محمية إهدن في شمال لبنان.. مقصد الزوار الهاربين من ضجيج المدن

فيها 1300 نوع من النباتات والأشجار النادرة وحيوانات على وشك الانقراض

محمية طبيعية فيها نباتات واشجار نادرة
TT

لا تزال منطقة إهدن الجبلية في لبنان، تعيش لحظات هادئة مع المطر والثلج. فهناك تحتمي البيوت القرميدية الصغيرة والواقعة تحت أشجار معمرة وباسقة ما زالت أوراقها تحافظ على خضرتها النضرة، على الرغم من فصل الشتاء وقسوته؛ فأشجار السنديان والأرز والسرو العالية تزين ساحاتها وأماكنها وزوايا بيوتها. وتقع مدينة إهدن في قلب جبل لبنان الشمالي، وترتفع على سطح البحر 1450م، وتبعد عن بيروت 110 كلم وعن طرابلس 30 كلم، أما زغرتا المدينة فتبعد عنها 25 كلم. وتكاد مدينتا إهدن وزغرتا تشكلان الحالة الفريدة في لبنان كمصيف ومشتى للأهالي أنفسهم.

في إهدن الألوان تستبيح زرقة السماء في وقت الصحو. الشمس تعود مزدانة بشعاعها الذهبي فتلوّن مساحات المنطقة، التي تعد مصيفا لأهالي زغرتا المجاورة. باستطاعة زائر إهدن أن يستمتع بالمشي بين أزقتها المليئة بمشاهد ريفية تفتقدها حياة المدينة. إيقاع الحياة في ريف إهدن على الرغم من حداثته لا يزال يحمل في طياته لمسات من الريف اللبناني. قد يشاهد الزائر لإهدن السياحية بيوتا صغيرة ذات شبابيك خضراء وزرقاء قديمة ومهترئة، وبعضها مرمم ما زال يحافظ على «ستايل» عتيق من البناء المعماري الريفي؛ فالبيوت التي تبدو هادئة ومريحة وذات حدائق صغيرة تنمو فيها أشجار من الياسمين والتفاح وبعض أشجار السرو، تحيط البلدة بهالة من شغف لا يشبع الحواس، وإلى جانبها تضفي الفنادق الفخمة، التي تبدو منسجمة مع أجواء البلدة وحميميتها، لمسة حنين لا نجدها في مناطق أخرى في لبنان.

هناك في إهدن محمية طبيعية تعد من أكبر محميات لبنان السياحية، وتستقبل كل عام أكثر من 15 ألف سائح سنويا. تحتوي محمية «حرج إهدن» الطبيعية على تنوع فريد وغابة الأرز اللبناني الجميلة، مما يجعلها جزءا مهما من تراث البلد الثقافي والطبيعي.

أنشئت محمية حرج إهدن الطبيعية عام 1992 وتمتد من علو 1200 إلى 2000 متر عن سطح البحر، وتبلغ مساحتها 1000 هكتار. وتقع المحمية في المنحدرات الشمالية الغربية لسلسلة جبال لبنان الغربية، يحضنها الندى مع ترسبات عالية نسبيا، ويزهر فيها كثير من النباتات النادرة والمستوطنة. وتقع بمحاذاة أشجار الأرز، غابة تجمع بين العرعر والتنوب إضافة إلى المجموعة الأخيرة المحميّة في البلاد من شجر التفاح البري.

وإذا ما نظر أحد الزائرين من أحد المرتفعات الساكنة عبر الغابة، قد يحالفه الحظ برؤية أحد النسور أو أحد الذئاب أو القطط البريّة.

لا شك في أن وديان المحمية الجميلة وممراتها، بسحلياتها البرية وضفادعها الزاهية وفطرياتها وسائر نباتاتها وحيواناتها، كفيلة بتهدئة أعصاب، حتى أكثر الزوار قلقا. هناك يستطيع السائح أن يتخلى عن ضجيج الحياة المعاصرة ليلتحق بهدوء طبيعي لا تسكنه سوى همهمات خفيفة لحيوانات لا نراها إلا في مثل هذه الأماكن النادرة.

يؤكد جو معوض، وهو مساعد مدير المحمية لـ«الشرق الأوسط» على أن «محمية حرج إهدن الطبيعية غنية بالتنوع البيئي. وقد تم حتى الآن إحصاء نحو 1300 صنف من النبات في المحمية، أي 40 في المائة تقريبا من أصناف النباتات في لبنان، علما بأن المحمية تمثل أقل من 0.1 في المائة من المساحة الإجمالية للبنان».

وأضاف أن «المحمية تضم نباتات مثل الأرز، وتمثل مجموعة غابة الأرز في حرج إهدن 20 في المائة من غابات الأرز المتبقية في لبنان، مما يجعلها ذات أهمية على الصعيد الوطني. وهناك شوح (قليقيا)، وتشكل مجموعة غابة الشوح في المحمية الحدود الجنوبية الطبيعية لهذا الصنف. وهناك أيضا التفاح البري، تحمي المحمية المجموعة الأخيرة المتبقية من شجر التفاح البري المستوطن في لبنان. وهناك شجر اللزاب، وتشكل مجموعة غابة اللزاب خزانا جينيا لمشاريع إعادة التحريج على ارتفاعات أعلى».

كما أشار معوض إلى أنه تم إحصاء نحو 300 صنف من الفطريات، يأخذ بعضها شكل فطر ملون، وتعيش الفطريات بالتكافل مع الأشجار، وتمدها بالمواد المغذية المهمة، وهي ضرورية للحفاظ على نظام بيئي صحي في الغابة، إضافة إلى وجود 23 نوعا من الثدييات. ويعيش فيها 156 نوعا من الطيور منها ما هو مهدد بالانقراض على الصعيدين العالمي والمحلّي.

على الجانب الغربي لمحمية إهدن، تستقبلك مجموعة من البيوت الخشبية الصغيرة الحجم، منها ما أصبح جاهزا للسكن ومنها ما لا يزال قيد الإنجاز. وهي بيوت يقيمها أحد رجال الأعمال في البلدة، ويدعى ألفونس يمين. الفكرة التي بدأت صغيرة أخذت تتوسع في تلك المنطقة البعيدة عن إهدن البلدة ولا يأتي إليها إلا من يقصدها، وغالبية الزوار هم من الأجانب الذين يهربون من الضوضاء والمدينة ويعشقون الليل والسهر.

هذه البيوت الخشبية الساحرة، تتلاصق إلى حد بعيد كأنها جسم خشبي واحد، داخل غابة من الصنوبر حيث بني قسم منها على الأرض مباشرة، ورُفع قسم آخر على أعمدة خشبية تتناسب مع طبيعة الأرض ومستواها. توفر هذه البيوت التي تؤجر من قبل السياح لقضاء نزهات ورحلات بيئية داخل غابات محمية وحرج إهدن. وتكون بمثابة بيوت «بيئية» تشبه إلى حد ما بيوت الريف الفرنسي الجبلية.

انطلق يمين في مشروعه من معاينة نوعية الخشب التي تتلاءم مع طبيعة المنطقة وجوّها المثلج، فكان التركيز على «الصنوبر الأميركاني» المقاوم للبرودة والثلج والمكلف في الوقت نفسه. واستخدم يمين في بناء البيت مادتي اللبن و«الكلين» القديمتين، اللتين كانتا تُستعملان في بناء المنازل القديمة، من دون أن ينسى القش المفروم الذي يُمزج مع اللبن ويحفظ الحرارة حفظا كاملا. ولا تقتصر الزيارة على النوم في البيوت الخشبية فحسب، بل هناك برنامج يتضمن سهرة نار ورحلات ليلية داخل محمية إهدن الطبيعة، وخاصة للسياح الذين يعشقون المشي في الليل. ويشير معوض إلى أن «كل ما يقوم به الإنسان في حياته مغامرة، وهذه الفكرة لاقت قبولا لدى الناس، وخصوصا الأجانب منهم الذين سئموا مشهد الباطون وأشكاله، ولجأوا إلى الطبيعة والخشب، وهو ما شجع معظمهم على القدوم إلينا».

تقدم المحمية لزائريها أعلى مستوى من الخدمات في التخييم والنزهات البرية ورحلات المشي البيئية. وتعطيهم الفرصة للهروب من زحام وضوضاء المدن إلى هدوء الطبيعة وجمالها في المناطق المحيطة بها، حيث الجبال الشاهقة من أرز بشري والمدرجات الجبلية ذات الينابيع الرقراقة والعذبة.

وفي وادي إهدن الذي يمثل عالما مفتوحا من أجمل معالم الطبيعة الفاتنة يستقر منتجع «إهدن كاونتري كلوب»، على بعد 90 كيلومترا شمال العاصمة بيروت، وعلى ارتفاع 1450 مترا من سطح البحر. في هذا المنتجع الرومانسي الهادئ يمكن قضاء عطلة استجمام وراحة. وإذا كانت الزيارة في الصيف فإن ضيف «إهدن كاونتري كلوب» سيستمتع برؤية بانوراما من المناظر الطبيعية الخلابة ومجموعة الجبال الساحرة التي تحيط بالمنتجع من كل ناحية، أما إذا كانت الزيارة في الشتاء فيمكن ممارسة التزلج على الجليد في أحد الأماكن التي تم إعدادها في المنتجع لكي يستمتع بها الضيوف.