صقلية.. جمال لن يمحى من الذاكرة

سر العيون الصغيرة والواسعة عند شيخ الصيادين

ابنية اثرية مخصصة للمشاة تشد السائح اليها («الشرق الأوسط»)
TT

اذا كنت تحب المآكل اللذيذة والشمس الساطعة والشواطئ البحرية والنزهات المتكاسلة فعليك بجزيرة صقلية. واذا كنت تبغي تداعي الذكريات التاريخية حين حكم العرب تلك الجزيرة الايطالية من عاصمتها باليرمو منذ عام 827 ميلادية بقيادة أسد بن الفرات القادم من تونس حتى عام 1091 فعليك بغرب صقلية. ستجد هناك المدن الاغريقية الساحرة التي تحولت الى مدن عربية وما زالت تحتفظ بأسمائها العربية حتى اليوم. الأمثال كثيرة من الباقرية وسالمي ومزارة الى نجمة وشكا ومرسى الله (المسماة مارسالا) أما جبل حمد (أو محمد) فتحولت الآن الى أريتشه بالايطالية وبجوارها تراباني التي احتفظت باسمها اليوناني وبإرثها الطعامي العربي فاختصت بالكسكسي مع السمك الذي ينافس الأكلة الشعبية الأولى في بلاد المغرب العربي، وهناك أحياء في باليرمو ما انفكت تسمى حي القلعة وحي الخالصة كما تداخلت الكلمات العربية مع اللغة الصقلية المحلية وأشهرها كلمة: مسكينو (أو مسكين).

قفزة خارج أوروبا: وصلنا بالطائرة من روما الى باليرمو خلال ساعة واحدة (وبالامكان السفر بالسيارة أو القطار من روما ثم الركوب بالسفينة عبر مضيق مسينا) ثم تابعنا الطريق الى الغرب لنصل تراباني بالحافلة (الباص) بعد ساعة ونصف مرورا على طريق ساحلي خلاب، ومنذ اللحظة الأولى تحس وكأنك قد قفزت قفزة واحدة وخرجت من أوروبا لتدخل عالما جديدا وقديما في آن واحد، فصقلية هي أكبر جزيرة في البحر الأبيض المتوسط وأكثرها تنوعا وأكبر الأقاليم العشرين المكونة للأراضي الايطالية ويسكنها خمسة ملايين نسمة والعديد من الوجوه يحمل السمات العربية والطعام لذيذ للغاية ويختلف عن طعام ايطاليا فهو مزيج من المطبخ الايطالي والعربي والفرنسي والاسباني واليوناني بطريقة فريدة راقية تصلح للقصور الملكية وخاصة الحلويات، والمشكلة هي أن تتمكن من مقاومة اغراء المقبلات والأسماك الطازجة والخضراوات ذات الطعم المميز والزيتون الفاخر والعسل الطبيعي الذي تفوح منه رائحة الأزهار الزكية. يجب ان ننسى مغريات السياحة في كاتانيا وتاورمينا (أو طير مينة كما سماها العرب) وراغوزا في شرق الجزيرة بطابعها الأغريقي وأن نتغاضى عن وجود المافيا لأنها لا تهتم بالسياح ثم نرى ماذا تقدم لنا تراباني. يلاحظ الزائر أن تلك المدينة الصغيرة قد نفضت عنها الغبار منذ سنتين وأصبحت في منتهى النظافة بينما تغرق نابولي في مشاكل القمامة مضطرة رئيس الوزراء برلسكوني للتدخل شخصيا لحل المشكلة. تقع اريتشه بجوار تراباني الساحلية وتتمتع بمناظر رائعة للبحر من قمة جبل حمد الذي تصله خلال نصف ساعة من الصعود الملتوي بالسيارة أو الحافلة وتشرف على مدينة تراباني من علو شاهق مذهل ستختزنه الذاكرة دون أدنى شك، واذا كان حظك جيدا يمكنك أن ترى الأرض التونسية في كاب بون في يوم صاح وفي اريتشه من الأحراش وأشجار الصنوبر ما ينافس لبنان ويتفوق عليه منذ أن بنى الأغريق فيها معبدا لربة الجمال فينوس وفي ذروة الجبل تجد فندقا فخما ينتجع اليه النجوم والمشاهير ليتمتعوا بالهدوء والصفاء والهواء العليل ومن آخر زبائنه نعومي كامبل وتوم كروز لكن الزيارة كانت محدودة ساعة وصولنا لأن الفندق كان يستعد لحفلة زفاف أحد الأثرياء الايطاليين ولا وقت لديهم لاستقبال الصحافيين.

شبيه كاسترو: لم أصدق حين زرنا احدى الجزر الرائعة بجوار تراباني وقابلنا رئيس الصيادين فيها المختص بصيد سمك التن (التونا) أنه ليس الشقيق التوأم للرئيس الكوبي فيدل كاسترو فهو يدعى غونزاليس ريس من أصل اسباني كما أنه أطول وأضخم رجل في الجزيرة يلتحي مثل كاسترو ويبتسم على طريقته واذا ذكرت له تاريخ عيد ميلادك فسيفكر بضع ثوان ثم يخبرك بيوم ولادتك، ولامتحان خبرته أعطيته يوم وشهر وسنة ميلاد ابني فجاء جوابه بكل ثقة ودقة «لقد ولد يوم الخميس» وكان مصيبا، وحين زرنا البلدة وجدت عددا من الحوانيت التي تبيع علب التن وعليها صورته اذ يظهر أنه ليس مشهورا بالفراسة فحسب بل بالشجاعة والاقدام أثناء الصيد. وسألته: ما الفرق بين أصحاب العيون الصغيرة والعيون الكبيرة فأجاب بايمان الخبير «احذر من العيون الصغيرة الضيقة فأصحابها مكرة ودهاة أما العيون الكبيرة فتدل على الطيبة والكرم».

ملح البحر الفينيقي: برع الفينيقيون بفنون وصناعة البحر والملاحة وجابوا المتوسط وأنشأوا قرطاجة ووصلوا في قديم الزمان حتى بحر عمان لكنني لم أتصور أنهم كانوا يستخرجون الملح البحري من مملحة خاصة في شاطئ تراباني ما زالت تقوم بنفس المهمة حتى يومنا هذا وتبيع الملح الصحي باسم «موتيا» كما سماه البيزنطيون قبل ألف وخمسمائة عام. طريقة تجميع الملح وغسله ثم تجفيفه تحت أشعة الشمس تتبع التقنية القديمة. والجديد في الأمر هو استخدام الطواحين الهوائية لتوليد الطاقة والكهرباء منذ حوالي مائة عام، وكانوا يبيعون الملح للمستهلك أيام موسوليني في دكاكين بيع السجائر والتنباك أما اليوم فبإمكان الراغب في شراء هذا الملح الخاص للطعام وحتى حبيباته الكبيرة على شكل مجوهرات لدى الحوانيت المختصة بالأكل الصحي.

غوص في التاريخ: لا يمكن للزائر فصل التاريخ عن أية بقعة في صقلية فقد مر عليها الغزاة كلهم لكن الحقبة العربية تميزت بنهضة الجزيرة التي أحبها العرب مثل الأندلس وتصاهروا مع عائلاتها وبناتها ولم يفرضوا عليها الضرائب المجحفة كما فعل الاسبان والفرنسيون فاتسم نظام حكمهم بالتسامح كما أصلحوا الأراضي الزراعية وحسنوا نظام الري لذا تلحظ نوعا من الحنين والفخر لدى كثر من أبنائها اليوم بما خلفه العرب فيها قبل استيلاء النورمان عليها قادمين من السويد فكان الاجتماع الأول والأخير لهم مع العرب في أحد أهم المواقع الاستراتيجية في المتوسط أيام القرون الوسطى. نجح الغزو الاسلامي للجزيرة حين ضعفت الامبراطورية البيزنطية التي سيطرت عليها لمئات السنين وتألف الجيش أساسا من العرب والبربر من شمال افريقيا والأندلس، وحكمت صقلية سلالة الأغالبة فأقامت فيها امارة صقلية ثم ورث الفاطميون الحكم فصاروا يحكمونها من المهدية في تونس أو القاهرة التي بناها قائد الجيش الفاطمي جعفر الصقلي.ومن تلك الجزيرة عبرت الحضارة الاسلامية الى اوروبا لأن باليرمو، مثل الأندلس، كانت منارة للعلم والبحث في تلك الأيام.

معبد الاغريق: من ملامح غرب صقلية السياحية الرئيسية زيارة معبد ساجيستا الاغريقي على الطريق بين تراباني وباليرمو الذي بني عام 424 قبل الميلاد بالأعمدة الدورية وهي أقدم وأبسط انواع الأعمدة المستخدمة في الطراز المعماري الاغريقي. حين ترى بناء المعبد من أسفل الهضبة تظن أنه قريب وأنك ما زلت تعيش أيام سطوة أثينا وفلاسفتها العظام أو كأنك تشاهد فيلما سينمائيا تاريخيا يشارك فيه سقراط وأفلاطون وأرسطو ثم تلتفت فتلحظ المسرح الاغريقي القريب من المعبد حيث كانوا يمثلون مثل أثينا وسبارطة مسرحيات أوريبديس وسوفوكليس التي تنتهي بالفاجعة المأساوية لكن حين تبدأ في المشي صعودا عليك أن تحسب نصف ساعة من تسلق الهضبة قبل أن تصل الى المعبد لاهثا منقطع الأنفاس، ويبدو أن الاغريق كانوا يحسبون العامل النفسي لأن الذي يصل الى القمة وينظر الى الأسفل يحس بقوة الإيمان وصفاء الفكر وجمال الطبيعة والأشجار التي تصل الى شاطئ البحر وسط هدوء وخشوع لا تعترضه سوى أصداء صوت الطيور والعصافير.

صقلية قارة متنوعة لا جزيرة بسيطة ففيها الجمال واللطف وروائع المناظر السياحية والجزر الصغيرة الساحرة الملحقة بها وحسن الاستقبال لكن لا تتوقع أن يصل فيها القطار أو الحافلة حسب الموعد فمراعاة المواعيد ليست دقيقة دائما انما الأكيد أنك ستستمتع بالسباحة في أجمل شواطئ المتوسط وبوجبات الأكل الشهي وستفتش عن كتاب لطهي الطعام الصقلي الأصيل قبل القيام برحلة العودة.