سان جان دو لوز.. شاطئ لدمج الثقافات المحلية

مدينة أطلسية ومثال للتعايش

مبان متراصة جنبا لجنب ومطلة على الماء مباشرة
TT

ليست الثقافات الأوروبية، الهامشية، كثقافة الشعب الباسكي «نسبة إلى إقليم الباسك» الواقع بين شمال إسبانيا وجنوب غرب فرنسا، ثقافات غير مؤثرة في بيئاتها المحلية. إنما العكس تماما. فالفكرة التي قامت عليها أوروبا الحديثة، خاصة بعد الحرب الكونية الثانية. كانت تخليص الناس من ثقافاتهم المحلية وتطعيمها بثقافة أوروبية خالصة وشاملة، عبر عنها بما يسمى الاتحاد الأوروبي دولا ومؤسسات، ودعاية ثقافية تسعى للتعميم في مشروعها، تمهيدا أو تأكيدا لانحسار الخصوصيات الثقافية والعرقية وذوبانها في جسد متماسك وصلب، وفي بناء كامل ومتحد على الأقل في نظرة العالم له وفي نظرته للعالم. لكن هذه النظرة المعممة عن أوروبا بكامل دولها، ليست حقيقية بالكامل كما يتضح من الوقائع.

والحق، أن المناطق الباسكية في فرنسا، وإن كانت لا تتمرد على فكرة الاندماج في الثقافة الفرنسية، كما هو حاصل في إسبانيا مثلا، فإنها موجودة وتغني، بحق، الثقافة الفرنسية، دون أن تتخلى عن هويتها الأصلية وتحدرها من شعب أوروبي محض، لا ينكر أوروبا، وإنما يريد الاحتفاظ بثقافته. غير أن للمناطق الباسكية طبيعة خلابة ذات جمال ساحر لا يضاهيه أي جمال، خاصة في جنوب غرب فرنسا، حيث تجاور المحيط الأطلسي جبال البيرينيه ويقترب منها بشكل لافت المناخ المتوسطي من الجهة الأخرى غير البعيدة. الأمر الذي يعطي لهذه المناطق خاصية سياحية مميزة دونا عن غيرها من المناطق الفرنسية.

والحق أن سان جان دو لوز (saint jean de luz) المدينة الساحلية الصغيرة، المجاورة لأختها الكبرى بياريتز (Biarritz) تعتبر، بحق، من أصدق الأمثلة على هذا التزاوج الثقافي الفريد في بلد مثل فرنسا، يعتز بثقافته بشكل كبير. إذ تعد هذه المدينة من أكثر المدن على شاطئ المحيط الأطلسي التي لا تقدم السياحة بوصفها فعلا ترفيهيا صرفا، بقدر ما تقدمه من خلال دمج الترفيهي بالثقافي بالتاريخي في صيغة جميلة، فمن خلال اللغة الباسكية القديمة، التي ما زالت مستعملة ليومنا هذا. أو من خلال المحافظة على تراث الباسكيين الذين يداومون على عدد من الصناعات التقليدية التي تعبر عن ثقافتهم إلى جانب اللغة. يمكن لأي سائح، طبعا، شراء التحف أو منسوجات ترمز للشعب الباسكي ولعلاقته القديمة مع فرنسا، فرنسا التي تزوج أحد ملوكها الكبار (لويس الرابع عشر) من الأميرة الإسبانية (ماري تريز) التي أصبحت ملكة فرنسا بعد زواجها منه في كنيسة سان جان دو لوز في التاسع من يونيو (حزيران) 1660، وهي الكنيسة التي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، وتعتبر من رموز فرنسا التراثية والأركيولوجية. وهي تعتبر من أقدم المعالم في المدينة، إلى جانب المنزل الذي عاش فيه لويس الرابع عشر مع عروسه، وقد تحول الآن إلى متحف يمكن لأي شخص من خلاله رؤية الطريقة التي كان يعيش على أساسها أحد ملوك فرنسا، أما الكنيسة، فقد بنيت على آثار بناء روماني في بداية القرن السادس عشر، ولم ينته بناؤها سوى في عام 1685، أي بعد زواج الملك فيها، حيث كان الجدار الجنوبي يوم الزواج قيد التأسيس، مما يعني أن الملك تزوج يومذاك في مكان كان يعتبر ورشة بناء.

من أهم وأكثر المعالم التي طبعت الثقافة الفرنسية، خاصة في فترة الستينات، أيام التظاهرات الطلابية التي غيرت شكل فرنسا، قبعة البيريه الشهيرة (beret) أو (beret Basque)، حيث تعود هذه القبعة التي طبعت الصورة النمطية عن الفرنسيين إلى الثقافة الباسكية. أما اليوم، حيث لا يمكن إيجاد الكثير من الرجال، الذين يرتدون هذه القبعة في باريس، وبعض المدن الفرنسية، من غير المسنين، فإن هذه القبعة في مناطق الباسك، ما زالت الرمز، الذي يفتخر به الباسكيون، لكونه يمثل تاريخهم. ومع ذلك فثمة مراجع تقول إن هذه القبعة تاريخيا لا تعود للثقافة الباسكية، بل لشعب البيرينيه، وهي في اسمها تعود إلى البيرينيه، لكن من يسكن البيرينيه، إنهم الباسكيون أنفسهم ومنذ المئات من السنين. وقد اشتهرت أكثر، حين بدأ الجيش الفرنسي يستعملها كرمز يرتديه الضباط فقط، وقد تحولت فيما بعد، بحسب شكلها وحجمها إلى التعريف بالفيلق الذي ينتمي له من يلبسها، خاصة عند المظليين الذين يرتدون البيريه الكبيرة الحجم وباللون الأسود. أما في مناطق الباسك، فلا يوجد رجل لا يرتديها، وذلك للإشارة، إما إلى تمسكه بالتراث الباسكي أو لاعتزازه بثقافته التي يبرزها من خلال ارتدائه هذه القبعة، أو لأنه في أحسن حال تعود أن يلبسها.

وتمتاز المدينة، بجانب التاريخ والتراث، باعتمادها الهندسة المعمارية الباسكية، التي تخلط بين الحجر والخشب في صيغة تزينية خارجية تعمتد المثلثات التي لا يعرف إلى ماذا ترمز تحديدا. لكنها تعطي طابعا جميلا للمدينة، وتميزها عن غيرها من المدن الفرنسية. وهو ما يمنحها أيضا طابعا قرويا يعيد الناظر إليه إلى قرون خلت، حيث إن هذا الشكل الهندسي غالبا ما مررته السينما في عدد من الأفلام، التي حكت قصصا رومانسية تعد من روائع ما قدمته السينما الفرنسية.

ورغم صغر هذه المدينة الأطلسية، فإنها تضم عددا هائلا من الفنادق التي تمتلئ بالسياح في الصيف. فالمدينة تضم أحد أجمل الشواطئ الفرنسية على الأطلسي، وهو على غير المتعارف عليه في الشواطئ الأطلسية الصخرية في غالبيتها، شاطئ رملي واسع يمتاز بأن مياهه تقريبا تبقى بين باردة ومعتدلة الحرارة على عادة مياه المحيط في الصيف. كما أنها، خلافا لمناطق الشمال الفرنسي، لا تبتعد كثيرا عن جبال البيرينيه التي تكون مقصدا مهما للسياح بما تتمتع به من جمال مروجها الخضراء، والعدد الكبير من الحيوانات البرية التي تعيش فيها، مثل الغزلان والطيور وبعض الأنواع من الحيوانات التي لا تعيش سوى في هذه المنطقة. وإضافة إلى كل هذا، تمتع المنطقة بمطبخها الساحر الذي يعتمد كثيرا على الدواجن، وخاصة البط الذي تشتهر المنطقة بأنها أكثر المناطق التي تحتوي على مزارع لتربيته في فرنسا.