رحلة بين حدائق برشلونة الخفية

تعرف إلى المدينة عبر مساحاتها الخضراء

حدائق وروعة هندسية
TT

إذا ما تجولت تحت أشعة شمس برشلونة، عبر الشوارع المحيطة بشارع باسيو دي غارسيا، أحد أهم شوارع المدينة والمليء بالمحلات التجارية، لن يكون غريبا أن تشاهد جمال وروعة منطقة إيكسامبل، التي تعود مبانيها إلى القرن التاسع عشر والتي تمثل القلب الجغرافي والمعماري للمدينة. وتمتد المباني الحديثة الرائعة على جانبي جادة الشارع الذي تنشر على جانبيه الأشجار وتطل المعروضات المبهجة من المتاجر بدءا من الأثاث المصقول إلى القماش المميز بالذوق الرفيع والأحذية الأنيقة والشيكولاته المصنوعة يدويا.

خلف واجهة إيكسامبل الضخمة، يختفي عن النظر مزيج من الحدائق العامة والأفنية التي توفر ملاذا من سرعة المناطق الحضرية وتبرز مظهر الحياة اليومية في برشلونة.

تَشكّل العديد من هذه المساحات الخضراء في السنوات الأخيرة من الباحات التي تشكل مركز كل كتلة سكنية ويتم الوصول إليها عبر ممرات ضيقة أو إحدى البنايات. وتعد هذه المساحات الخضراء المكان الأمثل للراحة خلال مشاهدة المعالم السياحية لإيكسامبل الذي يمتد من المدينة القديمة إلى أحياء مثل غارسيا خصوصا إذا ما كنت تصطحب أطفالا.

وعندما تتجول في كوادرات دي أور (القسم الأوسط من إيكسامبل المعروف بدرره المعمارية الحديثة) ادخل إلى حديقة بالايو روبرت، ذلك المنزل الذي يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر والذي يشغله مكتب سياحة كتالونيا. تغصّ الحديقة بأشجار النخيل وأشجار الحمضيات والبرتقال. كما كانت الحدائق جزءا من ممتلكات روبرت إي سايروس النبيل الإسباني. وبإمكانك الوصول إلى الحديقة عبر باب القصر، الكائن في باسيو دي غارسيا 107 أو عبر بوابتين ضخمتين بالقرب من منعطف دياغونال.

على الرغم من تعرض برشلونة للجفاف وعدم وفرة المياه بها مقارنة بمدن أوروبية أخرى كباريس ولندن، وكون بعض حدائق إيكسامبل مرصوفة بالحصى أو قليلة الخضرة، فإنها أماكن أكثر تشويقا لكي تشاهد فيها الأفراد أكثر من بقع الحياة النباتية.

إذا ما اقتطعت بضع دقائق من وقتك خلال سعيك لشراء أواني الطهي من متجر فيكون الشهير (www.vincon.com) يمكنك الجلوس في حديقة هادئة خلف المتجر ومشاهدة الشرفات المتموجة على واجهة مبنى نادر مثل كازا ميلا أنتونيو غوادي، وربما شاهدت اثنين من سكان هذا المبنى من المحظوظين يتجاذبان أطراف الحديث. وإذا ما أردت أن تتعرف على حياة السكان المحلية ادخل إلى الحديقة الموجودة في نهاية باساجا ريكتور أوليفرز حيث بإمكان الأطفال تسلق الألعاب الخشبية القائمة في ظل الكنيسة القوطية لمريم العذراء والتي نُقلت حجرا حجرا من العاصمة القديمة في أواخر القرن التاسع عشر.

وبمقدورك أيضا الجلوس إلى جانب حمام السباحة الضحل ذي المياه الزرقاء الذي تصله المياه عبر ممر مظلم في كالي روغر دي ليوريا 56، إحدى أقدم الباحات الذي أعيدت إلى العامة من قبل المدينة في أواخر الثمانينيات وموطن برج مائي أسطواني مبني من الحجر (سعر تذكرة الدخول خلال الصيف 1.45 يورو). وقال فرانسيس ميونوز راميريز أستاذ الجغرافيا الحضرية في جامعة برشلونة خلال نزهة عبر إيكسامبل: «هذه الباحات تشبه نافذة على برشلونة، فبإمكانك أن تكون سائحا حضريا لتشاهد أعمال المدينة من الداخل». تلك البقع من المساحات الخضراء في الشبكة الحضرية لإيكسامبل إشارة إلى نظرة إيدلفونس ثيردا إي سونير، المهندس المدني التقدمي الذي يوافق العام الحالي الذكرى الـ150 لتصميمه المنطقة. عندما قدم خطته في عام 1859 كانت المدينة التي رسمها في ذهنه عملية أكثر منها مكانا للنبلاء والأثرياء، بل مدينة أشبه باليوتوبيا الاشتراكية حيث يعيش الأغنياء والفقراء جنبا إلى جنب في مبانٍ سكنية متقاربة الحجم تحيطها المتنزهات وحدائق المطبخ. حينئذ كانت برشلونة عبارة عن شوارع مزدحمة يغلب عليها الأمراض تتحلق حول الميناء، تحيط بها الأسوار التي تعود إلى القرون الوسطى والتي يقع خلفها رقعة واسعة تحولت في ما بعد إلى إيكسامبل. كانت الحياة بالنسبة إلى الطبقة العاملة كئيبة وقصيرة وكان متوسط عمر الفرد العادي 36 عاما.

في هذا المكان غير المنظم والوضيع أنشأ ثيردا منطقته جيدة التنظيم، التي كانت اشتقاقا من فكرة البارون جورجي إيوجين هاوسمان لإعادة تخطيط وسط باريس في بدايات ذلك العقد. تنبأ ثيردا بحاجات العصر الحديث وشكّل قالبا تطورت من خلاله المدينة لتصبح إحدى أهم وأنشط مدن أوروبا. انتعشت المدينة من خلال خطوط السكك الحديدية، وصمم شوارع واسعة يمكنها استيعاب القطارات والترام. وللإسهام في القدرة على التصور وبعض الاعتقاد بالسماح لسير الترام في الشارع قطع ناصية كل مبنى عند الزاوية وشكل زوايا دائرية رشيقة تعد أصدق تمثيل لإيكسامبل.

أصبح تخطيط ثيردا بصمة خاصة ببرشلونة الحديثة، لكن منتقديه أدانوه بالابتذال والرتابة وتجاهل الكثير من أفكار المساواة. وقال لويس بيرمانير الصحافي الكتالوني الذي ألف كتابا عن إيكسامبل: «كانت رؤية ثيردا سابقة لعصرها، ومن الحداثة لدرجة أن القليلين في ذلك الوقت أدركوا عبقريته. ولم ندرك إلا اليوم فقط أهمية هذا الرجل». أصبح بعض الشوارع أكثر تكافؤا من غيره من خلال الشوارع الكبيرة التي تنتشر فيها المنازل الفخمة التي جعلت من إيكسامبل معرضا للعمارة الحديثة مثل غودي ولويس دومينيك إي مونتانر وجوسيب بويج إي كادافاليتش، بينما الشوارع القريبة غير ممهدة ولا يوجد بها تعزيز للصحة العامة.

وأنشأ مطورو العقارات الجشعون بنايات أكثر ارتفاعا مما كان يستهدفه ثيردا، فمنعوا ضوء الشمس وأزالوا المساحات العامة التي كان يفترض بها أن تكون مكان صحيا ومبهجا (كباقي مخططي المناطق الحضرية في القرن التاسع عشر، حيث ساد اعتقاد أن التهوية الجيدة تمنع انتشار الأمراض)، وامتلأت الساحات داخل كل مربع سكني بالمتاجر والمكاتب.

بيد أن المساحات الخضراء التي أراد ثيردا أن تشكل ملمحا مميزا لإيكسامبل أصبحت حاجة ملحّة معاصرة. وفي محاولة لزيادة الرقعة الخضراء في برشلونة أنشأت المدينة 40 حديقة وتخطط لإضافة المزيد إضافة إلى إنشاء شبكة من أماكن المشاة فقط. وقال البروفسور ميونوز: «إننا نعود إلى فكرة ثيردا الأصلية. فالرؤية التي نملكها للمدينة الآن لا تختلف كثيرا عن تلك التي حصلنا عليها قبل 150 عاما».

* خدمة «نيويورك تايمز»