحج وزار المدينة والكوفة وبغداد والموصل وحلب ودمشق وركب البحر إلى صقلية عائدا إلى غرناطة. أما رحلته الثانية فقد دفعه إليها أنباء استرداد بيت المقدس من الصليبيين من قبل السلطان صلاح الدين الأيوبي فشرع في هذه الرحلة لمدة سنة كاملة.

أما رحلته الثالثة فكانت إثر وفاة زوجته، فقد كان يحبها حبا شديدا، فدفعه الحزن عليها إلى القيام برحلة ثالثة يروح بها عما ألم به من حزن على فراقها، فخرج من (سبتة) إلى مكة وبقي فيها فترة من الزمن ثم غادرها إلى بيت المقدس والقاهرة والإسكندرية، حيث توفي فيها. وكما نعرف هناك الكثير من الكتاب الحديثين الذين يكتبون عن السفر والسياحة كمهنة يعتاشون منها، ومنهم اسماء لامعة ومعروفة مثل الروائي الأميركي بول ثيرو والكاتب الانجليزي اريك نيوباي والمؤرخ الويلزي جان موريس. وهناك الكثير من كتاب المقالة الذين عن وعي او دونه، كتبوا مقالات مهمة تعتبر جزءا من التراث الادبي للرحلات والسفر، وعلى رأسهم الكاتب البريطاني (من ترينيداد في الكايبي اصلا) فيديادر سوراجبراساد نيبول، الذي نال جائزة نوبل للآداب عام 2001، وقبل ذلك الكاتبة رابيكا وست. وفي بعض الكتب، يبدو ان الكتابة السياحية اختلطت بالكتابة الطبيعية والعلمية ورحلاتها كما هو الحال مع جيرار ديوريل وايفان ساندرسون، والاهم من ذلك الكاتب او العالم المعروف صاحب نظرية النشوء والتطور الإنجليزي تشارلز داروين، الذي سجل رحلاته على متن السفينة التاريخية «اتش ام اس بيغل» (1809–1882). وكثيرا ما تدخل كتاب في مجالات اخرى على عالم الكتابة السياحية والرحلات والسفر لتسجيل انطباعاتهم وآرائهم وخبراتهم في مناطق وبلدان مختلفة وبعيدة . ومن هؤلاء كتاب معروفون مثل، الشاعر دي .اتش لورانس وجون شتاينباك وتشارلز ديكينز قبلهما.

لكن وحتى الآن لا يزال جزء كبير من الكتابات السياحية والمعنية بالسفر، كتابات تخيلية بالدرجة الاولى، وجزء آخر منها يخلط في هذه الكتابات بين الواقع والخيال ( يعتمد على واقع حقيقي لكتابة رواية تخيلية) كما هو الحال مع جوزيف كونراد وماركو بولو.

مهما يكن، فإن عالم الكتابة السياحية والرحلات قد تطور وتخصص وتفرع في السنوات الخمسين الاخيرة ليصبح متخصصا بالكثير من المجالات والقطاعات السياحية ويعتمد الكثير من الاساليب. ومن هذه القطاعات قطاع «السياحة الخاصة»، «السياحة التراثية»، «السياحة الطبية»، «السياحة الكوارثية» (مناطق الكوارث)، «السياحة البيئية» «السياحة الادبية» «السياحة الموسيقية»، «السياحة الاثرية»، «السياحة الدينية» «السياحة المائية»، «السياحة الجبلية» واخيرا «السياحة الفضائية».