غرونوبل.. عنوان السياحة الشتوية في فرنسا

أزقتها الداخلية تمتلئ بمقاهي الأرصفة والمطاعم

مدينة راقية وهادئة («الشرق الأوسط»)
TT

المدن التي نسكن فيها يصعب علينا، حقاً، الكتابة عنها. على العكس تماماً من المدن التي نزورها لأيام خاطفة، ونعود منها بذكريات هي أشبه بالبخار الذي يتصاعد من الرأس بعد مغادرتها بفترة قليلة. يبقى فقط الذكريات الأحب في الساحات أو المطاعم أو الأماكن السياحية وغيرها. بهذا المعنى فإن الكتابة عن مكان الإقامة صعب، إذ يشبه البائع الذي يدلل على زيته في السوق أمام الزبائن الأذكياء. لكن وبما أن غرونوبل مدينة شتوية، (هي صيفية فقط لمحبي التخييم في الجبال والطيران الشراعي ومشاهدة أجمل المناظر الطبيعية في جبال الألب الشهيرة). لكنها شتوية، لأنها مقصد كل هواة التزلج على الثلج الى جانب اللعب عليه، ليس من فرنسا فقط بل ومن أوروبا كلها. وتبلغ أقرب نقطة تزلج مسافة نصف ساعة في السيارة عن وسط المدينة الذي يتميز بصغر حجمه وبإكتنازه بالأماكن الهامة التي شكلت تاريخ فرنسا الحديث.

لكن هذا ليس كل شيء، فللمدينة تاريخ بعيد وعريق في الآن نفسه، وهي ليست مدينة حديثة نسبياً، بل تعد من أقدم المدن الفرنسية، وكان لها في التاريخ الحديث والقديم محطات كثيرة من المهم تسجيلها لكي لا تضيع سدى في زحمة أرجل السياح على سفوح التزلج الشهيرة في الألب. والحق أن أول إشارة وردت في المصادر التاريخية عن غرونوبل كانت في العام 43 قبل الميلاد، حين كانت تسمى Cularo ولم تكن سوى قرية أراد الحاكم الروماني في ذلك الوقت تحويلها الى مدينة شبيهة بفيينا وفالنسيا اللتين كانتا بحكم وجودهما في أماكن استراتيجية، من أهم المدن لقرون عديدة. في العام 256 ميلادية بلغت مساحتها تسعة هكتارات فقط، وتم في ذلك الوقت بناء الجدار الذي يسيجها على مثال معظم المدن القديمة من كافة الجهات. حيث كانت تتخلل هذا الجدار عدة أبواب للمدينة التي لا تبعد عن إيطاليا وسويسرا سوى عشرات الكيلومترات. مع ذلك فقد بقيت قرية الى أن جاء قرار الإمبراطور Gratien بتحويلها الى مدينة وتم تبديل اسمها الى غرونوبل وهو الاسم الذي لا تزال تحمله لغاية اليوم. وهي أكبر مدينة على ضفاف نهر إيزير Isère التي يضمها إقليم Rhône-Alpes التي أكبر مدنه ليون Lyon المدينة الثانية في فرنسا من حيث عدد السكان ومن حيث الأهمية أيضاً بعد العاصمة باريس. بفضل موقعها الجغرافي بين سلسلة جبال الألب، فإن غرونوبل عانت عبر التاريخ من عدد من الكوارث الطبيعية تمثل معظمها بفيضانات كبيرة هدمت أجزاء مهمة منها. ولغاية اليوم، فإن غرونوبل من مدن قليلة في العالم، التي تعوم على بركة جوفية من المياه التي تتسرب الى باطن الأرض في موسم ذوبان الثلوج على قمم الألب المحيطة. ولهذا فإن وجودها في منطقة نائية عن وقوع الزلازل لم يجنبها الفيضانات التي تحدث في أحيان كثيرة وفي أزمنة مختلفة. ففي العام 1191 تعرضت قرية مجاورة لها الى إنهيار في الجبل الأمر الذي أثر كثيراً عليها وسد منافذ الأراضي السويسرية القريبة، كما أن الإنهيار نفسه حبس النهر الذي يمر اليوم من المدينة. أما في العام 1219 فقد تسببت الفيضانات الشهيرة التي أصابت منطقة الألب الى تحطيم السور الذي كان يحيط بالمدينة من كافة جوانبها وعدد كبير من المنازل بداخلها، وقتل على إثره العشرات من السكان، وفر العدد الآخر تاركاً المدينة في حالة كارثية بقي صداها يتردد في مختلف الديار الرومانية لوقت طويل. وفي اليوم الثاني على بدء الفيضان طافت إحدى البحيرات القريبة منها الأمر الذي تسبب بغرق عدد من القرى المجاورة مثل ساسناج وفونتان الحاليتان.

خلال العصور الوسطى، ولدت غرونوبل ولادة ثانية، إذ أصبحت عاصمة دوفيني Dauphiné منذ ذلك الوقت ولغاية اليوم. حيث انضمت في القرن الرابع عشر الى فرنسا بعدما سلمها إمبرتو الثاني الى ولي عهد فرنسا في 30 آذار / مارس 1349 بعدما تفاقمت ديونها الى حد بلغ عدم قدرة المقاطعة والمدينة على سدادها. وبهذه الإتفاقية انضمت المدينة الى الديار الفرنسية، حيث ستصبح المدينة بعد ذلك مقراً ملكياً بعد انتقال الملك لويس الحادي عشر الى الإقامة فيها. ولهذا فقد شهدت المدينة بزوغ العصر البرلماني في فرنسا، حيث بني فيها أول برلمان في العام 1476 بمبادرة من اللورد بايارد الذي ولد بالقرب منها. في العام 1562 شهدت المدينة صراعات ومعارك كبيرة بين الكاثوليك والبروتستانت وعلى أثر هذه المعارك التي انتصر فيها الكاثوليك بني جدار ضخم يمتد على طول الجبل، يشبه الى حد ما سور الصين لكن بنسخة ميكروسكوبية منه، كما بني الباستيل وهو قلعة تشرف ومازالت على المدينة من الجهة الشمالية للنهر. وتحتوي اليوم على مطعم متوسط الفخامة يمكن الوصول إليه عبر التليفريك أو عبر الطريق القديمة جداً التي تصعد الى منتصف الجبل وتمر بعدد من المتاحف والمباني التاريخية الأخرى، التي أهمها مبنى دير سانت ماري الذي أصبح اليوم متحف دوفيني musée dauphinois، حيث يمكن للزائر المهتم بمعرفة تاريخ المدينة التعرف على مراحل تاريخية مهمة من ماضيها وكذلك التعرف على أساليب الحياة التي كانت سائدة في أكثر من زمن. ومن الباستيل يمكن أخذ الصور الجميلة لكل المدينة والمنطقة المجاورة لها.

في الثورة الفرنسية كانت غرونوبل السباقة أيضاً، وفي عدد من الأماكن داخل المدينة، خاصة في الحديقة العامة للمدينة القديمة نجد النصب التذكاري لتلك الثورة التي غيرت وجه فرنسا في العالم المعاصر. كما يمكننا، من هناك، الدخول الى الأزقة الداخلية التي تمتلئ بمقاهي الأرصفة والمطاعم. كما أنها، أي الأزقة تقود الى شارع جان جاك روسو الذي يقع في بدايته منزل أحد أعظم كتاب العالم Henry Beyle الملقب ستاندال. وهو من أبناء غرونوبل. وكذلك العديد من الكتاب والفلاسفة مثل إيمانويل مونييه Emmanuel Mounier ودرس في مدارسها وأقام فيها مفكك اللغة الفرعونية Jean-François Champollion وغيرهم الكثير. كما أنها الى ذلك مدينة تهتم بالثقافة، وهي على الرغم من صغرها فإنها تحتوي على أكثر من خمس عشرة مكتبة عامة وعلى العديد من الحدائق العامة التي أحب منها حديقة الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار Gaston Bachelard القريبة من منزلي. ومن المكتبات العامة وبعيدا عن مكتبة المدينة الكبيرة فإن البلدية في المدينة كرمت الكاتب الجزائري كاتب ياسين صاحب رواية (نجمة) التي صدرت في العام 1956 وأطلقت اسمه على أحدث مكتبة عامة في المدينة التي عاش فيها الكاتب بعد مجيئه الى فرنسا في عام 1962 هو ملتحقا بصديقه ألبير كامي في باريس ومن ثم أقام بشكل دائم بعد وفاة كامي في غرونوبل التي كرمته أفضل تكريم. من غرونوبل الى شامبوري أو الى أعالي الجبال حيث التزلج أو حتى الى البحيرات المنتشرة كالفطر بين الجبال والغابات، فإن التجول في المنطقة كما أنني سائح، منحني فرصة حقيقية للتعرف على تاريخ المدينة وجغرافيتها وأبرز أماكنها السياحية وكذلك فنادقها الكبيرة داخل المدينة ومنتجعاتها المعلقة على الجبال كما أضواء الطرقات أو حتى الفنادق الصغيرة في القرى التي وإن كانت خدماتها بسيطة ومتواضعة إلا أن مجرد العيش لأيام في تلك القرى النائية والبعيدة عن الضوضاء والتلوث. هي حقاً فرصة نادرة للتآخي مع طبيعة جبال تعيش هنا منذ ملايين السنين.