كوالالمبور.. وجه حسن يتدثر بالماء والخضرة

من مدينة لعمال المناجم إلى أكبر مركز تجاري وسياحي

تقع اشهر المعالم السياحية والتجارية في المثلث الذهبي
TT

من نافذة الطائرة تبدو العاصمة الماليزية كوالالمبور ببناياتها الشاهقة وأحزمتها النباتية الكثيفة، كسفن تطفو متناثرة على سطح بحر داكن الخضرة، ومع هبوط الطائرة تكشف المدينة عن ملامحها فتبدو على هيئة حسناء ترفل في ثوب أخضر ناصع يغسله المطر صباح مساء وعلى مدار العام.

أنت إذن في كوالالمبور عاصمة ماليزيا، البلد الإسلامي الذي يمزج بين الأعراق والأديان والثقافات ويعايش بينها في انسجام مدهش، ليحصد ثمار ذلك استقرارا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ما جعله يطمح ليكون في مصاف الدول المتقدمة بحلول عام 2020.

الخضرة والماء والابتسامة التي تكلل الوجوه بشكل دائم هي الملامح الأساسية لهذه المدينة التي أخذت اسمها من موقعها عند ملتقى نهري كوالانغ وكومبور، ومع أن النهرين كفّت مياههما عن الجريان منذ وقت بعيد فإن المدينة تبقى بحكم هذا الموقع الطبيعي وليدة شرعية للخضرة والماء، كما أنها بتعدد أعراقها وثقافاتها المتناغمة تجلٍّ بهيٌّ لوجه حسن عنوانه الابتسام الدائم.

تعود نشأة كوالالمبور إلى مطلع القرن التاسع عشر، كمركز حضري صغير سكانه الأوائل عمال المناجم العاملون في حقول تعدين القصدير، المعدن الذي اشتهرت به هذه المنطقة في الماضي، لكنها ما لبثت أن تطورت بوتائر متسارعة واجتذبت هجرات متنوعة، تأسست معها بنيات الحركة التجارية والصناعية في المدينة خصوصا بعد استقلال ماليزيا عام 1957، لتصبح خلال بضعة عقود أبرز مركز تجاري وسياحي في منطقة جنوب شرق آسيا، وقبل ذلك عاصمة فيدرالية لماليزيا بولاياتها الـ13 وسكانها البالغ تعدادهم 45 مليون نسمة. وتُعتبر كوالالمبور اليوم العاصمة الأكثر حيوية وديناميكية في تلك المنطقة خصوصا بعد توجه الدولة الماليزية لاعتماد السياحة بديلا اقتصاديا أساسيا والعمل على تقديم منتج سياحي متنوع ومتعدد المكونات يلبي احتياجات ورغبات السياح من مختلف البيئات والثقافات، ويبدو أن حملات الترويج السياحي المكثفة التي أطلقتها الجهات المختصة أفلحت في زيادة عدد زوار ماليزيا بشكل ملحوظ خلال العقد الأخير، بعد أن ارتفع عدد الزوار من 15.7 مليون زائر عام 2004 إلى 22 مليون زائر العام الماضي، ليحقق قطاع السياحة عائدات بلغت 7 مليارات دولار أميركي. ولما كانت كوالالمبور هي وجهة زوار ماليزيا الأولى في الغالب، فهم بحاجة إلى برنامج يوظف الوقت بشكل دقيق حتى يتمكنوا من زيارة أكبر قدر من معالمها والتمتع بمزاياها السياحية الفريدة قبل الانطلاق لزيارة المدن الأخرى. لعل أول ما يلفت نظر الزائر أن العاصمة الماليزية بسكانها البالغ تعدادهم 1.3 مليون نسمة هو حالة التعايش والتسامح والانسجام بين الأديان والأعراق والثقافات المتعددة المكونة للنسيج الاجتماعي الماليزي، فهناك الملاويون وجلهم مسلمون يشكلون نصف سكان البلاد تقريبا، ثم الصينيون ويشكلون 27 في المائة من السكان فيما يمثل الهنود وأعراق أخرى 23 في المائة، وتُعتبر كوالالمبور وعاء تنصهر فيه كل هذه المجموعات ونموذجا للتعايش والاحترام المتبادل بين الثقافات الآسيوية، لذا فزيارة هذه المدينة التي يتعايش فيها الماضي بكل عراقته ودفئه، مع الحاضر بكل وهجه وصخبه، بتوازن مدهش، تعد مهرجانا لإثارة الحواس بما فيها الحاسة السادسة، فالحياة هنا ممتعة وملهمة وساحرة.

لكن ما يميز كوالالمبور بالنسبة إلى الزائر هو ما تتمتع به من أجواء صافية نقية رغم اكتظاظها الواضح، فالغطاء النباتي الكثيف الذي يلف المدينة وينابيع المياه المنتشرة في أرجائها، بجانب المطر الاستوائي طوال العام، كل ذلك قلل من معدلات التلوث، وعزز من نقاء الأجواء وصفائها أيضا التوجه نحو استخدام الغاز وقودًا بدلا ن المشتقات النفطية الأخرى، الأمر الذي جعل التنقل في شوارعها التي تمتاز ببنية تحتية تكفل تصريف كل قطرة ماء لحظة هطولها متعة إضافية سواء في النهار أو الليل، إذا علمنا أيضا أن كوالالمبور تصنف من بين المدن السياحية الأكثر أمنا للزوار بحكم حالة الاستقرار السياسي للدولة والنسيج الاجتماعي المتماسك وعمق الوعي بأهمية السياحة كمورد اقتصادي، لذا يمكن للزائر التجول بطمأنينة خصوصا في الليل حين تلبس المدينة ثوبها المضيء الساطع الذي يبرز كل معالمها ويضفي على الحياة فيها بهجة وحيوية لا تعرف معها المدينة النوم.

تبهر كوالالمبور زوارها بحياة هي مزيج من الألوان والأضواء والأصوات والروائح والمذاقات، المشبعة بحرارة المناخ الاستوائي إلى جانب طبيعة خلابة وموروث حضاري ومعماري يجمع الأنماط المعمارية المستمدة من الطرازين الأندلسي القديم والكونيالي العتيق إلى جانب الأنماط الحديثة وناطحات السحاب والأبراج ومراكز التسوق والمتنزهات ومراكز التسلية والترفيه. وفي تاريخ كوالالمبور المعاصر يعد ميدان الحرية بوسطها أبرز المعالم وأعرقها، فالمكان شهد أهم حدث في تاريخ ماليزيا المعاصرة، وهو إنزال العلم البريطاني وإعلان استقلال ماليزيا عام 1957، ويحتضن هذا المكان احتفالات أعياد الاستقلال التي تقام في 31 أغسطس (آب) من كل عام، ويواجه ميدان الحرية من الجهة الشمالية مسجد السلطان عبد الصمد الذي بُني عام 1887 ويعد تحفة معمارية متميزة للتراث الأندلسي، وقد استُخدم كمقر حكومي خلال فترة الوجود البريطاني في ماليزيا، أما اليوم فهو مقر المحكمة العليا في البلاد. من أهم المعالم التي تميز وسط المدينة حديقة البحيرات التي تمتد على مساحة مليون متر مربع وتزخر بعجائب ونفائس الطبيعة، فهي تضم حديقة الطيور وبها 300 ألف طائر من مختلف الأنواع، وحديقة الفراشات وتحوي 10 آلاف فراشة ملونة تتنقل بحرية بين 15 ألف نوع من الأشجار والنباتات النادرة، وليس ببعيد عن هذا المكان حديقة التماثيل الصينية ومتحف الفن الإسلامي والمتحف القومي، كما تنتشر مجموعة من المعارض الدائمة في منطقة كارياتيكا التي تعد مركز الثقافة والفنون في ماليزيا.

وفي المقابل تمثل منطقة المثلث الذهبي وجه كوالالمبور الحديثة ومركز المدينة الذي تقع فيه أهم معالمها من الفنادق الكبرى والبنايات الشاهقة ومراكز التسوق والمطاعم والمتنزهات، ويعد برجا بتروناس بطوابقهما الثمانية والثمانين أشهر معالم هذه المنطقة، خصوصا وأنهما أعلى برجين في العالم اليوم بعد انهيار برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 2001، ويُسمح للزوار بالصعود إلى الجسر الذي يربط البرجين في الطابق الواحد والأربعين لرؤية المدينة من ارتفاع يزيد على مائتي متر، وإلى جواره يوجد برج كوالالمبور وهو رابع أطول برج في العالم بارتفاع 421 مترا عن سطح الأرض، ومع أن البرج بُني في الأساس كمحطة للاتصالات فإنه ما لبث أن تحول إلى مزار سياحي يتيح للزائر مشاهدة صور بانورامية للمدينة، كما أنه يضم محلات لبيع التحف والهدايا، وأمام الزوار أيضا فرصة لتناول طعام العشاء في المطعم الدوار بالبرج على ارتفاع 282 مترا عن الأرض.

وتربط أنحاء كوالالمبور المختلفة شبكة مواصلات حديثة، تشمل سيارات الأجرة (التاكسي) وتحسب أجرتها بالعداد، وشبكة قطارات أنفاق وخطوط حديدية حديثة إلى جانب الحافلات التي تجوب مختلف أنحاء المدينة، كذلك للتسوق هنا مذاقه الخاص نظرا إلى اتساع نطاق العرض من السلع والمنتجات الآسيوية إلى جانب أشهر الماركات التجارية العالمية، لكن المهم في تجربة التسوق هو زيارة الحي الصيني بالمدينة بطابعة التقليدي وبضائعه المتنوعة التي تجمع الجديد والمستخدم، ويحتاج الأمر إلى قدرة هائلة على المساومة قبل الشراء لتحصل على تخفيض يصل إلى أقل من نصف السعر المعلن، كما تنتشر في الصيني محلات التدليك والمساج على نحو واسع، مما جعل أسعارها مناسبة، ولا تزيد عن 15 دولارا لجلسة تدليك تمتد لساعة كاملة.

ومع تزايد أعداد الزوار العرب لماليزيا خلال السنوات الأخيرة طلبا للعلم والعلاج والترفية يلاحَظ وجود اهتمام متزايد بالثقافة العربية، فاللغة العربية مستخدمة في المطار إلى جانب لغات أخرى، وهناك العديد من المطبوعات التي تصدر باللغة العربية، كذلك تنتشر في منطقة بوكتبتانغ بوسط المدينة الكثير من المطاعم العربية والماليزية التي تقدم الأطباق العربية، وتحرص على تأكيد أن طعامها حلال، بالإضافة إلى محلات بيع الأشرطة الموسيقية العربية.

على المستوى الرسمي حرصت وزارة السياحة على تنظيم العديد من الفعاليات الثقافية العربية، أبرزها مهرجان زرياب للموسيقى الذي ينظم سنويا بمشاركة مطربين وموسيقيين من عدة بلدان عربية، كجزء من حرص الدولة على توثيق علاقاتها مع الشعوب العربية والإسلامية من ناحية ولاجتذاب المزيد من الزوار من ناحية أخرى خصوصا وأن ماليزيا تقدم نفسها مقصدا سياحيا بديلا للعرب والمسلمين من خلال الترويج لما يعرف بالسياحة الإسلامية.

ويبقى الطعام الماليزي بوصفه وجها آخر للتعدد الثقافي في هذا البلد تجربة لا بد للزائر من خوضها، فالأطباق التي تقدمها المطاعم عبارة عن مزيج فريد لتقاليد المطبخ الصيني والهندي والملاوي وحتى العربي، فالمطبخ الماليزي هو انصهار لكل هذه المذاقات، ولا تكتمل زيارة كوالالمبور إلا بتناول الأطعمة التقليدية المكونة بصفة أساسية من الأرز والأسماك واللحوم والخضراوات التي تُطبَخ بطريقة تكثر فيها البهارات الحارة والحرّاقة على نحو يُضطر معه الملاويون إلى إضافة السكر لتقليل حرارة البهارات.

الحكومة الماليزية قطعت شوطا مقدرا في بناء عاصمة جديدة في منطقة بتروجايا لتكون مقرا للدولة ومؤسسات الحكم، في مسعى لتخفيف حالة الازدحام التي تعانيها كوالالمبور اليوم بفعل النمو الحضري المتسارع والزيادة المتنامية في أعداد الزوار، فانتقال العاصمة إلى بتروجايا سيجعل من كوالالمبور مركزا تجاريا وسياحيا بامتياز.

قد لا يبدو أن الماليزيين مغالون حين يقدمون بلادهم على أنها آسيا الحقيقية، فالتنوع والتعدد والثراء السياحي المدهش إلى جانب التعايش والاستقرار والطموحات المدروسة يؤهل هذا البلد ليأخذ مكانه بين الدول المتقدمة بعد أن نجح في اختزال مقومات الثقافة الآسيوية وعمل على إعادة إنتاجها عبر التعايش والاحترام المتبادل بين ثقافاته وتقديمها للعالم بقلب مفتوح على كل الثقافات الإنسانية.