سان بطرسبورغ.. أنيقة بدون تكلف وجميلة بعيدا عن التبرج

دعوة إلى زيارة جديدة للتاريخ

سان بطرسبورغ.. سيمفونية معمارية مفرداتها قصور وآثار («الشرق الأوسط»)
TT

تدعوك إلى أن تنضو القناع، فتأتيها ملبيا نداء يكتنفه غموض كثير، تنزلق في خطوات وجلة بحثا عما قد يعينك على مواجهة تبعات جنون غرام اللحظة.. فالمدن مثلها مثل البشر. قد تسلبك الفؤاد لتقع في غرامها من النظرة الأولى. إنها سيدة المدائن التي تأسر القلوب بلياليها البيضاء، وسمائها المرصعة بنجوم الفن والشعر والأدب والموسيقي. إنها المدينة التي يحترق معها الكيان تحت وطأة كبريائها الجميل. إنها لينينغراد أو بيتر.. أو بيتروغراد.. أو سان بطرسبورغ. ليس مهما أي الأسماء أقرب إلى القلب والعقل، المهم أن كلا من هذه الأسماء والتسميات عنوان للوحة فنية أو قل سيمفونية معمارية مفرداتها قصور وآثار تجمع بين الأصالة والفخامة. مبانيها وميادينها مجللة بهيبة ماض تليد تفوح منه أطياب تاريخ ثري ثراء الحياة. لينينغراد بشوارعها ومبانيها، بقنواتها التي يبلغ عددها 93 قناة، وجزرها التي تجاوزت المائة، بجسورها التي يعدونها 342، وضواحيها المفرطة في الأناقة، كانت ولا تزال مفردات تاريخ ثري ثراء الحياة بكل معانيها. هي أنيقة في غير تكلف، جميلة في غير تبرج، معالمها تبدو منسجمة في وفاق مع الكثير مما يجيش في نفوس المحبين والعشاق. نسماتها مفعمة بأطياب تاريخ تتسلل إلى النفس لتشيع أجواء البهجة المفعمة بقليل من الأسى حزنا ولوعة على ما كان وهو كثير. لياليها قال عنها أديبها ذائع الصيت فيدور دوستويفسكي في رائعته «الليالي البيضاء»: إنها «جميلة.. جميلة جمالا لا نراه إلا حين نكون في ريعان الشباب أيها القراء الأحبة! السماء تتلألأ فيها النجوم، وتبلغ من الصفاء أن المرء يتساءل على الرغم منه حين ينظر إليها «هل يمكن تحت مثل هذه السماء أن يعيش أناس يملأ قلوبهم البغض، وتعبث بنفوسهم النزوات».

على ضفاف نهر النيفا، وحيث تتعانق روافده مع الخليج الفنلندي شمال شرقي بحر البلطيق، ومع بزوغ فجر القرن الثامن عشر توقف بطرس الأول قيصر روسيا الجموح يمسح بناظريه ذلك المكان بحثا عن موقع يصلح خطا للدفاع الأول في مواجهة ملوك السويد وفرسان الفايكنغ الذين طالما استباحوا حرمة الأراضي الروسية. كان أسير رغبة جارفة راودته بعد أول انتصار بحري باهر أحرزه على ملك السويد كارل الثاني وحمله إلى مشارف بحر البلطيق، في أن يجد ضالته في هذا المكان. آنذاك اختار بطرس الأول مؤسس روسيا الحديثة وأحد أهم رموز نهضتها الحديثة إحدى الجزر المتناثرة في دلتا نهر النيفا لتكون قلعة الصمود، وأطلق عليها اسم اثنين من حواريي السيد المسيح «بطرس وبافيل»، وكانت النقطة التي انطلقت منها أكبر عملية بناء في تاريخ الدولة الروسية الحديثة. في مايو (أيار) 1703، أي مع مطلع القرن الثامن عشر، ظهرت المدينة التي أطلق عليها بطرس الأكبر اسم «القديس بطرس ـ سانت بطرس»، وأضاف إليه «بورغ» أي «المدينة» بالألمانية ليكتمل الاسم.. «سان بطرسبورغ». وسرعان ما ترامت أطرافها لتتحول تدريجيا إلى العاصمة الجديدة للدولة الروسية. إذن فالتاريخ يستمد أصوله من بداية قرن يصفونه بالجنون والحكمة. هكذا قال أديب عصره الذائع الصيت ألكسندر راديشيف، الذي سجل بعضا من ملامح تلك الحقبة التاريخية في كتابه «رحلة من بيتربورغ إلى موسكو» الذي صادرته السلطات القيصرية في حينه وكان مبررا لنفي مؤلفه إلى سيبيريا.

هذا الاسم عادت إليه المدينة مع أولى موجات المد الديمقراطي الذي عصف بمدينة «لينينغراد» في خضم صراعها مع الكرملين، وفي أعقاب استفتاء شعبي عام أقر في عام 1991 العودة إلى الماضي سبيلا إلى التغيير بعيدا عن تراث البلشفية وسلبيات الثورة الاشتراكية التي انطلقت من هذه المدينة إثر ثورتين متتاليتين في فبراير (شباط) ثم في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1917. كانت المدينة وعلى مدى ما يزيد على قرنين من الزمان مهد الكثير من الانتفاضات والثورات التي شاء القدر أن تكون، وبموجب إرادة من أراد أن تكون لها اللحد ما سجله في حينه أساطين الأدب والفنون ممن احتضنتهم، وكانت خير راع لمواهبهم التي طالما تغنى الأسلاف بما أبدعته من روائع.

وإذا كان تاريخ المدينة يستمد أصوله من بداية قرن وصفه راديشيف بأنه خليط بين الحكمة والجنون، فإن ما تلا ذلك من أحداث كان أقرب إلى الجنون منه إلى الحكمة، وإن رأى البعض ما هو على النقيض من ذلك. ولعل ما شهدته هذه المدينة الجميلة الرقيقة التي تحمل عن جدارة واستحقاق اسم العاصمة الثقافية للدولة الروسية على امتداد تاريخها من «كرنفال» يكشف عن مدى عدم اتزان عدد من تصرفات حكامها تجاه تغيير اسمها القديم الذي اختاره لها مؤسسها بطرس الأعظم. فمع أولى سنوات الحرب العالمية الأولى أعلن قيصر روسيا عن رغبة في إطلاق اسم قيصر روسيا الأعظم «بطرس الأكبر» على المدينة والتخلص من «بورغ» الألمانية في «سان بطرسبورغ» واختيار «غراد» السلافية ـ الروسية، وكلتاهما تعني «مدينة»، مؤكدا ذلك في اختيار «بيتروغراد» اسما جديدا للعاصمة نسبة إلى مؤسسها بيتر أو بطرس الأعظم. وإذا كان القيصر قد انزلق إلى مخاطر التلاعب بالتاريخ، فلم يكن البلاشفة أحسن حالا، حيث سرعان ما أعلنوا فرمانهم حول إطلاق اسم زعيم ثورة أكتوبر «لينين» على المدينة تخليدا لذكراه عقب وفاته في عام 1924، ولم يكن قد مضى على إقرار الاسم القديم أكثر من عشرة أعوام.

لم يراع أي من الأسلاف مآثر الأخلاف وما أودعه الموهوبون من شعراء وأدباء روسيا ذائعي الصيت من أمثال ألكسندر بوشكين وفيدور دوستويفسكي من ذكريات وإبداعات وفنون ارتبطت في معظمها بتاريخ هذه المدينة.

وعلى الرغم من تباين سمات العصرين واختلاف توجهات «الغريمين»، فقد ظلت المدينة محتفظة برونقها وأناقتها.. استهدفتها القوات الهتلرية مع أولى سنوات الحرب العالمية الثانية فاصطدمت بملحمة طالت لياليها لتكمل التسعمائة يوم في مقاومة لم يكسرها حصار أو جوع أو صقيع. تاريخ تلك الحقبة الزمنية شاهد على همجية جحافل الفاشية تجاه أرق وأجمل رموز الفن والثقافة. قسوة اللحظة ووحشة المكان وما تكبدته المدينة من مشاق وآلام الصمود لم تكن لتحول دون تحقيق الأسطورة التي خلدها ابن لينينغراد ديمتري شوستاكوفيتش فيما عرفه العالم تحت اسم «السيمفونية السابعة». أصاخ الموسيقار الشاب السمع ليسجل نبض الوطن في أغنية «الانتصار». شحذت لحظات الحصار مشاعره التي انسابت رقيقة حالمة لتسجل ما يحلو للبعض تسميته «سيمفونية لينينغراد»، ولذا لم يكن غريبا أن تكون هذه النغمات الحالمة مقدمة لما سجلته ريشة الأديب الروسي ألكسي تولستوي: «إنها تدفعك إلى طريق رائع تحفه الأفكار والعواطف وعالم حافل بالأضواء التي تمسك بتلابيبك لتطيح بك كالعاصفة، إلى أن تجد نفسك مسترخيا في هدوء على شاطئ الأحلام.. شاطئ المستقبل». على أن الأحداث التي تواترت دموية عاصفة، سرعان ما دفعت القائمين على أمور المدينة البطلة إلى تعجل بترحيل الصغار والعجزة ومعهم أبرز العلماء والفنانين إلى أعماق البلاد حفاظا على حياتهم، وتحسبا لمستقبل هم كنوزه وذخيرته. ولذا لم يكن غريبا أن يكون شوستاكوفيتش في صدارة هؤلاء الذين تقرر ترحيلهم في فبراير (شباط) 1942 إلى كويبيشيف على ضفاف نهر الفولجا. ولم يكن غريبا أيضا أن يستكمل شوستاكوفيتش سيمفونيته ليعزفها في الخامس من مارس (آذار) من العام نفسه مع أوركسترا مسرح البولشوي الذي سبقه إلى هناك.

سان بطرسبورغ كانت ولا تزال نموذجا وتجسيدا للوحدة الأوروبية التي يعكسها ذلك الانسامبل المعماري الفريد النمط من نتاج جهود وعقول ممثلي المدارس الفرنسية مع الإيطالية والألمانية. وتحت وقع هذا وذاك يجد المرء نفسه وقد أسرع الخطى صوب واحد من أهم وأجمل معالم المدينة.. صوب متحف الأرميتاج، ربما سعيا وراء راحة نفسية وخلاص من مشاعر رمادية يزيد من حدتها ما يضمره البعض لحسناء روسيا وسيدة مدائنها ودرة تاج «الإمبراطورية» من خطط لا بد أن تحول دون الاستمتاع بجمالها الأخاذ. فالمدينة أعرق وأسمى من ترهات عصر وأخطاء نظام. مشاعر السخط والغضب تجتاح الكثيرين من عشاق المدينة الوادعة الهادئة تجاه مسؤولين أفرطوا في تجاهل كل هذا الجمال، وبلغ بهم الشطط حد التفكير في بناء ناطحة سحاب عصرية لا بد أن تكون مسخا.. مهما تفتقت الأذهان والعقول عن حلول للتخفيف من وقع الصدمة. مشروع بناء «برج أوختا» الذي يريدونه مقرا لمؤسسة «غاز بروم» يثير الكثير من الجدل، ويعارضه محبو وعشاق التراث الخالد. كيف يمكن التفريط في تاريخ لم ينل منه كل ما عاشته المدينة من أحداث جسام زادتها وقارا وأكسبتها رصانة لصالح مشروع عصري لن يضيف إلا «مسخا» لا يليق بقادة يحسب لهم التاريخ ما حققوه من إنجازات على طريق الحفاظ على الوطن وتاريخه؟

ونعود إلى «الأرميتاج أو الهيرميتاج» أكبر متاحف الدولة الروسية وأكثرها شهرة وأقدمها تاريخا. هنا يجد المرء نفسه بين أحضان عالم الأحلام ونفائس التاريخ. هو مجموعة من القصور التي تناغمت فيما بينها لتشكل سيمفونية معمارية لم ينل منها التباعد الزمني لعدد من مفرداتها. إنه الأرميتاج الذي يستمد بدايته من نزوة جميلة لقيصرة روسيا الأشهر يكاتيرينا الثانية. قصر صغير شيده المعماري الذائع الصيت آنذاك فالين ديلاموت أرادته ملحقا للقصر الكبير بحثا عن عزلة مع النفس والذات مما استحق معه تسمية «الهيرميتاج – أو الأرميتاج»، هذا القصر سرعان ما بدا في اتساق وانسجام مع القصور الأربعة التي تجاورت على ضفاف نهرها الخالد «نيفا»: قصر الشتاء مقر حكم القياصرة من تصميم المعماري المعروف راستريللى، وقصر الأرميتاج الكبير أو القديم للمعماري فيلتين، ثم مسرح القصر لكفارينغي، وأخيرا الأرميتاج الجديد للمعماري كليفيتس. هذا الانسامبل المعماري سرعان ما تحول إلى واحد من أهم معالم الدولة الروسية. تقول الأدبيات التاريخية إن بطرس الأول مؤسس روسيا الحديثة خلده من خلال هواية جمع التحف واللوحات الفنية الثمينة. قالوا إن لوحة لفنان مجهول حملت اسم «محاكمة المسيح» أطلقت العنان لرغبة دفينة في اقتناء كل ما يمكن أن يعني لاحقا الخلود للزمان والمكان. البداية تمثلت في فرمان قيصري يقضي بجمع كل الأعمال الفنية العالية القيمة والتماثيل والمشغولات الذهبية والفضية والتي يمكن أن تشكل لاحقا مجموعة فنية متكاملة. أما الخطوة الثانية فتمثلت في 255 لوحة فنية اقتنتها يكاتيرينا الثانية في مدينة برلين تخليصا لدين لم يستطع أحد كبار التجار الألمان سداده. وكانت غالبية هذه اللوحات من أعمال مشاهير الفنانين الهولنديين والألمان ومنها «بورتريه الشاب الذي يمسك بالقفاز» من روائع الفنان فرانس هالس من المدرسة الألمانية. وقد ساهمت علاقات يكاتيرينا مع الأصدقاء الفرنسيين في تنمية ذوقها الفني إلى جانب ما بذله سفيرها في باريس الأمير جوليتسين من جهود لجمع كل ما تقع عليه عيناه من ذخائر فنية في الخارج. ويذكر التاريخ أن جوليتسين جمع عددا هائلا من الأعمال الفنية التي سارع بإرسالها على متن باخرة شاء حظه العاثر أن تلقى حتفها في أعماق بحر البلطيق على مقربة من الشواطئ الفنلندية، وإن قالت المصادر التاريخية إن الحظ كان قد أسعده بتخلف إحدى أثمن اللوحات عن اللحاق بزميلاتها وهي لوحة «عودة الابن الضال» للفنان ريمبرانت التي تزين مع زميلتها «دانايا» جناحه الممهور باسمه في الطابق الثاني بمتحف الأرميتاج وسط إجراءات أمن مشددة لها ما يبررها. ففي عام 1985 وفي حادث مأساوي عجيب تعرضت «دانايا» التي تمثل صورة لابنة القيصر الأسطوري أركيس وقد استلقت عارية على إحدى الأرائك، لمحاولة خرقاء من جانب معتوه فاجأ زوار المتحف آنذاك بقذفها بمحلول حارق سرعان ما أتبعه بطعنتين غادرتين، تضافرت جهود كل الأوساط الفنية العالمية لتلافي ما لحق باللوحة من آثار مميتة وإعادتها إلى الأضواء التي تتمتع بها اليوم داخل إطار زجاجي واق من الرصاص مع عدد آخر من مثيلاتها في الأرميتاج اليوم. وليس ثمة شك في أن هذا المكان الذي يضم بين جنباته ما يزيد على ثلاثة ملايين ونصف مليون قطعة فنية يظل متفرد المكانة بوصفه أسطورة فنية وملحمة رائعة مفرداتها أروقة وديكورات مفرطة في الأناقة بغير تكلف، مما يجعله يبدو أشبه بدعوة رقيقة إلى تناسي ترهات الماضي والتسامي فوق أحزان التاريخ.