من هنا بدأ جلجامش رحلته نحو الخلود

أهوار العراق.. نقطة بدء الطوفان

الأهوار.. بيئة مفتوحة للطيور البرية («الشرق الأوسط»)
TT

مساحات مفتوحة للمياه ومئات الأنواع من الطيور البرية، وقصب البردي. أينما تمد نظرك في اتجاه الأفق سوف تجد نفسك محاطا بالمياه وكأن الطوفان قد حل هنا، بل إن قصة الطوفان تبدأ من هنا حسبما تذكر الأساطير العراقية القديمة.

بين سماء زرقاء صافية، ومشمسة تحلق فيها اللقلق وأنواع يصعب إحصاؤها من الطيور المائية، بينها الاوز البري والبط بأشكاله وألوانه الجميلة، وبين مسطحات مائية خضراء تعيش فيها أشهر أنواع السمك النهري، مثل الشبوط والبني والكطان، في هذه البيئة الساحرة، والصعبة في آن واحد يعيش سكان الأهوار.

قبيل الفجر، حيث يكون الأفق قد تلون بمئات الألوان المشتقة من البنفسجي والأحمر الغامق، والمنسجمة مع بقايا سواد الليل، تبدو صفحة الأهوار مثل مرآة هائلة تعكس كل تلك الألوان، فإذا تحركت سمكة هائجة تحت سطح الماء بدت المرآة مكسرة على شكل مويجات صغيرة تتوزع هنا وهناك، تسمع من بعيد صوت غناء فطري، لرجل يبث بشكواه وحسراته ومناجاته على شكل (ابوذيات)، وهي نوع من الغناء الريفي الجنوبي في العراق، قبل أن تتضح معالم الزورق (المشحوف) الذي يتقدم باتجاهنا وفي مقدمته فانوس، فعندما يجتازنا ونحن نرصده من فوق الفندق العائم في هور الصحين، ستتضح معالم العائلة التي تمضي في عمق الهور لتحظى بصيد مبكر.

تلك هي مناطق الأهوار في جنوب العراق، مئات الأميال التي تربط بين ثلاث محافظات في الجنوب العراقي، وهي ذي قار(الناصرية)، وميسان(العمارة) والبصرة، مئات الأميال المغطاة بالمياه.هكذا وجدت هذه المناطق منذ فجر التاريخ وحتى اليوم.

في الأسطورة السومرية(جلجامش)، التي تتحدث عن رحلة ملك أوروك (الوركاء) للبحث عن الخلود، يصل إلى بوابات المياه هذه بعد أن يقوم بمغامرات لا ينجو منها أي بشر، لكنه، وحسب الأسطورة، ثلثه بشر وثلثاه من الآلهة، فيقوم باجتياز الغابة المسحورة، ويقتل الثور السماوي، ويصارع العقارب العملاقة، حتى يصل إلى جده الخالد اوتونابشتم المقيم وسط هذه المياه، وحسب المؤرخ البروفسور الراحل طه باقر الذي ترجم هذه الملحمة من المسمارية، فإن اوتونابشتم هو النبي نوح الذي عاش لأكثر من ألف عام واعتبر من الخالدين في عصره.

لا نريد أن نذهب بعيدا في أسطورة جلجامش لكننا نركز هنا على وصية خادم اوتونابشتم عندما يوجه ملك اوروك بصناعة قارب من قصب البردي ويطليه بالقار ومجاذيف طويلة يدع فيها القارب حتى يصل إلى جده، هذا القارب لا يزال يستخدم من قبل سكان الأهوار حتى اليوم ويسمى (المشحوف)، ويكون عادة خفيفا وسريعا، بينما تبنى بيوت سكان الأهوار من القصب على جزر اصطناعية أو طبيعية بالطريقة ذاتها التي كان السومريون يبنون بها بيوتهم.

ويعتمد سكان الأهوار في تنقلهم وبصورة رئيسة على استخدام المشاحيف(جمع مشحوف)، وهو الوسيلة الوحيدة للتنقل بين بيت وآخر أو بين البيت والمدرسة، بينما يستخدمون الزورق المجهز بمحرك ميكانيكي، ويسمى هذا الزورق (الشختور) لقطع المسافات الطويلة للوصول إلى أقرب أرض يابسة أو أقرب قرية أو مدينة.

ويعيش سكان الأهوار على صيد السمك وتربية الجاموس، وهي حيوانات ضخمة من البقر وسوداء اللون ويكون إنتاجها من الحليب الدسم غزيرا.

وكانت مناطق الأهوار من أجمل المناطق السياحية حيث أقيمت فيها فنادق عائمة ومجمعات سياحية أحرقها الأهالي احتجاجا على سياسات الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي كان قد انشأ محطات تصفية مياه ومد أسلاك الطاقة الكهربائية والهاتف وبنى المدارس والمراكز الصحية والبيوت في أرجاء الأهوار من أجل تحسين حياة سكانها وكسب ودهم.

وأهم الأهوار، حسب مساحاتها، هي، هور الحمار، أهوار السودة والبيضة، أهوار الصحين، أهوار أم الشويج.

وظلت أهوار العراق التي يعتقد أنها موقع جنة عدن كما ورد في الكتاب المقدس قبل أن تتحول جنة المهربين وقطاع الطرق والخاطفين والهاربين من الخدمة العسكرية والخارجين عن القانون والمتسللين من إيران بسبب امتداد هذه الأهوار إلى داخل الأراضي الإيرانية.

وتقول الشرطة إن المكاسب الأمنية التي تحققت في الآونة الأخيرة يمكن أن تضيع إذا لم يحصل سكانها على المساعدة.

وتقبع الزوارق المتربة مهجورة على أرض جافة حيث كانت المياه زاخرة بالأسماك ذات يوم وكانت غابات القصب الطويل توفر مأوى للطيور المهاجرة.

وتمتد سيقان القصب الآن في الأفق ويتكدس حيوان جاموس الماء في المستنقعات الصغيرة المتبقية. وقال زهير الحيدري من عرب الأهوار «المياه ذهبت والآن انظر الينا، وضعنا مريع. نحن من هذه المياه والأسماك والطيور والقصب والجاموس. والآن جفت الأهوار. أين المساعدة».

وأدت توليفة من قلة سقوط الأمطار العام الماضي وإقامة سدود على نهري دجلة والفرات وزيادة الزراعة مع ازدياد البلاد هدوءا عقب سنوات من الحرب إلى تنامي الطلب على موارد المياه الشحيحة بالعراق.

وفي حين قام صدام حسين الذي اتهم عرب الأهوار بالخيانة خلال الحرب مع إيران التي امتدت من 1980 إلى 1988 بإقامة السدود وتجفيف الأهوار لاكتشاف المتمردين المختبئين في القصب، تثور الآن مخاوف من أن الدول المجاورة ربما تخنق الإمدادات.

وذكر تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة أن نحو 70 في المائة من المياه التي تدخل العراق تأتي من تدفق نهرين تتحكم فيهما تركيا وإيران وسورية.

وتبدأ تركيا برنامجا لبناء السدود كما تقيم إيران أيضا سدا جديدا.

ويقول مسؤول عراقي يعمل في ترميم الأهوار إن تغطية المياه انخفضت إلى نحو 43 في المائة بحلول منتصف يناير (كانون الثاني) بعد أن كانت نحو 71 في المائة قبل عام لكن عرب الأهوار يقولون إن المشكلة أكثر حدة مما تشير إليه الأرقام.

وجلست ابنة الحيدري وهي في سن المدرسة بالقرب منه تغسل الملابس في جدول من المياه لا يتجاوز عمقه بضع بوصات تحت سماء غائمة لكنها لا تمطر. كانت بشرة والدها جافة ومشققة من الملح الذي أصبح مركزا الآن في الماء. وكثير من الناس الذين يعيشون في الأهوار الآن عادوا لتوهم. فبعد سقوط صدام عام 2003 حطم السكان المحليون الكثير من السدود حتى تعود المياه للتدفق مجددا وقد تدخلت وكالات بيئية أجنبية للمساعدة في بث الحياة مرة أخرى في الأهوار.

وقال عرب من هور الحمار إن كل شيء كان يسير على ما يرام حتى عام مضى حين انحسرت المياه مجددا. وهور الحمار واحدة من ثلاث مناطق رئيسية للأهوار في العراق. وقال موثق شباب أمام منزله المصنوع من القصب «هذه هي حياتنا كما تراها. ليس لدينا مياه ولا مصدر رزق».

وتتناثر الأكواخ التقليدية التي كانت ذات يوم مبنية على جزر في الأهوار في السهول الجافة.

وكانت الأهوار تغطي تسعة آلاف كيلومتر مربع في السبعينات لكنها تقلصت إلى 760 كيلومترا مربعا بحلول عام 2002. وبحلول سبتمبر (أيلول) 2005 استعيد نحو 40 في المائة من المنطقة الأصلية، ويهدف العراق إلى استعادة ستة آلاف كيلومتر مربع في المجمل.

وكان معدل سقوط الأمطار بمنطقة الجذب بالعراق العام الماضي أقل من ثلث معدله في الأعوام السابقة وقد سقطت أمطار قليلة حتى الآن هذا العام ولم يتبق سوى بضعة أشهر حتى يحل فصل الصيف.

وقال لطيف رشيد وزير الموارد المائية العراقي لـ«رويترز» إن تحليله أن السبب وراء هذا هو الاحتباس الحراري وأضاف أنه على علم بأن بعض الخبراء يقولون إن هذا جزء من دورة الطقس.

وقال عبد الكاظم ياسر من مركز ترميم الأهوار العراقية إن البلاد تدافع عن نفسها.

وفي ديسمبر( كانون الأول) بدأ العراق بناء سدود حول الأهوار لكن هذه المرة للاحتفاظ بالمياه داخلها وليس خارجها.

وقال ياسر إنه يأمل خلال عامي 2009 و2010 تحقيق أقصى حد من تغطية المياه بأقل قدر من الموارد. وأضاف أنهم في الأعوام الممطرة يحصلون على الكثير من المياه لكن لا يتم استغلالها بطريقة ملائمة. وتقول الأمم المتحدة إن دراسة قدرت عدد عرب الأهوار بنحو 400 ألف في الخمسينات من القرن الماضي لكن مئات الآلاف فروا منذ ذلك الحين هاجروا لأسباب اقتصادية. وتتباين التقديرات بشأن عدد الذين عادوا بشدة. وكثير من عرب الأهوار أميون ولم يصادفهم الكثير من الحظ في العثور على عمل خارج الأهوار حيث ينظر إليهم على أنهم متأخرون. وقال صغير إياد الذي يسكن في الأهوار «إلى أين نذهب الآن إذا استمر هذا الوضع، قبل ذلك كنا نذهب إلى المحافظات لكنهم الآن بعد أن شهدوا البؤس الذي نجلبه لن يسمحوا لنا بالقدوم. لدينا حيواناتنا. كيف نستطيع أن نأخذها».

وهو يريد بناء مدارس ومستوصفات للأطفال كما يرغب في أن تساعد الحكومة في إعادة المياه إلى الأهوار. وأخذ الأطفال الذين غطاهم الطين والتراب يركضون حول مجموعة من الأكواخ بينما كانت طفلة لا تزال تتعلم المشي تلعب إلى جوار أحد حيوانات جاموس الماء الذي كان راقدا على الأرض وبدت صغيرة للغاية بجانب هذا الحيوان الضخم.

في مجتمع الأهوار تنشط المرأة وتضطلع بأغلب النشاطات الاقتصادية والاجتماعية، فهي التي تهتم بتربية الجاموس وحلبه وصناعة الجبن والقيمر العراقي الشهير، وجلب القصب كعلف لهذا الحيوان، وتساهم ببناء البيت من الطين والبردي، وتسوق منتجات الحليب في المدن القريبة، بينما يقتصر نشاط الرجل على صيد السمك والجلوس ليلا في المضيف مع بقية رجال القرية مستغرقين في التدخين والحديث.