رحّالة لبناني يصادق الطائرة ويكتشف شمس الليل

14 عاماً من السفر المتواصل

الرحالة نبيل إلياس رومانوس («الشرق الأوسط»)
TT

اللبناني نبيل إلياس رومانوس، نائب رئيس شركة عالمية متخصصة في المعالجة الشعاعية، اختار حياة الرحّالة والأسفار منذ نحو 14 عاماً، تارة بدافع لذة الاكتشاف والتعرف، وتارة بدافع العمل الإنساني، متخذاً أربع قواعد انطلاق في رحلاته البطوطية هي: لبنان، كاليفورنيا، ميونيخ، وسنغافورة، متسلّحاً بست لغات هي: الفرنسية والإسبانية والبرتغالية والإنجليزية والإيطالية، بالإضافة إلى العربية. هو يقول «قاعدتي تكون حيث أكون، وأكثر الأصدقاء التصاقاً بي الطائرة التي تأخذني إلى أي مكان في العالم، وإلى أي مكان أريد. إنني أعايشها أكثر من أصدقائي البشر».

لكل سنة في حياة نبيل انفعالاتها، وصورها، ورحلاتها، وذكرياتها. كلها مدونة في دفاتر شخصية يهوى جمعها والاحتفاظ بها، كما يهوى المرء جمع الآثار أو اللوحات أو القطع النادرة. يفهرس أيامه بالتفصيل، ويطبع كل انطباعاته، ويسجل كل أرقامه القياسية.

وبشيء من الشغف يخرج من حقيبة السفر مدونتي العامين 2007 و2008، لنجد فيهما البلدان التي زارها، وناهز عددها الخمسين، وقصد فيها نحو 92 مقصداً، تخللها تكرار الزيارات لبعض البلدان ولبعض المقاصد. وقبل أن ينتهي عام 2008، يكشف لنا نبيل عن رحلاته في الخمسة عشر شهراً الأخيرة، بصرف النظر عن عبوره الإجباري في لبنان وأوروبا والولايات المتحدة، وهذه الرحلات شملت: باكستان، ألبانيا، الأرجنتين، موزمبيق، بوليفيا، صحراء أتاكاما في تشيلي، روسيا، منغوليا، الصين، جنوب أفريقيا، بيرو، سنغافورة، تايلاند، هونغ كونغ، فنزويلا، والنمسا. وخلال رحلته حول العالم عام 2008، كرر زيارة بعض المقاصد واستحدث بعض الاستراحات في بورنيو، وسريلانكا، ونيوزيلندا، وفيدجي، وجورجيا، وهاواي، وأرخبيل سفالبارد، والنرويج، والسويد.

ويكشف الرحالة الشاب أن «رحلاتي خلال الخمسة عشر شهراً الأخيرة كانت بدافع الرغبة في التصدي للمشكلات ذات الطابع الإنساني في أفريقيا، ولا سيما في أميركا الجنوبية. كمكافحة السرطان في هذه الدول النامية. وهذا مشروع أعمل عليه منذ أكثر من 14 سنة، وعلى كل الجبهات، من بيونس آيرس إلى طوكيو، مروراً بموسكو وسيدني، وبالتعاون مع وزراء وأطباء ومستثمرين ومرضى».

ولا ينسى نبيل الحادث الذي تعرض له في باكستان وأدى إلى كسر ذراعه، فاعتبره دافعاً ملحاً إلى التوقف قليلاً عن نشاطه وتكريس بعض الوقت لعائلته وأصدقائه، وإشباع رغبته في التذوق، واستئناف شغفه بالرياضة، ولا سيما الغطس والسباحة.

وعندما يتحدث الرحالة عن الطائرة، رفيقته في الحل والترحال، لا يغفل الموضوع العملاني الذي يحتاج إليه لإنجاح أي رحلة. «لقد أوجدت لنفسي شبكة من الأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء، والزملاء وأصدقاء الزملاء، والمعارف، في كل أنحاء العالم. ومثل هذه الشبكة لا بد منها، مثلاً، لإنجاح رحلة طريق الحرير حتى سهوب منغوليا، وحقول الأرز في الفلبين، وأعماق المياه في جزر فيدجي، وكامشاتكا، وحمم براكين هاواي، وموزمبيق وسان بطرسبرغ».

وبعد سنوات السفر المتراكمة، وآلاف الكيلومترات التي قطعها، يعترف نبيل بأنه أصبح أكثر نضجاً «أو هكذا آمل، وكلما اكتشفت زادت رغبتي في الاكتشاف، وبالأخص في التعلم. لقد اكتسبت فلسفة معينة تقضي بأنه من الضروري التوقف بعض الشيء لاستيعاب ما شاهدت وما اكتشفت. لقد أصبح العالم بنظري أقل بساطة منذ أن بدأت فعلاً في تفصيله. أملك الكثير من المقارنات في ذهني، والكثير من الأسئلة. لقد استبد بي الاهتمام بالأبعاد الجديدة التي تعني الشعوب؛ مطابخها وتقاليدها ومعتقداتها وظروفها الاجتماعية والاقتصادية».

ويكتب نبيل في مذكراته عن رحلته إلى سفالبارد، الأرخبيل النرويجي في القطب الشمالي، تحت عنوان «عودة إلى شمس منتصف الليل»: أنه «بعد غياب 12 شهراً عدت إلى شمس منتصف الليل في سفالبارد، حيث وجدت نفسي الساعة الأولى فجراً على قمة جبل، وتحت سماء نائمة، مطمئناً إلى أن الدببة القطبية ليست موجودة بالقرب مني. ربما هناك 3 آلاف دب قطبي لألفين من سكان هذا الأرخبيل النرويجي، واحتمالات مصادفة بعضها كافية لكي يسمح القانون بحمل بندقية. حيوانات الفقمة من الصعب القبض عليها إذا لم يكن هناك جليد، ولم يكن محيط القطب الشمالي متجمداً في ذلك الشهر من يوليو (تموز)».

ويضيف «لقد اشتهرت سفالبارد حديثاً بعناوين كثيرة لأكثر من سبب. فهذه الشمس في منتصف الليل تعرضت للكسوف دقيقة واحدة من أصل 4 أشهر من النور الكامل. وكانت الصحافة العالمية قد تحدثت أخيراً بإعجاب عن قيام (غلوبال سيد بنك) بجهد دولي لوضع كل أنواع البذور الموجودة في العالم في (خندق) جوفي وهي تقدر بـ 1.5 مليون، وذلك في حال تعرض العالم لمحرقة نووية أو أحوال مناخية فوق طبيعية وغيرها، من أجل التمكن من إعادة تكوين الزراعة العالمية، وتأمين بقاء الجنس البشري... الأرخبيل بعيد جداً نحو الشمال مع حرارة دائماً تحت الصفر، حيث لا يشكل تبدد الكهرباء الشامل نهاية العالم بالنسبة إلى البذور».

ويتابع نبيل «بدأ التاريخ البشري للأرخبيل في القرن التاسع عشر، بصرف النظر عن وجود بعض الفايكنغ والمغامرين الآخرين الذين ضاعوا فيه، وتجلى بدء هذا التاريخ مع صيد الحيتان والفقمة، قبل أن نعتبر في نهاية الأمر أن الثروة الحقيقية للأرخبيل هي منجمه، حيث يفوق عدد العاملين في المناجم، على قساوة حياتهم، عدد الصيادين وناصبي المصائد. وفجأة، اندفع الأميركيون والروس والنرويجيون إلى استغلال العديد من مناجم الفحم بالغة العمق، وما لبث الأرخبيل القطبي أن وُضع تحت الوصاية النرويجية. حتى هتلر وجد فيه فائدة استراتيجية، يشهد عليها حطام طائرتين أُسقطتا في هذه المنطقة القطبية، وكذلك سواد جانب من الجبل بسبب احتراق منجم على مدى 19 عاماً بعد إصابته بقذيفة ألمانية».

ويمضي قائلاً «في غياب الدببة القطبية كانت الحيتان البيضاء تحيط بمركبي الذي أجتاز بواسطته الخلجان. كانت الحيتان الصغيرة رمادية، أما البالغة فتكتسب اللون الأبيض الجميل. وبخلاف ذلك كانت المياه متجمدة درجتين تحت الصفر، واللباس السميك الذي كنت أرتديه لم يمنع البرد الرهيب الذي يجتاحني. وعلى الأرض الصلبة، كنت أشاهد قطعان الريم تجتاز الأنهار المتجمدة، وبينها أحفورات نباتية بالغة القدم، وظهرت نتيجة انفجار صخور بفعل الجليد الذي أسير عليه. وعلى مرمى النظر كانت حمم بركان (كيلايو) الحمراء تسطع في ظلمة الليل التي تخلو من قمر، بعيداً عن شمس منتصف الليل. ثم كانت تتفجر لتسيل في اتجاه المحيط، في حين كانت طفرات أخرى تندفع نحو السماء السوداء بشراراتها النارية ولهيبها. إنه كوكبنا الرائع والرهيب بصقيعه وقيظه».

وعندما يُسأل الرحالة رومانوس عن تعريف السفر، يذكر الرحالة المشهور نيكولا بوفييه، الذي يعتبر أن «السفر غنيّ عن الأسباب. ولا يلبث أن يبرهن أنه يكفي بحد ذاته. نعتقد أننا عازمون على القيام بسفر، ولكن فوراً ندرك أن هذا السفر هو الذي يدفعك أو يحبطك».