طليطلة .. مدينة ينبع التاريخ من حجارة أبنيتها

تبدو كعروس في ليلة زفافها

قصر «الكازار» يشرف على قمة مطلة على النهر («الشرق الأوسط»)
TT

قلة هي المدن العريقة التي حافظت على رونقها وروعتها عبر القرون، ونخبة منها تمكنت من ترسيخ ماضيها وكأنه حدث بالأمس. طليطلة في طليعة هذه النخبة، بصمة التاريخ، تستحضر الماضي كنزا ثمينا ولؤلؤة على ضفاف النهر، تنظر اليه يغسل قدميها، عروسا في ليلة زفافها. ينبع التاريخ من حجارة أبنيتها المتلاصقة في قبلة أبدية، ومن شوارعها الضيقة التي عصيت على رياح الزمن، ومن نوافذها المتعانقة أبدا، مطلة على باحات داخلية يفوح منها عطر الفل والياسمين والقرنفل عند الأمسيات الدافئة، ومن زهر اللوز الابيض الذي يكسو حقولها، لكأن نصاعة الماضي أبت إلا أن تكون حاضرة.

طليطلة مدينة الثقافات الثلاثة، الاسلامية والمسيحية واليهودية، مدينة التسامح، تشكّل مرجعا لكل من أراد أن يرتوي من ينابيع عذبة لحقبة إسلامية امتدت أربعمائة سنة جعلت منها مركزا ثقافيا وعلميا من الطراز الأول، عاش فيها رواد العلم والفن والساعون وراء المعرفة.

تعتبر طليطلة من أهم المدن السياحية الاسبانية وتبعد عن العاصمة مدريد حوالي 70 كلم. يُلزم حرّها الشديد في فصل الصيف وبردها القارس في فصل الشتاء، زيارتها خلال فصلي الخريف والربيع سيرا على الأقدام للتمتع بشوارعها الضيقة وأبنيتها التاريخية التي حافظت عليها السلطات المحلية كنزا سياحيا يقصده السياح من أبعد بقاع الأرض. بالإمكان الوصول إليها إما بالسيارة التي يُنصح بتركها على أبواب المدينة، أو بواسطة القطار السريع (AVE) الذي تستغرق رحلته من مدريد ما لا يزيد عن 30 دقيقة. كثيرة هي الشركات السياحية التي تنظّم الرحلات من مدريد الى طليطلة، ليوم واحد أو يومين، كافية للتعرّف على معالم المدينة السياحية والأثرية والتمتع بأطباقها التقليدية وحلوياتها اللذيذة التي تستخدم فيها المنتجات المحلية وتُحضّر بنفس الطريقة المتبعة منذ مئات السنين.

أول ما يشاهده الزائر عندما يصل الى مشارف المدينة هو هضبة غير كبيرة تعلو عن ضفاف نهر «تاخو» حوالي مائة متر، على رأسها «القصر الكبير» تحيط به أبنية تاريخية مكتظة، مصفوفة واحدا تلو الآخر، ويدور مجرى النهر حولها في شبه دائرة. وهذا الموقع الاستراتيجي هو الذي جعل منها مركزا جذابا للغزاة تسهل حمايته.

كثيرة هي الزيارات التي تعرّفك بالمدينة، فهناك الزيارات الهندسية التي تقرّب السائح الى روعة وبهاء الأبنية، أو الثقافية التي يتعرّف عبرها الزائر الى إبداع الرسام الطليطلي «أيل غريكو» و«تيزيانو» و«غويا» وغيرهم، أو الدينية التي تُدخلك الى عشرات الأماكن المقدسة المسيحية والاسلامية واليهودية. كما وهناك الزيارات التي تقودك الى المغاور الرومانية أو الحمّامات العربية، أو التي تتمتع من خلالها بتذّوق ألذ وأشهى ما يخبّئه لك المطبخ المحلي.

يحيط بها سور عال تتخلله عدة مداخل أهمها ثلاثة، المدخل الأول، يدعى «باب المفصلة» (Bisagra) أو «باب السهل» ويعتبر المدخل الرئيسي للمدينة، يعود الى الحقبة الاسلامية، رمّمه الملك كارلوس الأول. والمدخل الثاني، يطلق عليه اسم «باب الفونسو السادس»، أو «باب المفصلة القديمة»، وهو أيضا من جذور إسلامية، بني في العام 838، ويعتبر من أهم معالم المدينة التي تعكس الفن الإسلامي. و«باب الشمس» الذي ينتصب في جهة المدينة الشرقية. يقال إنه بني على عهد المأمون ذي النون الذي حكم المدينة في مستهل القرن العاشر، ويعتبر هذا الباب أيضا من أبدع التحف الهندسية التي خلفها العرب في المدينة، رممته السلطات المحلية في الآونة الأخيرة.

إذا كنت، عزيزي القارئ، من محبي الفن والمتاحف، فعديدة هي الأماكن التي بإمكانك زيارتها. فهناك «متحف الفن المعاصر» الذي يحتوي على عدد كبير من اللوحات والمنحوتات والرسوم لعدد كبير من فناني القرن العشرين، و«متحف الجيش» الذي تعرض فيه المعدات الحربية التي استخدمت في العصور الوسطى، بالإضافة إلى كمية من الاسلحة النارية وغير النارية التي استعملت في المدينة في الحقبة نفسها، ومجموعة من البيارق والبذات العسكرية ومجسمات أهم المعارك التي خاضتها المدينة وجوارها في القدم. وهناك أيضا متحف الفنان الطليطلي الشهير «أيل غريكو»، الذي افتتح في العام 1991، ويشمل المنزل الذي أقام فيه الرسام وعددا من الأغراض والأثاث الخاصة به، بالإضافة إلى أهم أعماله. كما وهناك أيضا متحف «سانتا كروث»، ومتحف «دوكي دي ليرما» وغيرهم.

وإذا كنت من محبي فن العمارة القديمة، فأمامك في طليطلة العديد من الأبنية التي ستبهرك في جمالها ورونقها. أهم هذه الأبنية هو مسجد «مسيح النور»، الذي بني في عام 999 على الطراز الإسلامي، وما زال على حاله حتى يومنا هذا. يقال إن اسمه القديم هو مسجد «باب المردوم»، قبل احتلال المدينة من قبل النصارى. وكاتدرائية طليطلة، التي بنيت فوق مسجد إسلامي كان قد بني بدوره فوق كنيسة. وضع حجر أساس هذه الكاتدرائية في عام 1226، واستمر بناؤها أكثر من 200 سنة، من أهم أعمال الفن الغوطي الإسباني. والقصر (Alczar) الذي يعود الى الحقبة الرومانية، رممه للمرة الأولى الملك الفونسو السادس، ثم الملك الفونسو العاشر، ثم أعاد بناءه من جديد الملك كارلوس الخامس، يعتبر من أهم معالم المدينة الاثرية.

ولكن أهم حدث في طليطلة على الإطلاق هو يوم عيد «جسد المسيح». يحتفل به بعد مرور ستين يوما على عيد الفصح المجيد لدى الطائفة الكاثوليكية. يعود هذا الاحتفال الى القرن الخامس عشر، وهو عبارة عن موكب ديني تتخلله الأناشيد والموسيقى وعطر البخور. تبدأ الاحتفالات قبل العيد بخمسة أسابيع، تلبس فيها المدينة حلتها الجميلة، وتتدلى من نوافذها وشرفاتها العتيقة أبسطة وبيارق من القرنين السادس عشر والسابع عشر، وتكتسي الطرق بالزهور والاعشاب العطرية التي تضفي على المدينة رونقا وجمالا.

كأي مدينة سياحية إسبانية، تقدم طليطلة لزوارها أشهى وألذ الأطباق المحلية. ولعل أفضل الأماكن التي يمكن للزائر أن يتمتع فيها بهذه الأطباق، هو مطعم أدولفو (Adolfo)، الذي يقع في شارع La Granada. يوجد هذا المطعم في مبنى قديم يعود الى القرن الثاني عشر وفي قلب المدينة القديمة. 1900 هي الأطباق التي يقوم بتحضيرها صاحب المطعم ورئيس الطباخين «الشيف أدولفو» ومساعدوه، معظمها يستخدم المنتجات التي يزرعها بنفسه. من أشهر أطباقه «الحجل الأحمر»، وسمكة لوبينا (Lubina Salvaje)، والخضار المشوية والأعشاب العطرية. زيارته إلزامية إذا كنت من ذواقي الأطباق الفريدة والتقليدية. ومطعم آخر لا تقل أهميته عن السابق، هو مطعم Casn de los Lpez de Toledo الذي يقدم أيضا أشهى الأطباق المحلية التقليدية والعصرية. من أشهر أطباقه لحم الأيل أو الظبية بالسبانغ أو الفطر. أما إذا كان وقتك قليلا، أو تريد أن تمضيه بالتمتع في زيارة المدينة، فهناك عدد كبير جدا من المطاعم المكتظة على جانبي شوارع المدينة الضيقة التي تقدم أطباقا شهية ولذيذة وبأسعار معقولة.

تتميّز طليطلة بصناعاتها الحرفية التي تعرض منتجاتها في المحلات المنتشرة في أرجاء المدينة، وعلى الأرصفة التي يرتادها السياح. لها طابع خاص يشبه كثيرا الطابع الأندلسي. وتشتهر أيضا بالصناعات الخزفية وصناعة السجاد. ولكن الحرفة التي اشتهرت بها المدينة بالامتياز، وريثة الماضي البعيد، هي حرفة الترصيع بالذهب أو الفضة أو الرصاص، لتزيد جمالا وروعة على صناعاتها الحرفية والخزفية المصنوعة من الفولاذ المحلي والتحف الفنية النادرة التي يصنعها المحليّون بدقة ومهارة لا مثيل لهما، فنجد السيوف على أشكالها، والسكاكين والخناجر، والصحون على أحجامها المختلفة.

كما تتميّز أيضا مدينة التسامح بصناعة الماثابان (Mazapn). فقد اختلف المؤرخون على أصل هذا النوع من الحلوى التي تصنع من اللوز والسكر والعسل. فمنهم من يقول انه من أصل يوناني، وآخرون يؤكدون أنه روماني. ولكن الرواية الشائعة تقول ان راهبات دير القديس «كليمنتي» هن من أوائل من قام بتحضيره خلال فترة من الجوع ضربت المدينة بعد معركة Navas de Toledo في عام 1212، انقطع فيها القمح، وكانت مخازن الدير مليئة باللوز والسكر، فبدأن بصناعة نوع من الخبز (Pan) يستخدم اللوز، بدل القمح، الذي يُضرب بمطرقة (Maza) لطحنه، ومن هنا جاء اسمه Mazapn. ولكن رواية ألف ليلة وليلة هي أولى الكتب التي ذكرت الماثابان كغذاء يساعد على تحمّل الصوم أثناء شهر رمضان الكريم.

إذا طالت زيارتك للمدينة وأردت أن تمكث يوما أو يومين، فكثيرة هي الفنادق في طليطلة وضواحيها. أجملها فندق El Parador القريب من النهر، المطل على معالم المدينة الاثرية كالقصر والكاتدرائية، ويقدم أرقى الخدمات. وفندق Sliken Cigarral El Bosque الفخم الموجود في أحد أقدم حدائق المدينة في ضاحية بعيدة عن الزحام. وهناك أيضا فندق Eurostars القريب من الوسط التجاري. كما نجد فندق الرسام أيل غريكو (Pintor El Greco) الموجود في وسط المدينة القديم تحيط به معالم المدينة الاثرية. بالإضافة إلى عدد كبير من الفنادق السياحية المنتشرة التي تتناسب مع مختلف الأذواق والجيوب.

إذا مررت في مدريد، عزيزي القارئ، فلا بد إلا وأن تعرّج على طليطلة، كي تتعرّف على مدينة حافظت على ماضيها وتاريخها كما لم تحافظ عليه أي مدينة أخرى. وإذا عرّجت عليها فلا بد إلا وأن تزور قصرها الشامخ أبدا. يقول الكاتب «إذا كانت طليطلة زهرة إسبانيا، فإن القصر زهرة طليطلة».