«سوق الجمعة» بالإسكندرية.. تدشن سياحة الأسواق الشعبية

عمرها 500 سنة وتزدهر في الأعياد والمناسبات

لقطة لعم سعيد سعد أمام معروضاته من التحف والأنتيكات في سوق الجمعة («الشرق الاوسط»)
TT

في كل بلد سوق شعبية، لها رونق خاص، يحمل رائحتها وثقافتها وعاداتها وتقاليدها.. ولا تعدم هذه الأسواق التي تتنوع من بلد إلى أخرى، من المولعين بها، على رأسهم مدمنو اقتناء الأشياء القديمة، الذين يفتشون عنها، ويتتبعون آثارها، وغالبا ما يجدون في مثل هذه الأسواق ضالتهم، الأمر الذي يدشن نوعا من السياحة لازمت البشرية على مر الحقب والعصور، ألا وهي سياحة الأسواق الشعبية، خاصة في مصر.

فعلى مقربة من شواطئ البحر، في الإسكندرية عروس المتوسط بمصر، تقبع «سوق الجمعة» أشهر أسواقها الشعبية وأقدمها. فما هي إلا خطوات قليلة في السوق حتى تلامس عيناك أصنافا شتى من الأشياء، يمتزج فيها القديم المعتق بالحديث الطازج: «ساعات، ملابس، أثاث، أنتيكات متنوعة، أدوات صحية، أجهزة كهربائية، تحف ونجف، عملات نادرة، هواتف قديمة وأخرى حديثة جوالة، أدوات صيد وماكينات، لوحات فنية، قطع غيار سيارات، بالإضافة لسوق الخضر، التي تعرض صنوفا من الفاكهة واللحوم والأسماك، وشتى مستلزمات المعيشة»... كل هذا وأكثر اجتمع في مكان واحد تحت مظلة هذه السوق.

وسوف تكتشف بقليل من الإمعان والخبرة أنك وسط عالم مختلف يتبدى لك بقدر من الدهشة والغرابة، في منطقة مينا البصل التي تضع فيها السوق رحالها من عشية الأربعاء وحتى مساء يوم الجمعة من كل أسبوع.. هنا تجد في هذه السوق مئات الباعة البسطاء يفترشون الأرض، تتمدد بضائعهم بضعة أمتار أمامهم، صيفا وشتاء، آلاف من البشر من جنسيات من كل حدب وصوب رغم أنها من الأسواق الشعبية التي تخاطب فئة محدودي الدخل الذين يبحثون عن كل مستلزماتهم بأقل الأسعار، فإن الكثير من محبي التنقيب من الأجانب والعرب عن «الأنتيكات» المقتنيات القديمة والنادرة يتوافدون على السوق بشكل مستمر لعلهم يقتنصون تحفة أو قطعة فنية نادرة يرضون بها شغفهم.

الغالبية العظمى من رواد السوق هم من البسطاء أو من الطبقة المتوسطة، أو من السياح الأجانب، من محبي اقتناء الأشياء الشعبية القديمة والغريبة في الوقت نفسه. لكن الأمر اللافت للنظر أن رواد السوق في ازدياد بسبب غلاء الأسعار الذي يعاني منه المصريون، وتشهد السوق زحاما غير عادي قبيل فترة الأعياد. ولا يمكن أن يحول الطقس السيئ أو الأمطار دون قيام السوق أو يؤثر ذلك على حركة البيع والشراء.

تجاور السوق ميناء الإسكندرية وتمتد من ناحية ترعة المحمودية وحتى القباري، ويفترش الباعة الأرض في محيط ما يعرف ببورصة مينا البصل الواقعة بشارع عبد العال حلمي (الأسكاريدس سابقا) التي تأسست عام 1872 وكانت تعد من أقدم البورصات في العالم وأكثرها نشاطا والتي تخصصت في تجارة القطن والغلال وظلت مزدهرة حتى ثورة 23 يوليو (تموز)، ولا تزال حتى الآن تعج بالشون والمخازن المخصصة للقطن الذي كان الصناعة الرئيسية بالإسكندرية التي أتى عليها الزمن فلم يعد حال تجارة القطن كما كان عليه في الماضي.

يصف الكاتب الشهير فورستر في كتابه «الإسكندرية تاريخ ودليل» منطقة مينا البصل بقوله: «في الموسم تجد الشوارع المجاورة زلقة من جراء الزغب المشحم». ويقول الحاج بكر حمودة من أقدم الباعة في السوق لـ«الشرق الأوسط» إن المنطقة سميت بهذا الاسم لأنها كانت مكانا لتشوين البصل وتصديره من ميناء الإسكندرية، الذي لا يزال مبنى بورصته قائما حتى الآن.

لكن عم حسن الشهير بـ«أبو حمدان»، الذي يعرض أمامه مجموعة صور مميزة لشخصيات فرنسية ولأفراد الأسرة المالكة من سلالة محمد علي باشا، وبعض القطع المثيرة، وصور للإسكندرية في عصرها الذهبي، وساعات وعملات قديمة، في حديثه عن السوق قال «السوق لها شهرة، وعمرها عشرات السنين، وتزداد مساحة السوق بسبب البطالة، أشتري البضاعة من تجار الروبابيكيا، وأنتقيها بعناية لأنني أحب أن أبيع أي شيء مختلف، ويأتيني زوار من كل البلاد، والمنطقة أصلا سياحية لأنها قريبة من ميناء الإسكندرية، وزبائني ناس محترمون، وبعضهم من الأجانب، خاصة الجريك والطليان».

أما سعيد سعد (ديكوريست) ويبلغ من العمر أكثر من 60 عاما، فيقول «السوق معظمها غلابة زي حالاتي، وأنا أحضر للسوق من الخميس بعد الظهر، وأغادر الجمعة بعد الظهر، تقريبا بعد الصلاة بساعة أو ساعتين، المهم قبل العصر». ويستكمل حديثه «نشتري البضاعة من مخازن روبابيكيا، أو محال تحف تعرضت بضاعتها للتلف أو للخدش أو للكسر، أو من خلال المعارف، ولكن لا نأخذ شغلا من غرباء أبدا، والحمد لله الحال ماشي».

وحول أهم القطع التي عثر عليها أثناء عمله في السوق، يقول «هي عبارة عن مجموعة طوابع وعملات من أيام الملك فاروق، وشمعدان فرنساوي، ونجفة إيطالية، وهو الخير اللي كانت إسكندرية عايشة فيه، أيام الجاليات الأجنبية، وهي القطع التي باعوها قبل سفرهم. وممكن أكسب في الحتة 5 جنيهات أو 10 جنيهات، وأحيانا تكون السوق شغالة عال وأحيانا تعبانة ميجيبش حق المواصلات». ويشكو سعيد من مطاردات الشرطة وأعمال إزالة للبائعين رغم أن السوق تقام في نفس المكان منذ مئات السنين.

ويروي إبراهيم سليم، غواص سابقا، قصته مع سوق الجمعة، قائلا: «حاربت من 67 وحتى 73، وشاركت في عمليات حربية، لكن الحال انتهى بنا إلى هنا على الرصيف، في ظل غلاء المعيشة. أعمل في السوق منذ 22 سنة، والسوق عمرها أكثر من 500 سنة، من أيام الأتراك والعثمانيين، وهي من معالم إسكندرية، ورغم ذلك الحكومة تفكر في نقلها في الصحراء، وفي أوروبا لا توجد بلد من غير سوق مثل سوق الجمعة، لكنهم منظمون عنا أكثر».

يستطرد سليم «أنا زرت بلادا كثيرة لأني كنت أعمل على ظهر السفن، لكن السن لها أحكام وحاليا أعمل نجارا أفصل دولايب وشبابيك طوال الأسبوع وأبيعها يومي الخميس والجمعة بالسوق، والحمد لله، ممكن الشغل كله يباع ساعة الصبحية، ولنا زبائن بعينهم يأتون لنا مباشرة. والسوق تكبر وتزدهر وحجم التعاملات في يومي الخميس والجمعة يقدر بنحو 3 ملايين جنيه لكنها تقسم على كل الباعة في السوق».

وعن ذكرياته مع سوق الجمعة ومنطقة مينا البصل يحكي سليم «كانت شون القطن من نحو 40 سنة تعوق حركة المارة من هنا، فكانت الساحات تجمع نحو 100 ألف عامل وكانت الشوارع تمتلئ بزغب القطن، لكن إسكندرية ذبحت بسكينة باردة، لأن كل الصناعة كانت هنا في الإسكندرية، وحاليا كل الموجودين من التجار في السوق كلهم مشردون وبلا عمل ثابت».

وبسؤاله عما إذا كانت هناك خلافات بين الباعة في افتراش الأرض في أماكن محددة، نفى ذلك تماما وقال «السوق ليس لها شيخ، لكن الناس طول عمرها متربية مع بعض.. وكل واحد عارف مكانه ولا أحد يتعدى على أحد».

ويقول محمد المرسي، موظف بالقطاع العام «أجد كل ما يحتاجه بيتي هنا، وبأقل الأسعار، وغالبا ما أجد أشياء قيمة بمبالغ زهيدة، وأحرص على أن أشتري ألعابا لأطفالي الثلاثة في كل المناسبات من هنا فأتجول من مساء الخميس وصباح الجمعة لأعثر لهم على أفضل المعروضات وبالفعل فقد اشتريت دراجة أطفال بسعر 100 جنيه، وهي بحالة جيدة وماركة شهيرة، وهذا نادر الآن في المحلات».

ويؤكد رامي المتولي، موظف بشركة خاصة، أنه يحرص على تجديد سيراميك منزله سنويا بسعر زهيد، حيث يوجد بالسوق جميع الأدوات الصحية وأنواع من السيراميك متنوعة، كما يحرص على تجديد أثاث منزله من الجزء المخصص للمفروشات.

وترى مها رجب، ربة منزل «أن شراء المصنوعات الجلدية من سوق الجمعة أوفر كثيرا من الأسواق الأخرى، وهي تحرص على شراء ملابس العيد من السوق حيث تتفق مع البائع الذي تتعامل معه منذ سنوات على أن يخصها بأفضل القطع التي يبتاعها من بواقي المصانع».

لكن كل هذا الصخب الجميل الذي تشهده منطقة مينا البصل يومي الخميس والجمعة يختفي باقي أيام الأسبوع، ويتهيأ لزائرها أنها مهجورة، لكن ما إن يحل مساء يوم الأربعاء من كل أسبوع حتى يبدأ الباعة رحلة البحث عن الرزق فتعج المنطقة بالبشر، وتتحول إلى كرنفال من البهجة والمتعة على مدار يوم «الجمعة» حيث يكتمل عقد السوق الشهيرة.