أبخازيا.. بطاقة تعارف تدعو إلى التسامي فوق أحزان التاريخ

طبيعة آسرة ومناخ ساحر

تشتهر ابخازيا بجمال طبيعتها وخضرتها الدائمة («الشرق الأوسط»)
TT

أبخازيا أو «أبسني» بالأبخازية أو بلاد الأباظية بالعربية، جمهورية صغيرة حديثة الاستقلال رغم أن تاريخها يمتد إلى مساحات زمنية بعيدة. ثمة من يقول إنه يعود إلى ما قبل الميلاد بقرون طويلة. طبيعتها حددت الكثير من ملامح شعبها التي تعكس تمازج مكونات جغرافيتها الفريدة النمط التي تجمع بين الجبال القوقازية الشاهقة والوديان السحيقة العميقة، العامرة بالنباتات الاستوائية على أرضها الممتدة على ضفاف البحر الأسود. أبخازيا بمنتجعاتها ذائعة الصيت عادت اليوم، وشأن ما كانت في الأمس القريب، مقصد الراغبين في الاستمتاع بمفاتن طبيعتها الخلابة التي حار أمامها الكثيرون من أعلام الأدب العالمي ومنهم أنطون تشيكوف رائد القصة القصيرة. يذكرون ما قاله يوم وقع أسير طبيعتها الآسرة الساحرة، حين زارها في مطلع القرن الماضي وسجل بعضا من خواطره التي جرى نشرها ضمن مجموعة مؤلفاته الكاملة في جزء «الرسائل». أوجز قيصر القصة القصيرة فاعجز: «الطبيعة تفجر في النفس مشاعر الذهول إلى أبعد حدود الجنون والحيرة. كل ما حولك يبدو كأنك تشهده في سابقة هي الأولى من العمر، يبدو كما الأساطير المفعمة بالجنون، المعجون في عناصر نسيجها الشعر. الجبال، فالجبال، ثم الجبال، تترامى إلى ما لا نهاية وما لا حدود. أخالني لو قيض لي الإقامة بين ربوع هذا المكان، ولو لشهر واحد، كنت أستطيع تسجيل ما يقرب من الخمسين أقصوصة فاتنة، فمن بين كل غصن من أغصانها، ومن بين الظلال وأشباه الظلال المترامية من البحر والسماء فوق الجبال تتبدى ملامح آلاف الموضوعات».

شاءت الطبيعة أن تحنو على أبخازيا الصغيرة المساحة، لتقيض لها جبال القوقاز الشاهقة حاجزا يقيها الرياح العاصفة التي طالما تؤرق صفو الحياة في المنطقة، فيما وفرت لها الممرات الطبيعية التي تربطها بما جوارها من أقاليم، ما يوفر مناخا متمايزا يتباين بقدر تباين الارتفاع عن سطح البحر، أي بين الاستوائي والجبلي، إلى درجة المناخ الشتوي، حيث الثلوج الدائمة على قمم الجبال طوال العام. مساحتها تزيد عن ثمانية آلاف كيلومتر مربع، يحدها من الجنوب البحر الأسود بطول 210 كلم، فيما تحدها من الشمال والشرق عبر سلسلة جبال القوقاز جمهوريات وأقاليم روسيا الاتحادية، ومنها قبرطية بلقاريا، وقره شاي، والشركس، ومقاطعة ستافروبول، وكراسنودار، فيما تتاخم حدودها الشرقية جورجيا ذات التاريخ المشترك ومصدر الخطر الذي يتهددها منذ إعلان استقلالها في عام 1992.

تعداد سكانها يقترب من ثلاثمائة ألف نسمة. عاصمتها سوخوم، أو كما ينطقها البعض حسبما كان في الماضي القريب، سوخومي، ويبلغ تعداد سكانها 70 ألف نسمة.

لغتها الأبخازية، وأبجديتها الكيريلية (السلافية)، وإن كانت اللغة الروسية تكاد تكون وسيلة التخاطب الرئيسية حتى بين ممثلي القومية الأبخازية. العملة الوطنية هي الروبل الروسي. تنتمي الغالبية العظمى إلى الديانة المسيحية الأرثوذكسية، ولا تزيد نسبة المسلمين فيها عن 4 ـ 6% من السكان حسب الإحصائيات شبه الرسمية. جغرافيتها نتاج أجمل ما أبدعته الطبيعة من صور جمالية فريدة. وتاريخها خليط بين الحقائق وأنصافها التي تضيع معها حقوق واحدة من أكثر الأقليات القومية تعرضا للظلم والاضطهاد. «أبسني» اسمها الذي يطلقه أهلها عليها مجازا يعني «بلاد الروح»، في إشارة إلى أن أراضيها تملك في باطنها سحرا خاصا يجتذب أرواح كل من تطؤها قدماه. ويجنح أبناء العاربة إلى تسميتها أباظيا، وينسبون إليها معشر أباظة الذين ينتشرون في الكثير من ربوع الشرقين الأدنى والأوسط، وفي مصر التي يشغل فيها الأباظيون موقعا متميزا في نسيج الوطن. حدود الحاضر تبدو في غير وفاق مع واقع الماضي الذي يقول إنها ترامت إلى مسافات بعيدة لتربط قارتَي آسيا وأوروبا على نحو تضيع معه الخطوط الفاصلة بين القارتين في المنطقة الواقعة بين بحر الخزر أي بحر قزوين والبحر الأسود جنوبي القوقاز. أبخازيا الحاضر يحدها من الجنوب البحر الأسود بشواطئ تمتد إلى مسافة 210 كيلومترات، فيما تمتد حدودها من الجنوب إلى الشمال بعمق 54 كيلومترا، ومن الغرب إلى الشرق بمسافة 160 كيلومترا. ترتبط بروسيا بحدود مشتركة عبر نهر بسو، فيما ترتبط عبر سلسلة جبال القوقاز بجمهوريات قبرطية بلقاريا، وقره شاي والشركس، بينما يفصلها عن جورجيا، جارتها التاريخية ومصدر متاعبها الراهنة، نهر أنغوري في الجنوب الشرقي.

مسارات الوصول إليها اليوم اختزلوها عبر نقطة الحدود المتاخمة لروسيا قريبا من نهر بسو. لن يستطيع الراغب في زيارتها الحصول على تأشيرة دخول، وهي التي لم يعترف بعد أحد باستقلالها سوى روسيا ونيكاراغوا. عليه الوصول جوا إلى مطار أدلر القريب من سوتشي أشهر المنتجعات الروسية على ضفاف البحر الأسود. هناك يفاجأ الزائر بالكثير من معالم العهد السوفياتي القديم. لا شيء تغير في المكان منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وهو ما يدفع إلى الدهشة، لا سيما بعد اختيار سوتشي عاصمة للأولمبياد الشتوية لعام 2014. فمقتضيات اختيار سوتشي تفرض سرعة التغيير والإصلاح، وتنقية المكان من عناصر المافيا التي تسيطر على الكثير من مرافقه. ما إن تدلف إلى خارج الدائرة الجمركية حتى تواجه بفيض من الذين يعرضون بضاعتهم سواء كانت سيارة أجرة، أو مكانا في أحد الفنادق، أو مساكن المدينة والمدن المجاورة. التعريفة تختلف من سائق لآخر إلى بسو ـ نقطة الحدود مع أبخازيا ـ تقترب من العشرين دولارا. وهناك من يعرض عليك مواصلة الرحلة حتى سوخوم العاصمة الأبخازية مقابل 4000 روبل، أي ما يعادل 130 دولارا. وعليك الابتعاد عن فكرة تناول طعامك في مثل هذا المكان.

الوصول إلى بسو يستغرق قرابة الساعة أو ما يزيد قليلا، رغم أن المسافة لا تزيد عن 30 كيلومترا لأسباب تتعلق بحالة الطريق من جانب، وكثافة حركة السير من جانب آخر. يداهمك منظر الحشود والزحام على مقربة من منطقة الحدود. كل في انتظار دوره للوصول إلى نقطتي التفتيش والعبور. الممرات اثنان: أحدهما للمشاة والآخر للسيارات. هناك من يعرض عربات بدائية  لنقل «بالات» البضائع والمواد الغذائية التي تبدو السمة المميزة للمكان، في وقت يختزل فيه المشاة جزءا كبيرا من رحلة السير عبر أحد المنازل المجاورة. أصحاب المكان اتخذوه سبيلا إلى تحسين أحوالهم المادية وحددوا تعريفة للمرور عبر فناء الدار تقترب من الدولار للفرد الواحد. مصائب قوم عند قوم فوائد! أمام ضابط، أو ضابطة، الجوازات تتباين المعاملة من حالة إلى أخرى. إجراءات عبور حاملي جوازات السفر الروسية وهم الغالبية الساحقة، أو قل كل المسافرين، لا تستغرق سوى لحظات معدودات. أما الأجنبي ـ وكنت الأجنبي الوحيد في ذلك اليوم ـ فلا بد له من الانتظار إلى حين الكشف عن هويته ومعرفة مبررات رحلته إلى أبخازيا، مع «وقفة» ليست بالقصيرة مع شاب في زي مدني يحاول سبر أغوارك عبر حديث يغلب عليه طابع الاستجواب لمعرفة الكثير ومنها الأسباب التي تحول دون اعتراف بلدك بأبخازيا. كنا حسني الحظ ولم يستغرق «الاستجواب» طويلا من الزمن. عليك فقط التحلي بالصبر وعدم استخدام آلة التصوير درءا للشبهات. قرابة الثلاثين دقيقة استغرقتها وقفتنا، عبرنا بعدها إلى الممر الفاصل بين نقطتي الحدود لنقف أمام ضابط الجوازات الأبخازية. هناك كان في انتظارنا نائب وزير الخارجية الأبخازية داؤور كوفا، شاب لم يتجاوز الثلاثين من العمر، خريج كلية الحقوق جامعة بشكيريا الروسية، كان في استقبالنا. لم يستغرق الأمر بضع لحظات كانت كافية لتسجيل الهوية وإصدار الإذن بالعبور دون خاتم أو إشارة إلى ذلك في جواز السفر. لأسباب كانت تتعلق بضرورة انتظار آخرين، تكرم المسؤول الأبخازي بالاتصال تلفونيا بأحد فنادق العاصمة، ودعوة شاب أبخازي يتكسب من استخدام سيارته لتوصيلنا إلى هناك. السفر إلى سوخوم مقابل ألفي روبل، أي ما يقارب 65 دولارا، إذن الروبل الروسي هو العملة المحلية المتداولة في أبخازيا، شأن جواز السفر الروسي الذي يحمله ما يزيد عن 85% من مواطنيها، واللغة الروسية التي تكاد تكون اللغة الرسمية الأولى ووسيلة التخاطب حتى بين الأبخازيين. الرحلة تستغرق من بسو الحدودية وحتى سوخوم ما يزيد قليلا عن الساعتين استغرقتهما السيارة عبر طريق ممهد يبدو في حالة جيدة، رغم أن معاول الإصلاح لم تمسسه منذ سنوات العهد السوفياتي. غاغرا، بيتسوندا، جودا أوتا، نوفي فون، أسماء كبريات المدن الأبخازية التي يعبرها المسافر في طريقه إلى سوخوم وكلها منتجعات كانت حتى الأمس القريب من أفخر المنتجعات الصيفية إبان سنوات الاتحاد السوفياتي السابق، فيما تظل من أهم المواقع السياحية بالمنطقة والتي تعتمد عليها أبخازيا كجزء أساسي من دخلها القومي. ساعتان أو أكثر قليلا كانتا فرصة أخرى لاسترجاع أخبار الماضي القريب وسرد ذكريات سنوات خلت شهدت الكثير من وقائع المواجهة وحرب الاستقلال التي خاضتها أبخازيا ضد جورجيا في مطلع تسعينات القرن الماضي. مع السائق الشاب تدفق الحديث سلسا يحمل تفسيرات لتساؤلات حول تاريخ الزمان وجغرافية المكان، لكن اللافت للنظر أن أبخازيا، رغم كل ما شهدته من أحداث دموية واضطرابات قومية على مدى الأعوام الأخيرة، تعيش اليوم هدوءا لا نشهد له مثيلا في الكثير من المدن والأقاليم الروسية. فالزائر لأبخازيا لا يصادف ـ إلا في ما ندر ـ دوريات أمنية أو انتشارا لقوات الجيش والشرطة على طول الطريق من المنطقة الحدودية حتى العاصمة سوخوم. بل ولا يجد في أطراف المدن وقريبا من المراكز الحيوية سوى نقاط صغيرة للحراسة، على عكس الحال مما نشهده اليوم في الكثير من جمهوريات شمال القوقاز. قال المسؤولون إن الحراسة مشددة فقط في المناطق الحدودية لهذه الرقعة الجغرافية الصغيرة على ضفاف البحر الأسود جنوب سلسلة جبال القوقاز، وتتولاها قوات أبخازية، تدعمها قوات روسية وصلت إلى أبخازيا بموجب معاهدة الصداقة والتعاون التي وقعها الجانبان في أعقاب انتهاء الحرب مع جورجيا في أغسطس (آب) الماضي.

أهم معالمها السياحية مدنها الشهيرة ذائعة الصيت، القريبة في معظمها من الحدود الروسية ما جعلها مقصد الصفوة والبسطاء من أبناء روسيا وما جاورها على حد سواء. إلى جانب سوخوم العاصمة تحتل غاغرا مكانة متميزة على خريطة السياحة الصيفية بموقعها الذي لا يبعد عن الحدود الروسية سوى ما يقرب من ثلاثين كيلومترا. أما بيتسوندا التي تبعد عن غاغرا عشرين كيلومترا فتظل المنتجع الأشهر الذي كان حتى الأمس القريب مقصورا على الصفوة الحزبية السوفياتية. يقولون إن الزعيم السوفياتي الأسبق نيكيتا خروشوف كان يجلس على شاطئ هذا المنتجع الجميل يوم جاءه من يقول له إن على الشاطئ الآخر من نفس البحر صواريخ نصبتها الولايات المتحدة في تركيا تحمل الرؤوس النووية الموجهة صوب الاتحاد السوفياتي. قالوا إن خروشوف لم يستغرق في تفكيره طويلا ليعلن عن رغبته في فرض وضع مماثل وجده في خطة نصب الصواريخ السوفياتية في كوبا قبالة سواحل فلوريدا الأميركية، ما كان سببا في تفجير ما سمي بـ«أزمة خليج الخنازير» التي أطارت صواب الرئيس الأميركي الأسبق جون كيندي. ويذكر التاريخ أن كيندي أصر على ضرورة إزالتها، وهو ما تحقق آنذاك شريطة التزام الولايات المتحدة بعدم المساس بأمن كوبا. وما دام الشيء بالشيء يذكر، نشير إلى منتجع نوفي أفون القريب من العاصمة الأبخازية. هناك شاهدنا واحدا من أكبر الكهوف الجبلية في العالم. يقولون إنه يرتبط أيضا باسم خروشوف. ينسبون إليه أمر البحث في جبال القوقاز عن كهوف قال إنها لا بد أن تكون الأكبر والأقدم والأشهر تاريخيا مقارنة بتلك التي شاهدناها على مقربة من واشنطن. وعكف علماء الآثار والتاريخ على دراسة المكان على ضوء مدلولات الزمان ليعثروا على أحد أكبر ثلاثة كهوف في العالم الذي يبلغ طوله ثلاثة كيلومترات ونصف الكيلومتر على عمق مئات الأمتار. ونجح القائمون على السياحة في أبخازيا في تحويله إلى مزار سياحي على مقربة من كاتدرائية «نوفي أفون» وشلالات المياه المختلفة الأشكال والارتفاعات، ما يجعله اليوم بطاقة تعارف تدعو إلى التسامي فوق أحزان التاريخ.