«كرداسة».. سياحة التسوق في مصر

احترفت صناعة العباءات منذ ثلاثينات القرن الماضي

تشتهر «كرداسة» بتصنيع العباءات والسجاد
TT

على مدار سنوات حفرت اسمها على خريطة السياحة المصرية، بدأب وعلى مهل، كقرية تخصصت في الحرف اليدوية، سبقتها أخريات: قرية الحرانية القريبة منها جغرافيًا، لكن الحرانية التي تميزت بصناعة السجاد اليدوي كانت حلم المهندس المصري رمسيس ويصا واصف، الذي عاد من باريس وهو يبحث عن طريقة لبناء الإنسان المصري، وهو ما أثار مخيلة الفنانة إفيلين رياض بعدما قضت سنوات بصحبة ويصا واصف فأعادت إنتاج تجربته في قرية تونس بالفيوم (90 كيلومترا جنوب القاهرة)، اخترعت إيفيلن بكارة تونس وقادت أهلها للجلوس على دولاب الخزف لتكتسب القرية شهرة على المستوى العالمي في إنتاج الخزف اليدوي. لم تكن كرداسة حلما في خيال أحد غير أهلها من الفلاحين المصريين الذين أدركوا أهمية قربهم من المدينة، بل من أهم المناطق الأثرية في القاهرة، أهرامات الجيزة، لذلك حاولوا في أكثر من حرفة تقليدية، المنسوجات اليدوية، السجاد اليدوي، الخزف... وقد كانت لهم الكلمة الأهم في المنسوجات اليدوية التي تعود إلى زمن الحاج عبد الحميد عيسى.

«بدأ جدي العمل بمجال المنسوجات اعتمادا على المنوال اليدوي في ثلاثينات القرن الماضي ولحق به والدي، وكانا يصدّران المنسوجات إلى ليبيا والسودان على وجه الخصوص. في السبعينات، بدأت الصناعة تتطور وأصبحت عائلتنا متفردة في هذا المجال وأصبحنا نصدّر إلى الدول الخليجية. أما في التسعينات فشهدت الازدهار الأكبر للصناعة داخل كرداسة بوجه عام». هذا ما يؤكده نجله محمود عبد الحميد عيسى (48 عاما)، الذي أكمل مشوار والده وجده من قبله في العمل بمجال المنسوجات اليدوية. على الرغم من ذلك يعتقد البعض أن ظهور نشاط صنع العباءات المصنوعة يدويا في كرداسة يعود إلى إنشاء ثلاثة مصانع للمنسوجات بالقرية عقب ثورة يوليو (تموز) عام 1952. لكن بسبب الخسائر، أغلقت مع بداية السبعينات، واتجه العاملون بها إلى العمل في ورش صغيرة كانت مهد ازدهار صناعة العباءات المصنعة يدويا. الملاحظ أن براعة سكان كرداسة في أعمال النسيج والغزل تعود إلى عهد بعيد حيث برع الرجال والنساء في العمل اليدوي على النول، وتوارثت الأجيال هذه المهارات. لا ينفي محمود هذه الواقعة، لكنه يردّ أصولها إلى لجهود التي قامت بها أسرته من أجل وضع كرداسة على طريق الشهرة في هذا المجال. وهذا ما تحقق بالفعل.

فإذا ما راودتك رغبة البحث عبر شبكة الإنترنت عن أماكن يمكنك العثور فيها على أحدث خطوط العباءات، سيصادفك اسم كرداسة كثيرا. إلا أن زيارة كرداسة، التي كانت كبرى مدن محافظة الجيزة، وتتبع الآن محافظة 6 أكتوبر، قد تثير قدرا كبيرا من الحيرة لما تحمله من متناقضات جمة، فرغم شهرتها الواسعة على الصعيد الخارجي، العربي الخليجي على وجه التحديد، وتحولها إلى مركز لما بات يعرف باسم «سياحة الملابس»، تجمع المدينة بين متناقضات شتى تتجلى حتى من قبل الوصول إليها. فعلى الطريق إليها تجتمع قصور شاهقة وفيلاّت، مع بيوت ريفية بسيطة. وينتشر على جانبَي الطريق عدد من المصانع، بجانب أراض زراعية وورش صغيرة لصناعة الخزف، إحدى الصناعات الأخرى المميزة لهذه المدينة الفريدة. تعد كرداسة، البالغ عدد سكانها نحو 120.000 نسمة وتقع على بعد عشر دقائق من أهرامات الجيزة، معقل صناعة العباءات والجلابيب في مصر، بالإضافة إلى الستائر والمفارش، وتحتل مكانة مهيمنة داخل السوق المصرية تجاوزتها إلى السوق الأجنبية، خصوصا الدول الخليجية، حيث باتت العباءات المصنوعة في كرداسة واحدة من العناصر الرئيسة بالعديد من معارض المنسوجات بالدول العربية الخليجية.

وتعد القرية واحدا من المزارات التي يقصدها السياح من العرب والأجانب، ولا يقتصر النشاط بها على إنتاج العباءات فحسب، وإنما يشمل كذلك مصنوعات يدوية أخرى مثل السجاد اليدوي، والمصنوعات الخزفية، لكن تبقى العباءات مصدر الشهرة الأكبر للقرية. من اللافت للنظر في كرداسة امتزاج العناصر المميزة للقرية والمدينة بها، حتى يصعبُ على الزائر تحديد هويتها. النواة كانت قرية صغيرة من ضواحي الجيزة لكن مع مرور الزمن ومع انتشار شهرتها في أرجاء مصر ثم لاحقا عبر العالم اتسعت القرية وفقدت شيئا فشيئا ريفيتها، وتُوّجت بشكل رسمي كمدينة. أما أشهر شوارعها فهو شارع عبد الحميد عيسى السياحي، المعروف باسم الشارع السياحي فحسب، ويضم هذا الشارع والشوارع المتفرعة منه قرابة 300 محل لبيع العباءات، وتصل أسعار المحال به إلى ملايين الجنيهات، ما يعكس أهميته البالغة. تقام يوم «الاثنين» من كل أسبوع السوق الرئيسة بالمدينة، حيث يفد تجار من مختلف القرى المجاورة وأعداد غفيرة من الجمهور، بينهم عرب وأجانب، وتتنوع السلع المعروضة ما بين الخزف والخضر والفاكهة والملابس، وعلى رأسها العباءات بطبيعة الحال، وتضم السوق أيضا الحقائب المدرسية والأدوات المنزلية بالإضافة إلى الحيوانات، كالماشية والأبقار والأغنام، وتقام السوق في شارع السوق القديم، وتخلو غالبا من أي أجانب، بينما يقتصر الوجود والمشاركة على أبناء كرداسة. أما عن مصدر المنافسة الرئيسي لكرداسة، فأجاب محمود بثقة: «داخل مصر، لنا هيمنة كاملة على السوق. وفي ما يخص المنافسة الخارجية، تعد سورية المنافس الأكبر. لكننا، ولله الحمد، كسبنا مكانة كبيرة وأثبتنا وجودنا خصوصا مع اعتمادنا على القطن المصري الشهير».

وعن المواسم الكبرى قال محمود: «أفضل المواسم تتركز في الصيف، حيث يكثر إقبال السائحين العرب والأجانب. بينما يقتصر الإقبال خلال الموسم الشتوي على المصريين». وشدد على أنه «نحرص في جميع منسوجاتنا على التزام الطابع المصري البدوي السيناوي والمستوحى من الريف المصري، وكذلك التراث الفرعوني. وتتنوع أسعار العباءات حسب درجة التطريز اليدوي الموجود بها، وبالطبع حسب جودة الخامات. وبوجه عام، نصنع غالبية منتجاتنا من الأقطان. ونتميز بمستوى كبير من التعاون مع بدو سيناء، حيث يفد كثيرون منهم إلينا لشراء منسوجات. كما تحرص نساء بدويات على بيع منسوجاتهن اليدوية من خلالنا لما نتمتع به من شهرة واسعة وقدرة تسويقية كبيرة». وعن انحسار الإقبال على كرداسة مؤخرا، عزا محمود عيسى السبب إلى أن «السياحة العربية إلى كرداسة تراجعت لوصولنا إلى السوق العربية ومشاركتنا في الكثير من المعارض بالدول العربية الخليجية. ومع وصول عباءات كرداسة إليهم في بلادهم، لم يعودوا بحاجة إلى المجيء هنا».

إلا أن الحاج إبراهيم أحمد أبو زيد (60 عاما، أحد أقدم أصحاب محال العباءات بالشارع السياحي) له رأي مخالف، حيث اشتكى من انحسار الإقبال السياحي هذا الموسم، متهما وسائل الإعلام بالتضخيم في تناول أزمة وباء إنفلونزا الخنازير في مصر، ما دفع السياحة العربية بعيدا عن مصر لصالح لبنان وسورية. كما اتهم الحاج إبراهيم وزارة السياحة بالتقصير في تسليط الضوء على كرداسة على وجه ملائم ووضع برامج سياحية منظمة لزيارتها. واتفق جمال سعد (41 عاما، تاجر عباءات)، مع الرأي القائل بحدوث انحسار واضح في حركة «سياحة الملابس» بالمدينة، من قِبل السائحين العرب والأجانب، وعزاه إلى سوء حالة الطرق المؤدية إلى كرداسة، موضحا أن الفترة اللازمة للوصول إليها ارتفعت من قرابة نصف ساعة إلى قرابة ساعتين.

الملاحظ وفود الكثير من أبناء حي خان الخليلي بالقاهرة إلى كرداسة للعمل بها، الأمر الذي برره سعد بتشابه مجالات النشاط التجاري بين المنطقتين، حيث يخدم كلاهما السائحين.

من بين الوافدين الحاج إبراهيم، الذي وصف بدايته بقوله: «قدمت إلى كرداسة من خان الخليلي منذ 30 عاما تقريبا، تحديدا عام 1980، وافتتحت بازارا سياحيا. في تلك الفترة كان على معروضات البازارات في المدينة إقبال سياحي، لكنه بدأ في التراجع متأثرا بالمشكلات التي تتعرض لها السياحة بشكل عام. وفي عام 1990، بدلت نشاط المحل إلى بيع العباءات. وكان المحل من بين ثلاثة فقط في الشارع بهذا المجال. والآن وصل العدد إلى نحو 300».

وأوضح أن عملاءه يتنوعون بين المصريين والسياح، خصوصا العرب منهم، مشيرا إلى أن أسعار العباءات تتراوح بين 20 جنيها و700 جنيه، وأن المواسم الرئيسة تتركز في الموسم الصيفي بشهري يوليو (تموز) وأغسطس (آب)، وشهر رمضان.

واتفق الحاج إبراهيم مع الآراء القائلة بأن العباءة قضت على الجلابية التقليدية للفلاحة المصرية، وقال: «انتشرت العباءة بالفعل في القرى المجاورة كافة وأصبحت هي الزي الرئيس للمرأة. ويرتفع مستوى الإقبال على شراء العباءات من قِبل العرائس خلال فترة التجهيز للزواج وخلال شهر رمضان. وبالطبع، يعد التحول من الجلابية الفلاحية التقليدية إلى العباءة أمرا طيبا لنا». كما يعتبر الكثير من المصريين التسوق والذهاب إلى كرداسة نوعا من النزهة والترفيه، وبخاصة بعد انتشار عدد من المطاعم الجيدة التي تقدم المأكولات الشعبية كالفول والطعمية والكشري والفطير المشلتت وغيرها.