سيرا على «أقدام المغامرة» تحت أفياء أرزات الشوف

طبيعة غنية وشهية مفتوحة وسرقة موصوفة

انحناءة.. للقطات من كل الزوايا (خاص «الشرق الأوسط»)
TT

كان قطف ثمار التوت الحمراء والتهامها خلسة وبشراهة أيضا حتى صبغ عصيرها كل اصابعي، من أجمل اللحظات التي انطبعت في ذاكرتي لدى تمضية عطلة نهاية الاسبوع في قرية معاصر الشوف وزيارة محمية الارز اعلاها. والتهام الاجاص خلسة ايضا، فتلك حكاية سأرويها لاحفادي ان عشت طويلا، لان طعمها كان مختلفا عن كل ما ذقت من فاكهة، ربما يعود الفضل في ذلك الى طريقة الحصول عليها. لقد بدت فصلا من فصول افلام «الويسترن» الاميركية واشبه بمن يتشبّث بغنيمته بعد جهد كبير. أما اصابع الخيار والقثاء.. الهي اعتقد انني ارتكبت الكثير من الخطايا، خصوصا عندما تسلّلت وصديقتي الى تلك الحديقة الخلفية لمركز «اركانسييل» حيث بتنا ليلتنا برفقة مجموعة من رفاق الجامعة. صحيح اننا طلبنا الاذن من المسؤولة اوّلا، لكننا حرصنا على التسلّل لئلا يرانا بقية اعضاء المجموعة. وكان رأس البندورة (الطماطم) الجبلي العملاق أثمن الغنائم من دون اي منازع! ولهذا عمدت الى اخفائه في حقيبتي ليصل سالما الى بيروت. وكتمت سرّي حتى تأكدت من بلوغ بيتي حرصا على تجنّب شراهة الباقين.

الواقع ان دهشتي ودهشة كل من حولي بقطف تلك الثمار والخضار، بدت كدهشة طفل يقف للمرة الاولى امام المرآة، لكن بفارق اساسي: الصورة التي نراها هنا حقيقية وليست تخيّلية! أردناها عطلة استثنائية ولذلك لم نبحث عن منتجعات فخمة أو نحرص على زيارة افخم المطاعم لتناول الاطباق بالأواني الفضية او الجلوس الى مائدة منمّقة ومقيّدة بأصول الايتيكيت. اردنا ببساطة تمضية يومين نصغي فيهما الى الطبيعة بلوحاتها ورائحتها وموسيقاها، فلم نحضر سوى احذيتنا الرياضية والقليل القليل من الحاجات الضرورية. المغامرة بدأت من بيروت حين طرأ عطل على احدى السيارات، ما اضطرنا للوقوف اكثر من ساعتين الى جانب الطريق السريع ننتظر قدوم الميكانيكي. والمفاجأة الثانية كانت مع وصول فخامته، فإذا به يستلقي تحت السيارة، حاملا اداة حادة يقرع بها كهاوٍ لاننا لم ندر ماذا فعل تحديدا، ثم أطلّ برأسه من اسفل ليبشرنا بأن السيارة اصابها «مكروه» ما لم يستطع فك طلاسمه... ورغم ذلك طلب اجرته عدا ونقدا. النتيجة ان احدانا انهالت عليه صراخا حتى خفّض اجرته واخرى عادت ادراجها الى بيروت في شاحنة قَطْر فيما جلسنا سبعة في السيارة الاخرى لان المجموعات الاخرى كانت قد سبقتنا! هنا بدأت المفاجآت وتوالت الواحدة بعد الاخرى، لكنها سرعان ما تحوّلت من سوداء الى بيضاء. وربما مواجهة المواقف الصعبة خلال الرحلة بابتسامات عريضة، ساعدت على تبديد المنغصات. ولعلّ افضل ما يمكن ان يختبره المرء في ظل غياب دليل سياحي أو لافتات واضحة، هو سؤال اللبنانيين عن وجهة سيره اذا ضلّ الطريق. وهكذا أمضينا ساعتين نسأل عن وجهة «معاصر الشوف» كل عشر دقائق، ليرشدنا احد الطيبين مع التأكيد انه لا يلزمنا سوى عشر دقائق لبلوغها. فغابت الشمس وطلع القمر قبل ان نصل الى هذه القرية التي بدت من النظرة الاولى انها تستحق كل هذا العناء.

ليلا، لم نستطع التعرف الى معالمها. استعضنا عما فاتنا بعشاء قروي من اجبان وألبان وخضار وشاي قبل ان تنصرف كل مجموعة الى غرفتها. كان النوم في ذاك الطقس الجبلي البارد الذي اعشق، كفيلا بأن يزيل كل تشنّج. لم نكد نغمض جفوننا حتى طلع الصباح. انتظرت صياح الديك ليوقظني كما اعتدنا ان نقرأ في كتب القراءة المدرسية، ولكن المفاجأة ان الديك غرق في نومته فاستفقنا على صوت بيتر ذاك الصبي الصغير الذي كان بصحبة والديه. وهكذا صار بيتر «ديك» المجموعة! نزلنا ادراجنا لنكتشف الترويقة اللبنانية العامرة التي اعدّتها باحتراف السيدة مي وهي الموظفة في الدير الذي تستثمره جمعية «اركانسييل» التي تعنى بمساعدة المعاقين. امضينا نحو ساعتين نتلذّذ بأطايب المائدة ونتبادل الاطباق كما الاحاديث الى ان امتلأت بطوننا وشعرنا بالحاجة الماسة الى الانطلاق لحرق السعرات الحرارية. فأوصلتنا محرّكات السيارات الى «محمية ارز الشوف» التي تشكل اكبر محمية طبيعية في لبنان وآخر امتداد للارز جنوبا. وهناك تطوّع المرشد ريبال لمرافقتنا وتعريفنا الى المحمية. اللافت انه رغم الزيارات المتكررة لهذا المكان، تبقى هناك «اسرار» يكتشفها المرء في كل مرة. وغني عن القول ان اجتياز مسافة معينة استغرق ضعفي الوقت المطلوب بسبب التوقف المستمر لالتقاط الصور التي وصلت الى المئات. لم يفتنا جذع ارزة أو نبتة او صخرة.. حتى كاد احدنا يسقط لولا العناية الالهية! وكانت ارزة لامارتين التي يرقى عمرها الى 3 آلاف سنة من ابرز «محطات التصوير». لم يهدأ «فلاش» الآلة الفوتوغرافية تماما كأقدامنا التي راحت تنقلنا من مكان الى آخر تحت افياء هذه الارزة لالتقاط الصور من زوايا مختلفة. وبعد ساعتين عدنا ادراجنا تاركين وراءنا آثار اقدامنا فقط وضحكاتنا التي ملأت الاجواء وبعضنا ترك احلامه بالبقاء في هذا المكان الذي يستحق جزيل الاحترام لفرط ما يجعل الانسان في لحظات قريبا من الخالق! وفي طريق العودة، عرّجنا نتجوّل في ارجاء هذه القرية التي كانت مثخنة بجراح الحرب الاهلية. السكينة والهدوء كانا يخيمان عليها رغم ان نحو ثلاث حفلات اعراس اقيمت في ذاك اليوم. احداها في حديقة القرية التي زيّنت للمناسبة. عرس لا يحتاج الى اكثر من 500 دولار فهو بعيد كل البعد عن التكلّف ولكنه مليء بالفرح والزغاريد النابعة من الحناجر الجبلية. تعرّفنا الى الحارات القرميدية للقرية وبعض من اهلها، لا سيما اولئك الذين رحبوا بنا اثناء محاولاتنا «سرقة» ثمارهم. أحدهم قبض علينا بالجرم المشهود، لكنّه لم يتوان عن دعوتنا لمتابعة «فعلتنا»، حتى انه دعانا الى الغداء! وسيدة مسنّة عرضنا عليها ان نقلّها الى منزلها. اعتذرت بابتسامة وقدّمت لنا بعض الدراق «الحلال» وقد قطفته للتو. نحو ساعتين امضيناها نتنقّل من شجرة الى اخرى، ذقنا ثمار القرية وقطفنا بعضها رغم انه يحتاج الى شهر للنضج. وعدنا الى مكان اقامتنا لتناول الغداء، رغم ان بطوننا كانت منتفخة. لكن الطقس الجبلي يتكفّل بـ«فتح» الشهية لا ندري كيف. نصف ساعة فقط وانطلقنا للجولة التالية من الطعام. كانت جولة مع التبولة والسلطة اللبنانية وما رافقها من مازات لم تكن تقليدية بفضل مذاقها اللذيذ. وكانت مي مرة اخرى تتنقل كالنحل الذي انهمكنا في مطاردته، تسألنا لتتأكد من ان كل شيء يروقنا. انتهى الغداء لكن يومنا لم ينته. تابعنا جدولنا نزولا. سلكنا طريقا مختلفا للعودة. مررنا بالباروك ونبع الصفا وصولا الى حمانا، حيث الناس كانوا ايضا كالنحل منهمكين في التنقل بين اجنحة «مهرجان الفاكهة والكوميديا». وصلنا الى بيروت والمساء كان قد سبقنا اليها وفي جعبتنا ما اشتريناه من مونة و«سرقناه» من خضار والكثير الكثير من الصور والقصص والخبريات التي تروى حفظاً لذاكرة القرية اللبنانية التي اعتبرها أنيس فريحة «حضارة في طريق الزوال»!