أناطوليا والجزيرة.. تاريخ غني وتراث بارز

أسماؤها تبدلت لكنها بقيت شاهدة على الماضي

منطقة غنية بالآثار التي تجذب السياح من كل بقاع العالم («الشرق الأوسط»)
TT

إقليم جنوب شرق أناطوليا هو أصغر الأقاليم في تركيا، إذ تبلغ مساحته 8 بالمائة فقط من مساحة تركيا الإجمالية. غير أن الحدود الطبيعية لهذا الإقليم تتعدى المساحة منه التي تقع اليوم ضمن نطاق الدولة التركية. فالمنطقة الجغرافية الطبيعية التي يقع هذا الإقليم في رأسها الشمالي تمتد جنوبا بين نهري دجلة والفرات فتشمل منطقة الجزيرة التي هي اليوم جزء من سوريا، ثم أرض العراق. وقد عرفت هذه المنطقة قديما باسم شبه الجزيرة الفراتية، أو بلاد ما بين النهرين Mesopotamia، وكانت تشكل بكاملها مملكة العراق القديمة حيث قامت حضارة الآشوريين وحيث مهد الحضارة الفراتية التي تلاقت مع حضارة الأناطول فأثرت كل منهما في الأخرى منذ ما قبل التاريخ. ولإقليم جنوب شرق أناطوليا التركي تاريخ غني وتراث ثقافي بارز يتجلى في المواقع التاريخية العديدة التي تطالعك فيه أينما اتجهت. فإلى هنا جاء الحوريون بين عامي 2000 و1500 قبل الميلاد، وبعدهم جاء الحتّيون في حوالي عام 1200 قبل الميلاد. ومن هنا جاء سيدنا إبراهيم الذي تذكره الديانات السماوية الثلاث عليه السلام. فالعهد القديم يذكر أن ابراهيم خرج أصلا، مع أبيه وبعض أهله، من أور الكلدانيين ليذهبوا الى أرض كنعان. فأتوا الى حاران وأقاموا هناك. ومن حاران أخرَج الرب إبراهيم الى الأرض التي أراه إياها وباركه وعظّم اسمه (سِفر التكوين 21 :11 - 12:1). ومن الجغرافيين اليوم من يعتقد أن مدينة أورفه الحالية (Sanli Urfa)، الغنية بالمعابد والآثار التي يقام بجوارها اليوم سد أتاتورك الحديث الذي يحضن مياه الفرات في مشروع انعاش مائي هو الأكبر من نوعه في تركيا والسادس في العالم، هي نفسها أور الكلدانيين المذكورة في التاريخ القديم. وإلى الجنوب من أورفه تقوم حاران، أو حرّان Harran، حيث تقوم مجموعة من الأكواخ المقببة المبنية من الطوب يقال ان ابراهيم سكن فيها. ومن الآثار التاريخية أيضا في حران، التي كانت مركزا تاريخيا وثقافيا مهما في الجزيرة الفراتية، بقايا واحدة من أكبر الجامعات الإسلامية وأقدمها. وتخترق هذا الإقليم، من الشرق الى الغرب، سلسلة جبال ماردين حيث تلف مدينة ماردين التاريخية الجميلة جبلا منها وتتدرج صعودا الى قمته حيث قلعتها الأثرية تطل على السفح وما حولها من المواقع. وتبدو ماردين بما فيها من الآثار المعمارية والنقوش الحجرية الكثيرة التي ما زالت تزين المباني والبيوت والمدافن أيضا، وكأنها متحف كبير مكشوف ومسكون في آن واحد. فالنقش في الحجر، وكذلك حرفة صياغة الذهب والفضة التي يشتهر بها السريان من أهل مدينة «مذيات» بنوع خاص، من أبرز الحرف التي يختص بها سكان المنطقة. كذلك تشتهر مذيات بالمطرزات اليدوية الجميلة وتشتهر المنطقة عامة بالصباغة ودباغة الجلود وحياكة السجاد وحفر الخشب والتطعيم بالصدف وأشغال الحديد والنحاس والخزف وغيرها. وماردين موقع أثري محمي عالميا حسب تقارير منظمة اليونسكو (1979) وهي، الى جانب مدينة القدس ومدينة فينيسيا الإيطالية، واحدة من ثلاث مدن ما زالت آثارها المعمارية محفوظة بشكل جيد حتى الآن. وتطل ماردين من موقعها العالي على سهل الجزيرة الفراتية الخصيب حيث كانت تمر قديما قوافل التجارة ودرب تجارة الحرير على الأخص. وحسب ما تدل عليه الحفريات الأثرية كانت ماردين، التي خضعت لحكم السومريين عام 2850 قبل الميلاد، متقدمة في مجالات التخطيط المدني والري والزراعة. وبعد السومريين تعاقب عليها الأكاديون فالبابليون ثم الميديون الذين جاءوا من بلاد فارس وبقوا فيها حوالي 500 سنة ثم، حوالي عام 1367 قبل الميلاد، جاءها الآشوريون. أما الآراميون فقد جاءوا اليها من الجنوب واستمر وفودهم اليها طوال القرنين الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد، وقد شكل مجيئهم الى هنا عاملا رئيسيا في البنية الإثنية والثقافية التي ما زالت قائمة في جنوب شرقي أناطوليا الى اليوم. ورغم أن الفرس احتلوا هذه المنطقة في القرن السادس قبل الميلاد فإنهم جعلوا اللغة الآرامية اللغة الرسمية في جنوب شرق أناطوليا وهو ما ساعد على جعل الثقافة الآرامية بارزة في المنطقة. ثم ان انتشار المسيحية كان له التأثير الأقوى في التطور الثقافي في ماردين وجوارها بعد أن أصبحت هذه جزءا من الإمبراطورية الرومانية. كما أنه كان للخلاف بين البيزنطيين والساسانيين وقع كبير في المنطقة فيما بعد. أما الثقافة الإسلامية فلم تبدأ إلا في القرن السابع مع وصول العرب الى المنطقة. واسم «ماردين» جاءها من العرب والأتراك بعد أن كان اسمها «مارده» في اللغة السريانية. وفي ماردين اليوم عدد من الفنادق وفيها أيضا عدد من الجوامع والمدافن والكنائس والأديرة يعكس كل منها خصائص الحقبة التي بني فيها.

الى جانب اللغة التركية الرسمية تجد اليوم كثيرين من السكان ممن يتكلمون اللغة العربية في منطقة ماردين وجوارها. وتجد أيضا كثيرين من السريان المسيحيين ممن يتكلمون اللغة السريانية ويعملون على المحافظة عليها ويستخدمونها في الصلاة. فالكنائس والأديرة السريانية كثيرة في المنطقة ولكل كنيسة تاريخها. كنيسة «الأربعين شهيدا» قريبة من السوق الرئيسي في ماردين ويصل عدد المصلين المحليين فيها الى حوالي مائة عائلة ومن المحفوظات المقدسة في هذه الكنيسة جمجمة أثرية يقال انها جمجمة القديس بهنام الشهيد. وفي جوار ماردين ومدينة مذيات المجاورة عدد من الأديرة السريانية يجري العمل على تطويرها وإعدادها لتستقبل التلامذة والزوار إضافة الى الراهبات والرهبان الذين يقيمون فيها. من هذه الأديرة دير القديس جبرائيل شرق مذيات الذي كان مركز مطرانية طور عابدين من 615 - 1049، ودير عُمَر الذي يأتي اسمه من كلمة «عُمرَة» السريانية وهي تعني «كنيسة». ولعل أكثر الأديرة السريانية شهرة في المنطقة «دير الزعفران» الذي يقع على بعد حوالي ثلاثة كيلومترات الى الشرق من مدينة ماردين واسمه، كما يقال، يعود الى أنهم كانوا يخلطون الزعفران في الرمل المستعمل في الطوب، أي اللبنة التي يبنى بها الحجر، كي يكتسب الطوب لونا يماثل لون الحجر. قبل هذا الاسم كان الدير يعرف باسم مار حنانيا، حيث ان هذا الدير كان معبدا للشمس في الأصل ثم جعله بعض ملوك الروم حصنا منيعا ولما استولوا على قلعة ماردين عام 607 خربوه فظل مهجورا حتى ابتاعه مار حنانيا مطران ماردين بعد سنة 793 وجعله ديرا حيث تصعد الدرج المؤدي الى دير الزعفران وتدخل من المدخل الحجري المقبب فتجد نفسك في فناء داخلي هو عبارة عن باحة مكشوفة مربعة وسط البناء تتوسطها بئر ماء وفي زاويتين من زواياها شجرتا زيتون وفي واحدة أخرى من الزوايا شجرة عريش وأيضا شجيرة ياسمين وبعض غرسات الزهور. وتنزل العصافير من التلال الصخرية العالية خلف الدير لتشرب من جرن حجري صغير وتزقزق آمنة في الباحة الوادعة. ويأتي من يستقبلك من الكهنة أو العاملين في الدير فينزل بك أولا الى القاعة الحجرية التي كانت معبدا للشمس. بعد ذلك يقودك الى قاعة كبيرة بابها الجميل من خشب الجوز وفي جدرانها مدافن حجرية فيها رفات سبعة بطاركة ومطارنة متوفين ممن اعتلوا سدة الكرسي السرياني الأنطاكي. وحسب التقليد الكنسي فإن المتوفين من آباء الكنيسة يوضعون في حجيرات الدفن هذه جالسين على مقاعد خشبية وهم مرتدون كامل ملابسهم الكهنوتية. في القاعة أيضا كرسي بطريركي قديم وغير ذلك من التذكارات والأدوات والصور.

يفد الى الدير اليوم زوار وحجاج من شتى أنحاء العالم. وفي الدير أيضا مدرسة لتعليم اللغة السريانية والدروس الدينية، ويبلغ عدد الدارسين فيها حوالي عشرين تلميذا يقيمون في الجناح المخصص لهم من الدير ويتلقون هذه الدروس مساء بعد عودتهم من المدارس الإعدادية الرسمية، حيث يتابعون التحصيل العلمي والمناهج المدرسية الأخرى. وعدا عن القسم المخصص لهذه المدرسة وتلامذتها هناك عدد من المناسك للرهبان وعدد من الغرف للزوار وغيرهم من العاملين في الدير. الى الجنوب من ماردين تقع بلدة نُصَيبين، حيث عاش مار يعقوب السرياني وتلميذه مار أفرام السرياني اللذان شاركا في المجمع الكنسي المسيحي الأول الذي عُقد في نيقية سنة 325 للميلاد وأسسا بعد عودتهما من المجمع، مدرسة، تولى مار أفرام رئاستها مدة 38 سنة حسب ما تقول المصادر المكتوبة. وازدهرت هذه المدرسة التي تعرف في المصادر التاريخية باسم «مدرسة نُصيبين»، وكانت تحوي ما بين 800 - 1000 طالب وتقوم بتدريس الفلسفة والمنطق والأدب وعلم الفلك والطب والهندسة والقانون وكان السريان في تلك الأثناء قد قاموا بترجمة عدد كبير من الكتب من اللغة اليونانية الى السريانية. ودير مار يعقوب الأثري الذي يقوم في نُصيبين اليوم دير تاريخي قديم بني عام 328 بعد وفاة مار يعقوب السرياني ويحوي قبره ورفاته. وتشكل مدينة القامشلي السورية امتدادا جغرافيا طبيعيا لنصيبين التركية ولو أن مركزا رسميا حدوديا يفصل الواحدة عن الأخرى. وفي كل من القامشلي ومدينة الحسكة السورية وجوارهما أيضا عدد من الكنائس والأديرة السريانية منها ما هو حديث ومنها ما هو تاريخي جرى تطويره وتحديثه ككنيسة مار جرجس في الحسكة مثلا. وللسريان أيضا مدارس في المنطقة يفتحونها اليوم، الى جانب أنها مفتوحة للطلاب من شتى الطوائف، لإيواء وتعليم المسيحيين العراقيين الهاربين من القتل والمعارك الدائرة في العراق. فالعائلات المسيحية النازحة من العراق تجد مأوى لها اليوم في الكنائس السريانية في الحسكة، وكذلك في دير الزعفران، الى أن تجد لها طريقا للجوء الى الدول الأوروبية سواء عن طريق منظمة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أو غيرها.

في إحدى المدارس السريانية في الحسكة التقيت عددا من العائلات العراقية المهجّرة وعرفت منهم أن هناك اليوم حوالي 424 عائلة عراقية مهجرة، من السريان والكلدان والآشوريين، موزعة كما يلي: 222 عائلة تقيم ما بين الحسكة والخابور و180 عائلة تقيم في القامشلي و19 عائلة في المالكية وثلاث عائلات في رأس العين. جميع هذه العائلات تسعى الى السفر واللجوء الى الدول الغربية لحاقا بمن سبقها من العائلات من قبل. وقد يطول بقاؤها في الحسكة ريثما تتم معاملات السفر. والكنيسة السريانية الأرثوذكسية في منطقة الجزيرة في سورية، برئاسة راعيها المطران أوسطاثيوس متى روهم مطران الجزيرة والفرات، تقدم لهؤلاء كثيرا من الرعاية والمساعدات التعليمية والإنسانية رغم أن مصلحة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة تشرف عليهم هي الأخرى وتقدم لهم المساعدات. وقد أفادني بعض من التقيتهم هناك أن أبواب الهجرة أمام هؤلاء المسيحيين الشرقيين مفتوحة كما يلي: ألمانيا تفتح الباب للسريان الكاثوليك، والسويد تقبل السريان الأرثوذكس، وأميركا تقبل الكلدان، وأستراليا تقبل الآشوريين. أما دير السيدة العذراء في تل ورديات في الحسكة فهو دير حديث تم شراء أرضه في عام 1992 وموقعه قريب من الطريق العام بين الحسكة - حلب.