دليلك إلى متنزهات نهر العاصي في سورية

رحلة النهر الذي عصى وتمرد على الطبيعة

TT

يسمونه النهر الساحر، فهو بمياهه ومسطحاته الخضراء القائمة على ضفافه يسحر كل شخص يراه ويجلس بجانبه، ويسمونه النهر العاشق والنبيل، لأنه يقدم الخير والجمال لكل شيء يجاوره، ويسمونه النهر الحاضن، فهو ومنذ وجوده قبل آلاف السنين احتضن حضارات ومدنا قامت على ضفافه فوهبها الحياة والديمومة، وكثيرون أطلقوا عليه النهر الأسطورة حيث نسج اليونانيون والآشوريون حوله الأساطير والحق معهم فأطلقوا عليه اسم مرسيا (القتيل المظلوم) وآرانتو، وفي القرون الوسطى صار اسمه «آرونت» حيث هو اسم أول مهندس نصب جسرا فوقه (حتى الشاعر البحتري ذكره هكذا في قصيدة له يقول بها: وكم قطعت نهر الأوروند إليهم كتائب تزجى فيلقا بعد فيلق).. وهناك من أطلق عليه اسم التنين أو طيفون (التنين الأسطوري) الذي ضربته الصاعقة وحاول الهرب من النار المنتقمة فحفر مجرى متعرجا وهبط تحت الأرض وكان أن تسبب في انبثاق نبع ماء أصبح نهرا أطلق عليه اسم طيفون.. تسميات وأساطير ومنها أورانتس الجبار الهندي الذي تصدى لديونيس الغازي للهند. ولكن يبقى الاسم الذي لم يتغير منذ قرن (العاصي) إنه النهر الذي سحر الكثيرين ولكنه عصى وخالف كل مسارات الأنهر التي تتواجد جنوبا فجاء هو (مقلوبا) حيث يأخذ ذات الشمال، والعاصي الذي يأخذ اسمه العربي هكذا بينما ما زال الغربيون والفرنسيون بشكل خاص يطلقون عليه اسم (ORNTE) الذي ينبع من الأراضي اللبنانية (وحتى ولادته تبعث فيه الدهشة ـ يؤكد الباحثون ـ) حيث منابعه من منطقة بعلبك اللبنانية والهرمل ليدخل الأراضي السورية مخترقا فيها مدنا وقرى وأريافا وسهولا تحولت بفضله إلى غابات خضراء ومناطق سياحية بامتياز، وفي رحلته الأبدية من منبعه وحتى مصبه بطول 600 كلم حيث يصب النهر في آخر مشواره بسهل السويدية قرب بحيرة أنطاكية في تركيا ليصب في البحر الأبيض المتوسط.

متنزهات سياحية وبحيرات ونهر العاصي الذي يهب المدن السورية حصة كبيرة منه منذ دخوله الأراضي السورية من الأراضي اللبنانية وحتى خروجه منها عند منطقة جسر الشغور شمالا متجها نحو مصبه في البحر المتوسط، قامت ومنذ عشرات السنين على ضفافه الكثير من المتنزهات السياحية التي جذبت السياح من مختلف بلاد العالم ليستمتعوا بمنظره الرائع ومياهه الصافية في الكثير من الأماكن التي يعبرها حيث برع السوريون في استثمار ضفافه لجعلها أماكن غناء رائعة الجمال تقدم للسائح والزائر متعة الغوص في التاريخ من خلال عراقة النهر والأوابد القديمة القائمة بجانبه والتي يمكن للسائح التجول فيها والعيش لساعات في أحضان حضارات عمرها آلاف السنين، ومتعة أخرى وهي الجلوس بجانب ضفافه وترك النظر يأخذ مداه نحو الخضرة والجمال الطبيعي.

إنها رحلة طويلة، ساعات وساعات بل أيام جلنا بها تلك الأماكن الخلابة يرافقنا النهر الرائع عابرين بجانبه فلم ندرِ هل هو يرافقنا ونحن نعبر السهول الخضراء والمدن والقرى كأب حنون أم نحن والكثير من السياح والزوار الذين كنا نلتقيهم في رحلتنا مع النهر نرافقه بمشواره الأزلي، لا يهم ـ يقول مرافقي المصور والخبير بالمشهد الطبيعي ـ فالأهم هنا أننا نسير مع سحر النهر ولكن لا نتمرد عليه كما هو تمرد على الطبيعة فجاء عاصيا مقلوبا. بداية جولتنا في متنزهاته كانت من محافظة حمص التي تستقبل النهر قادما من لبنان من منطقة تل النبي مندو القائم على أنقاض مدينة قادش التاريخية، ورغم أنه لا يدخل المدينة من وسطها كما يفعل مع جارتها (حماة) إلا أنها تستقبله بأحسن ما يكون ولذلك أطلق الشعراء على حمص لقب جارة العاصي، فأسس الحماصنة ومنذ عشرات السنين المتنزهات الجميلة على ضفاف نهر العاصي، وخاصة متنزه الميماس الشهير والمتنزهات على بحيرة قطينة التي تستمد مياهها من نهر العاصي حيث تقع على مسافة نحو 12 كلم عن حمص إلى الجنوب الغربي منها، على ضفاف قطينة التي أنهكتها ولوثت مياهها المعامل التي قامت بجوارها ما زالت تستقطب السياح من مختلف البلدان حيث يبلغ طول شاطئها 30 كلم ومساحتها الكلية 61 كلم مربعا، هنا يمكن للسائح بعد أن يصل إليها من حمص بطريق معبدة بشكل جيد أن يجلس على ضفاف البحيرة مستمتعا بمنظر مياهها وحتى يمكنه صيد السمك بالصنارة لمن يحب هذه الهواية والاستمتاع أيضا بمداها الواسع وبمنظر الشمس وقت الغروب وهو بجانب البحيرة التي تشكل بحد ذاتها منطقة سياحية فريدة كما يقول المعنيون والمهتمون، فهي البحيرة الوحيدة في سورية التي تقع على اتجاه الرياح بحيث يمكن أن تساعد في استثمارها من الناحية السياحية لرياضة الشاطئ والألعاب المائية، ولأنها ما زالت تنتظر المستثمرين السياحيين لإقامة المزيد من المنتجعات السياحية على شاطئها فقد تم تكليف شركة خليجية متخصصة لإعداد دراسة متكاملة للاستثمار البحيرة سياحيا، ويمكن للسائح حاليا الجلوس ولساعات في الكثير من المنشآت القائمة بجانبها وتناول الطعام فيها. ويمكنه الانتقال بعده نحو المكان الأجمل في حمص وبجانب العاصي إنه «الميماس» المتنزه الكبير الذي يقع غرب حمص بنحو 4 كلم وقد تغنى به شعراء حمص القدماء والمعاصرون فعاش به ديك الجن الشاعر الشهير الذي قتل حبيبته ورد ليهيم بعدها على وجهه يكتب لها قصائد المرثيات لعشقه الدامي، كما أطلق الكثيرون على الميماس لقب لؤلؤة حمص وهو يستقطب بمتنزهاته السياح والزوار حيث يقدم لهم جلسات سيران شعبية مع وجود مدن الملاهي للتسلية وللعب الأطفال كما تقدم المتنزهات الشهيرة القائمة فيه الطعام والشراب والسهرات الفنية مع الاستمتاع بروعة المكان وبساطه الأخضر ومياه العاصي التي قامت هذه المقاصف السياحية بجانبها ومن أشهرها: ديك الجن وعبارة الميماس ومريسية والأهرام وأمير الندى وغيرها وجميعها مصنفة سياحيا بنجمتين، وفي الميماس يقام ربيع كل عام مهرجان سياحي تراثي جميل مع مهرجان للتسوق. ونهر العاصي في حمص الذي تعاني مياهه من التلوث نعلم ـ وكما علمنا من الجهات المعنية المحلية ـ أن هناك مشروعا قادما وبتكلفة نصف مليار ليرة سورية لتهذيب وتجميل النهر ضمن أراضي محافظة حمص سينطلق في عام 2011 ويتواصل على مدى 4 سنوات ليعود الألق له والجمال لمياهه في بعض المواقع المتلوثة منه.

المتنزهات في الغاب والروج وجسر الشغور نترك عاصي حمص ونتجه شمالا نحو مدينة حماة مرافقين النهر الذي يقطع الأراضي الخضراء والبساتين الغناء ويعبر بلدة الرستن التي تقع بمنتصف الطريق بين المدينتين حيث المسافة بينهما نحو ثلاثة أرباع الساعة، هنا في الرستن وحيث اشتهرت بسدها العملاق على العاصي أقيمت الكثير من المتنزهات والمنتجعات السياحية بجوار النهر والسد المرتفع بمنظر بديع حيث تقدم للزائر والسائح كل الخدمات مع السهرات الجميلة وهناك العديد من المطاعم والاستراحات التي تجاور النهر على طريق حمص - حماة والتي تقدم خدمات متنوعة للسائح ومنها: القصر والنورس وغيرهما، وفي مدينة حماة مدينة العاصي والنواعير حيث يخترق النهر المدينة في وسطها قامت الكثير من المنتجعات والمتنزهات السياحية الرائعة على ضفاف النهر وبجانب نواعيره الخالدة ومن هذه المتنزهات: الأربع نواعير على كورنيش العاصي شرق شمالي حماة بجانب نواعير البشريات والعثمانيات وهناك متنزه جسر المراكب وسط حماة في الساحة التي تأخذ من النهر اسمها أي العاصي وهو متنزه جميل يضم المقاهي والمطاعم ومتعة الجلوس على ضفاف النهر أمام نواعير المحمدية والمأمونية وبجانب أجمل حدائق حماة العامة وبجوار نواعير الجعبرية وغيرها يمكن للسائح الاستمتاع بمنظرها مع منظر النهر من خلال الجلوس في مطاعم وكافتيريا فندق أفاميا الشام الحائزة على 5 نجوم. ونترك حماة لنتجه مع النهر وهو في رحلته غربا نحو الطريق المؤدي إلى البحر الأبيض المتوسط وإلى مدينة اللاذقية فعلى مسافة نحو 20 كلم تظهر لنا مدينة رائعة لتعلن بداية سهل الغاب الجميل، هنا في مدينة محردة أقيمت على العاصي الكثير من المتنزهات الجميلة وتواجدت المطاعم التي تقدم خدماتها للسياح ومنها: النجمة ومقصف نادي محردة وغيرها، ونتجه غربا نحو القلعة الشهيرة (شيزر) التي تجاور القرية التي تأخذ نفس الاسم وتطل على النهر بمنظر بانورامي جميل كما تطل على الناعورة الوحيدة القائمة في القرية على النهر، حيث يمكن للسائح الصعود للقلعة في كل أيام الأسبوع باستثناء يوم الثلاثاء حيث العطلة الأسبوعية وليستمتع بمنظر العاصي وبالسهول الخضراء بجانبه، بعد شيزر نتجه غربا وننعطف يمينا لنأخذ الطريق المتجه نحو منطقة الغاب ملتزمين بخط النهر، هنا تبرز لنا أوابد مدينة أفاميا الشهيرة التي ترافق العاصي في رحلته الأبدية وهنا تتواجد قلعة المضيق (أكروبول أفاميا) والتي تطل على النهر أيضا بمنظر جميل رائع حيث يعبرها العاصي، في سهل الغاب يعبر النهر ليهب الأرض اخضرارا وحياة فعلى مدى البصر ونحن في السيارة نقطع الطريق متجهين إلى مركز الغاب مدينة السقيلبية التي تبعد عن حماة 50 كلم بطريق جيد نشاهد بساتين القمح الواسعة ومزارع الشوندر السكري وغيرها تجاور النهر كما نشاهد السدود التي أقيمت على النهر من سد محردة وحتى اللطامنة وغيرهما، في السقيلبية وقراها تتوضع الكثير من المنتجعات السياحية بجانب النهر وبجانب الأماكن الطبيعية التي وجدت مع النهر ومنها طاحونة الحلاوة وبحيرات وجداول مياه وسواق ومن المتنزهات التي تقدم الخدمات للسياح هناك: جوين والشريعة والقصر وغيرها.

نترك سهل الغاب وجماله الأخاذ لننطلق مع النهر وهو متجه نحو محافظة إدلب شمال غرب، وخاصة نحو سهل الروج ومنطقة جسر الشغور حيث يتواجد أقدم جسر بني على العاصي وما زال قائما يستقطب السياح بمتنزهاته الشعبية القائمة بجواره وفي بلدة دركوش التي تبعد غربا بنحو 25 كلم عن جسر الشغور ما زال ميناؤها قائما حيث كان سكانها القدماء يبنون السفن على نهر العاصي ويمكن للسائح أن يرى في دركوش أجمل المواقع التاريخية القائمة على النهر الذي يشطرها إلى نصفين منذ آلاف السنين ومنها الأعجوبة منحوتة الملاح أوتنيحس التي ظهرت فوق مدفن قديم بجوار النهر بارتفاع 20 مترا حيث يظهر على شكل رجل وقور مرتديا قبعة خاصة بزي سادة العمل وذقن طويلة ينظر إلى البلدة نظرة حب حيث منحته دركوش لقب سيد الملاحين وكتب على مدفنه الملاح المحفوظ، في دركوش يمكن للسائح أن يشاهد ما تبقى من الجسر الروماني القديم على النهر والذي تهدم إثر فيضان النهر قبل 50 عاما وينتظر حاليا سواعد المرممين. وفي جسر الشغور وسهل الروج ودركوش وغيرهما من القرى والبلدات التي يعبرها العاصي ويجاورها وجدت الكثير من المنشآت السياحية لخدمة السياح والزوار وتقديم الطعام والشراب وألعاب التسلية للأطفال ومنها: الشلال ـ نهر العاصي ـ عشتار ـ آخ تمار وغيرها. ونترك العاصي هنا، ليستمر في رحلته الأزلية متجها نحو مصبه النهائي في السويدية على البحر الأبيض المتوسط، حاملين في ذاكرتنا الكثير من الجمال والسحر عن هذا النهر الساحر كما حاملين معنا الأماني بأن يشهد النهر خاصة في محافظتي حمص وحماة حملة كبيرة لإزالة التشوهات البيئية والبصرية عنه كما سمعنا وعلمنا من المعنيين هناك، وليستمر النهر في تدفقه نظيفا رائعا على مدار العام.