«فريلو بوسنة».. سحر المكان في ظلال الطبيعة

رحلة بأقل كلفة ممكنة

ماء وخضرة وروعة في الطبيعة («الشرق الأوسط»)
TT

آلو... ما رأيك لو نقضي عطلة نهاية الأسبوع في «فريلو بوسنة» لنرتاح من كلل وملل الدراسة والعمل، لقد تحدثت مع والدتي ووافقت على ذهابنا. كان ذلك في الساعة الثانية عشرة من يوم الأحد، حيث انطلقنا من قلب سراييفو، والشوارع تكاد تخلو من السيارات والمارة، فالجميع إما في منازلهم متخفين من لهيب الأسعار في الخارج، أو في زيارات عائلية، أو رحلات ترفيه على ضفاف الأنهار والبحيرات المختلفة والغابات التي يعشقها الكثيرون ويقضون فيها أوقات فراغهم وعطلهم، لا سيما بعض العائلات الميسورة. كان علي أن أختار موقف السيارات بعناية فبعضها مجاني والآخر مكلف نوعا ما، فموقف السيارات من جهة، بوسلي بروغي، حيث كان يسكن الشيخ ناصر السعيد، أقل كلفة من مثيله على جهة غرب إليجا وشرق كولوني، إذ ان ذلك يعني أن أؤجر عربة تجرها الخيول ذهابا وإيابا. والمسألة لا تستحق كل تلك التضحيات، فالالتزامات كثيرة جدا والراتب بالكاد يفي بها. ها نحن ننزل الدرج، مشينا خطوات حتى بدا نبع البوسنة على يميننا وخرير المياه يغطي تقريبا على كل شيء في المكان، حتى العصافير وعلى كثرتها آثرت الاستماع لموسيقى الماء واكتفت بعضدها من حين لآخر بوصلات من عندها، لتستكمل سيمفونية الطبيعة. حتى الباعة الذين ينتشرون في دروب المنتزه لا تكاد تسمع لهم صوتا، سوى بعض الهمس عند الاقتراب من بعضهم، ازفولته، أو بويرم، وتعني تفضلوا، أو مرحبا أو ما شابه. في فريلو بوسنة تشد المرء الكثير من الجسور الخشبية، وهي فريدة من نوعها من حيث جمال التصميم، وقد تم تجديدها من قبل بلدية «إليجا» هذا الموسم، حيث لا تعثر على أي جسر حديدي وغيره من المعادن ما عدا الخشب وهو اختيار موفق يكشف عن عمق الحس الجمالي للبوشناق، وتوافق ذلك مع طبيعة المكان الذي يسحر الألباب. وهناك نحو 12 جسرا في منطقة لا تزيد مساحتها عن 10 آلاف متر مربع. وقد أضفت تلك الجسور على المكان جمالا على جمال. ويجد الراغبون في الاقتصاد والمتجنبون للاسراف المالي في فريلو بوسنة، غايتهم المنشودة، حيث توجد هدايا تذكارية لدى الباعة بأسعار زهيدة جدا، كما توجد مطاعم متنقلة للأكلات السريعة، وأغلبها تبيع الكباب، وتقوم بعملية تحضيره أمام الزبائن. ويقبل طلبة المدارس الوافدون من المدن أو الدول المجاورة في حفلات عملاقة تسد جانبي الطريق من جهة الشمال في أغلب الأحيان، على هذه الأطعمة لزهد أسعارها ولتفرد البوسنة من بين سائر دول الجوار، لا سيما صربيا وكرواتيا بأكلة الكباب. ورغم وجود مطاعم مشابهة في تلك الدول إلا أن سكانها يعتقدون أن كباب سراييفو له طعم خاص. أما غير الطلبة من الموظفين وغيرهم فيجدون متسعا في مقاهي فريلو بوسنة ومطاعمها من فئة ثلاث نجوم، حيث لا يمكن للزائر أن يعود أدراجه دون وجبة دسمة من المشويات أو الطعام الذي يطهى بدفنه أو ردمه داخل الجمر، خاصة اللحم سواء لحم ضان أو عجل أو دجاج. وله طعم مختلف عن الشواء التقليدي فوق الجمر، أو بنظام اللف الآلي بقوة الكهرباء أو الماء أو اليدوي، وكلها موجودة في البوسنة. كما تجد العائلات أماكن للجلوس التقليدي إن أرادت الابتعاد عن الآخرين، وكثيرا ما يحمل البعض فرشهم الخاصة، وطعامهم الخاص سواء المعد في البيوت أو المطاعم الاخرى، ويتحلقون حوله، كما يتناولون الحلويات وما يجلبونه معهم إلى المنتزه الذي توجد به أماكن لوضع القمامة وفضلات الطعام وغير ذلك. ويتوفر في منتزه فريلو بوسنة، القريب من سراييفو بنحو 15 كيلومترا أماكن للهو الأطفال، ولعبهم ومرحهم، بل يقضي أطفال المناطق المجاورة مثل إليجا وهراسنيتسا وسيكولوجشك كولوني وغيرها الكثير من أوقات فراغهم في التنزه داخل فريلو بوسنة بدراجاتهم الهوائية، مثل أدين وأدين وآدس وألمير الذين تركوا درجاتهم بالقرب من أحد منعطفات النهر الذي تم توزيع مياهه كما لو كان أنهارا متعددة، وذلك لغسل ما علق بثيابهم من الوحل المتطاير عند مرورهم ببركة ماء كنت قريبا منها. حيث عرفت أسماءهم وعلمت أنهم من سكان سيكولوشك كولوني وأنهم يأتون باستمرار إلى فريلو بوسنة كلما سنحت لهم فرصة لذلك، خصوصاً في أيام العطل المدرسية الاسبوعية وغيرها. وقد سعدوا جدا عندما علموا بأني سأكتب عن فريلو بوسنة وأذكرهم في القصة التي أعدها لملحق السياحة.

كان المكان الذي أقف عنده رائعا.. جسر خشبي من الجسور التي تم تجديدها حديثا على نهر البوسنة، ومن الأمام منظر بديع، حيث يغطي الماء مساحة كبيرة تحيط بها الأشجار الباسقة وأعداد من البط تسبح آمنة وفي خطوط وأشكال مختلفة وكأنها أزهار مغروسة في الماء، لكنها تتحرك ذات اليمين وذات اليسار وفي اتجاه الغرب والشرق فتضفي على جمال السكون روعة الحركة. ومن الخلف يسير النهر بهدوء في اتجاه البراري حيث يمر بالعديد من الاماكن في هدوء، ويستفاد منه في سقي الحقول والماشية، كما يتخذ من ضفافه شواطئ للسباحة في فصل الصيف، لا سيما للفئات الضعيفة. ورغم تجنبي هذه المرة وقف السيارة في مكان يدفعني لاستئجار عربة تجرها الخيول، فلا يعني ذلك أني لم أفعل ذلك من قبل، وتحديدا عند استقبالي لضيوف من خارج البوسنة. كما إني قطعت تلك المسافة مشيا على الأقدام مع الأصدقاء أحيانا، وأحيانا أخرى على دراجتي الهوائية التي قمت بإهدائها أخيرا، على أمل أن أشتري أفضل منها. ويمنع مرور السيارات والدراجات النارية إلى داخل المنتزه للمحافظة على أجواء الهدوء، ويفضل الكثيرون السير على الاقدام حتى بلوغ المنتزه خاصة أن الطريق إلى فريلو بوسنة، من جهة الشرق وحتى من الشمال يكتنز صورا ربيعية ممتعة يحلو فيها النظر كما يحلو فيها السهر، وتحلو فيها الحياة. ويمنع داخل منتزه فريلو بوسنة صيد السمك، الذي يسمح به خارج المنتزه، كما يمنع رمي الفضلات على الأرض أوترك بقايا الطعام عند الجلوس في داخل المنتزه بعيدا عن المقاهي والمطاعم المخصصة لذلك. وإذا أردت القدوم إلى البوسنة أو سراييفو، خاصة فريلو بوسنة، فيجب أن تجلب معك كاميرا تصوير، فالجميع هنا يلتقط الصور، كما تعقد الزيجات أحيانا، سواء بشكل فردي أو في إطار الزواج الجماعي تيمنا بالمكان، حيث يعد الماء رمزا للخصوبة. ويكون أول خروج للخطيب وخطيبته بعد الاتفاق على الزواج باتجاه فريلو بوسنة، فإذا رأيت فتاة وشابا في فريلو بوسنة، فاعلم أن العلاقة بينهما وصلت إلى حد التوافق، ولم يعد ينقصهما سوى تحديد موعد للزفاف.