مدريد.. التنزه في نزوة تاريخية

رحلة في أزقة المدينة وخباياها

القصر الملكي كان المقر الرسمي للملوك الاسبان ويستعمل اليوم لاغراض دبلوماسية («الشرق الاوسط»)
TT

عندما تصل إلى مدريد سوف تشم رائحة مميزة، ربما يكون السبب في ذلك هو المطبخ الإسباني اللذيذ، وتتنوع الروائح باختلاف الأطباق وتنوع النكهات، فعاصمة إسبانيا قد تجاوزت الصورة الشائعة عنها بأنها مدينة غير عصرية، وأصبحت اليوم واحدة من المدن الأوروبية العصرية.

إذا كانت زيارتك لتلك العاصمة الساحرة قصيرة فسوف تستطيع رؤية معالم المدينة في أيام قليلة، يكفي أن تقوم بالتنزه بين جنبات تاريخ طويل وفنون كثيرة، من دون أن ننسى المرح، والمطاعم الجيدة، والعمارة الحديثة. والمتعة الحقيقية في تلك المدينة أنك تشعر بأنك في ربيع دائم على الرغم من درجة الحرارة المرتفعة في الصيف.

ومن أهم ما يجب أن تقوم به أثناء زيارتك لمدريد: التمتع بالجو، وتناول الطعام الإسباني الصحي، أما بالنسبة للنشاطات الأخرى التي يمكنك القيام بها فهي لا تعد ولا تحصى، وتعتمد على اهتمامات كل فرد وذوقه الخاص وعلى الفترة التي ينوي السائح قضاءها في المدينة.

في مدريد لن تكون بحاجة لسيارة لأنك سوف تركز على المشي على القدمين لأنه الوسيلة الأفضل لاكتشاف أسرار وأزقة المدينة التي تأخذك إلى أحد الشوارع الضيقة التي تشدك إليها رائحة القهوة القوية المنبعثة من أحد المحلات الصغيرة، ومن ثم يدق الجوع باب المعدة لتجد على كل زاوية وفي كل حي محلا يتجمع فيه الناس في جميع أوقات النهار لتناول أطباق «التاباس» الأشبه بالمازة الشرق أوسطية.

وفي قلب المدينة يوجد «لا بويرتا ديل سول» الذي منه يستطيع الزائر أن يزور المجلس القديم، والقصر الملكي بحدائقه الساحرة، والقصر الملكي بمدريد والمسرح الملكي الذي تقدم فيه عروض الأوبرا المميزة.

والقصر الملكي هو المقر الرسمي للملوك الإسبان ولكنه يستخدم حاليا لأغراض دبلوماسية فقط، وبالمرور في حجراته التي يبلغ عددها 3418 حجرة التي تشمل الصالونات وحجرات تناول الطعام، يستطيع الزائر أن يتخيل مدى الثراء الذي كان يحيط بالبلاط الإسباني في القرن الثامن عشر؛ فالأثاث، والأنسجة المزينة، والمصابيح، والستائر، والساعات والصور، وحتى أدوات المائدة، كانت تظهر أبهة ذلك الزمان الذي كانت فيه إسبانيا إمبراطورية عظيمة ومنافسا لكل من بريطانيا وفرنسا.

وعلى مقربة من ذلك القصر، يظهر الجزء القديم من المدينة بين الشوارع والحارات الضيقة. ومن الأفضل في تلك المرحلة أن تدع الخريطة جانبا، وتتجول من دون هدف وتستمتع بمعمار المباني؛ ففي هذه البقعة الجغرافية، ولدت مدريد كمدينة إسلامية (ماغيريت في القرن التاسع)، ثم أصبحت قرية قوطية، ثم تحولت إلى عاصمة ملكية في 1561، إلا أن أهم التطورات التي لحقت بها كانت خلال العصر الذهبي؛ ففي هذه الشوارع نفسها، كانت تمشي الشخصيات الأدبية والفنية العملاقة، وتفكر وتكتب وتتنفس وتحيا.

فكان فيلازكويز، غويا، كالدريون دي لا باركا، سيرفانتس وأخيرا كان فاليه إنكلان، وغالدوس، يبحثون عن الإلهام هنا، والحوار المثمر الذي يولد الأفكار. وكانت التجمعات الأدبية في الكافتيريات الصغيرة من العوامل المهمة لتطوير الأدب الأسباني.

وكان حي لا لاتينا في تلك الأيام مشهورا بالعدد الكبير من البارات والكافيتريات المنتشرة به. وكان من المعتاد أن ترى الكثير من أهل البلد عند الغروب يبحثون عن الهواء العليل الذي يمحو أثر الهواء الساخن في النهار ويستمتعون بالتجمعات العائلية. وهذه البارات المزدحمة هي نقطة التقاء كل الناس الذين يبحثون عن نهاية طيبة ليومهم، أو ببساطة لتناول كوب من الشراب.

في نهاية حي «بويرتا دي توليدو» يقع سوق الراسترو وهو سوق للبضائع الرخيصة الذي يمثل فرصة عظيمة لشراء أحدث الملابس، والكتب القديمة، والموسيقى القديمة، المسامير، بل وحتى الأجهزة الإلكترونية. وينصح دائما بأن تزور السوق في وقت مبكر، في حوالي التاسعة صباحا لتجنب الزحام الشديد. وبعد التجول في تلك الشوارع يكون وقت تناول وجبة «التاباس» قد جاء. وهناك الكثير من البارات الصغيرة والتقليدية في تلك المدينة، وأفضل شراب يمكن أن تتناوله هو في منتصف النهار هو «الفيرموت» الذي يفتح الشهية.

كانت مدريد دائما هي مصدر الإلهام بالنسبة لكثير من الفنانين سواء كانوا أجانب أم إسبانيين، كما أنها تمكنت من الجمع بين الأصالة والمعاصرة، ومن الاحتفاظ بعبق التاريخ الذي تتمازج فيه الثقافات. وفي الحقيقة، فإن معظم الصور المعلقة على جدران متحف «البرادو» أخذت من هذه المباني ومن هذه الشوارع، ويمثل حاليا «البرادو» نموذجا للجمع بين الأصالة والمعاصرة والتي تريد مدريد أن تظهرها في كل مكان.

والملحق الذي يديره رافييل مونيه يعرض كل اللوحات والمنحوتات التي كان معرض الفن يحتوي عليها، ويمكن للزائر أن يمر في ساعتين على الأقل على أفضل أعمال غويا، فيلازكويز، ريبيرا، روبيناس، أو رسامين آخرين من عصر النهضة الإيطالية واللوحات الفلمنكية.

إلا أن البرادو ليس وحده في ذلك الجزء من المدينة، فمدريد لديها أكثر ثالوث ثقافي أهمية في العالم؛ والذي يشمل البرادو ومتحف ريينا صوفيا ومعرض تيسين بورنميزا، التي تتجمع في حوالي 30 ألف متر، وهو قريب للغاية من نافورة سيبيلس الشهيرة.

وبعد المرور على نحو 500 قرن من التاريخ في جزأي البرادو، فإذا كان الزائر جائعا للفن الحديث، فيجب عليه أن يذهب في رحلة التنزه تلك.

ومن زاوية أخرى، فإن متحف «ريينا صوفيا» يحتفظ داخله بواحدة من أفضل أعمال بيكاسو وهي «جورنيكا».

وللفنانين الآخرين مثل دالي وخوان غريس مكان في ذلك المبنى الذي تم توسيعه قبل عام لكي تصبح العمارة الحديثة في أمثل مكان لها في قلب المدينة العتيقة. والمتحف الثالث هو تيسين بورنميزا، الذي يعرض فيه أكثر المجموعات الفنية الخاصة أهمية في أوروبا؛ فالزائر يمكن أن يرى لوحات من سبعة قرون من الحضارة الأوروبية، خاصة الرسامين الفلمنكيين. وللمتحف شرفة رائعة في الفناء يمكن أن تستنشق فيها الهواء العليل في الحدائق الفسيحة حتى تتراءى لك الدولة بأسرها وليس مجرد مركز لمدينة كبيرة.

ولا يوجد بمدريد منطقة صينية مثل بقية المدن الأوروبية، إلا أن حي لافابيس، وهو أحد الأحياء الأكثر أصالة في مدريد، أصبح منذ نحو خمسة عشر عاما من أكثر الأماكن التي تختلط فيها الثقافات في المدينة؛ فخلف بار إسباني تقليدي، تجد بارا مغربيا تقليديا ومطعما سنغاليا كذلك، وفي ذلك الميدان، يختلط الإسبان مع الأفريقيين والآسيويين أو البنغلادشيين في المحال والمطاعم أو في الجلوس على دكك الحدائق.

وعندما تتنزه في تلك الشوارع، تشعر أن كل شيء ليس في مكانه الملائم، أو بالأحرى فإنه في أكثر الأماكن ملاءمة له.

وأي لحظة في النهار تكون مناسبة لاستعادة النشاط في مدريد، فالعاصمة الإسبانية تعج بالمأكولات شديدة التنوع ولكن أفضل الخيارات هي أن تذهب إلى أي بار وتطلب قدرا من التاباس مثل الأومليت الإسباني ووجبات السجق الطازجة والبطاطس الكروكيت، واليخنة الإسبانية.

ومن أشهر البارات وأكثرها قدما الألمندرو، (كالي ديل ألمندرو، 13)، وكاسا لابرا (في كالي دي تتوان، 12) وجوانا لا لوكا (بلازا دي لا باجا).

ويقدم ذلك المطعم الأخير وصفات حديثة من التاباس مع إضافة المكونات الأصلية للطعام الإسباني، ومن الخيارات الأخرى هي أن تتناول الكوسيدو أو اليخنة (طبق تقليدي من مدريد) في مطعم تقليدي. على أية حال فإنه ينصح دائما بأن تتناول تلك الوجبة في الغداء لأنها ليست وجبة خفيفة وتحتاج بقية النهار لكي تهضمها.

ومن أفضل الأماكن للاستمتاع بالطعام كذلك مطعم تابرينا لا بولا (كالي دي لا بولا، 5)؛ لاهاردي (كاريرا دي لوس جيرونيموس، 5) وكاسا كارولا (كالي دي باديلا، 54).

وبعد قضاء الوقت في تناول الطعام والشراب يكون المساء قد حل، والليالي المميزة في مدريد هي الليالي الطويلة في الصيف، وهناك كثير من الكافيتريات المفتوحة في الشوارع والميادين التي يمكنك الاستمتاع فيها بالموسيقى والكوكتيل الطيب، والهواء العليل. وإذا كان الزائر يبحث عن شيء مغطى فإن أفضل خيار بالنسبة له سيكون الانتقال من بار إلى بار، والانتهاء في بار في منتصف المدينة مثل أي شخص آخر يسكن في كالي دي إكيغراري أو كالي دي هيرتاس.

ومن الطرق الأخرى لشم رائحة مدريد هي أن تشرف عليها من الأعلى، وقد حرصت الفنادق الكبرى التي تقع وسط المدينة على وضع كافيترياتها المفتوحة التي تعمل كبارات لكي تصبح فرصة جيدة لكي تحصل على أفضل إطلالة على المدينة المضاءة.

ففندق مي (بلازا سانتا أنا، 14)، والأوربان (كاريرا دي لوس جيرونموس، 34) من أجمل الكافيتريات المفتوحة في مدريد.

وبالبقاء هناك، فإن القول الإسباني «من مدريد إلى الجنة» يصبح حقيقة ويستطيع المرء أن يلحظ أن مدريد هي مدينة يمكنك أن تعيش فيها وليست مدينة تزورها لمرة واحدة.

* صحافية من «الموندو» الإسبانية متعاونة مع «الشرق الأوسط»