الشوف اللبناني.. إمارة الجبل الطبيعية

يعكس صورة لبنان الأخضر

تعتبر محمية أرز الشوف من أكبر المحميات الطبيعية في لبنان
TT

تكاد منطقة الشوف في جبل لبنان الجنوبي تكون المنطقة الوحيدة التي تعكس صورة لبنان الأخضر الذي شوهته المباني الشاهقة والكسارات محولة إياه إلى تلال ترابية تفتقد إلى تلك الروح الطبيعية التي لطالما تغنى بها شعراء وكتاب من مختلف أنحاء العالم. فالرحلة في قرى الشوف اللبناني بمناظره الخلابة التي تشكل لوحة طبيعية تجمع بين أشجار الحور والسنديان والشربين والزيتون والخروب إضافة إلى أنواع مختلفة من الأشجار المثمرة وكروم العنب والتين، وأرضها التي تزخر بالينابيع والأنهار والمياه العذبة، تشبع العين بجمال الطبيعة العذراء على امتداد 495 كيلومترا مربعا، وهي التي لا تبعد أكثر من نصف ساعة أو أكثر قليلا ليصل إليها الزائر من العاصمة اللبنانية، ويشعر أنه انتقل إلى بلد آخر يختلف عن كل ما يشوب بيروت من تلوث هوائي وزحمة سير خانقة. هنا في هذه المنطقة التي تبدأ على ارتفاع أمتار قليلة عن سطح البحر، عند سهل الدامور، وتنتهي بنحو 2220 مترا عند قمم جبل الباروك، كل شيء لا يزال على «سجيته»، من الطبيعة التي تلقى اهتماما ملحوظا من المسؤولين السياسيين في المنطقة، إلى أهالي الشوف الذين لا يزالون متمسكين بتقاليدهم القروية والتقليدية من ألفها إلى يائها وعلى رأسها كرم الضيافة اللبنانية. لكن هذا الطابع التقليدي الذي يحرص أهل الشوف على التمسك به على اعتبار أنه جزء لا يتجزأ من هويتهم اللبنانية بشكل عام وهويتهم الشوفية بشكل خاص، لا يعني أن الأمر يشكل عائقا أمام تطور الحياة في هذه القرى، فالشوفيون أتقنوا لعبة الدمج بين التطور والتراث. إذ إن منطقتهم هذه تتحول من ناحية إلى مقصد للسياح الأوروبيين والعرب القادمين إلى لبنان لقضاء عطلتهم ولا سيما منها الصيفية التي تزخر بنشاطات لبنانية وعالمية تشكل حركة لا تهدأ، لكن تبقى روح التراث القروية من ناحية ثانية عابقة في حياة الشوفيين ويومياتهم، فيتمكن ضيفهم بدوره من أن يعيش تفاصيلها إن في المطاعم التي تحترف تقديم المأكولات اللبنانية أو من خلال المهرجانات القروية والنشاطات الثقافية والرياضية التي ينظمها أهل القرى أو حتى في عادات هؤلاء الاجتماعية المتمثلة بشكل خاص بطبيعة العلاقة التي تربط بعضهم ببعض في الأفراح والأحزان. وإذا كانت تجتمع قرى الشوف تحت راية جمالية واجتماعية وطبيعية واحدة تكاد لا تختلف كثيرا بين بلدة وأخرى، فإن لكل منطقة فيها خصوصيتها السياحية التي تميزها عن غيرها، إن لجهة الآثار التي تغري السائح أو لجهة المرافق السياحية أو النشاطات السنوية التي تنظم في هذه البلدات. وهذا ما يشكل جاذبا أساسيا للسياح الذين يقصد عدد كبير منهم الشوف للاستمتاع وقضاء أيامهم أو اللبنانيين منهم والعرب الذين تضيق بهم سماء الشوف في هذا الموسم حيث يتسابقون لاستئجار المنازل والتمتع بطقسها الذي يبقى معتدلا حتى في عز أيام الحر. لكن بالتأكيد فزائر هذه المنطقة سيكون بإمكانه الاستمتاع بمغريات الشوف الطبيعية على امتداد فصول السنة.

ويضم قضاء الشوف نحو 97 بلدة يمكن تقسيمها سياحيا إلى ثلاثة أقسام، الأول يضم المناطق الشوفية الساحلية وهي القريبة من الشاطئ الرملي وتتميز بمنتجعاتها السياحية التي تضاهي بفخامتها الفنادق ذات الخمس نجوم وتشكل مقصدا أساسيا للسياح واللبنانيين على حد سواء خلال فصل الصيف، وأهم هذه المناطق هي الجية والدامور.

أما القسم الثاني في قضاء الشوف فهو ذلك الذي يضم أهم المناطق الشوفية التي كان لعدد منها دور أساسي في الحياة السياسية والاجتماعية والدينية والسياحية والتنموية والاقتصادية، وأهمها بيت الدين ودير القمر والمختارة وبعقلين ومعاصر الشوف... وهي غنية بالمرافق الطبيعية المتميزة بجمالها كمحمية أرز الشوف وقلعة نيحا وشلالات الصفا ونبع الباروك وأنهار غريفة وبعقلين والجاهلية وملتقى النهرين.. وترتفع فوق سطح البحر بين نحو 700 و1500 متر.

كذلك، تحظى منطقة الشوف بمساحة غنية على الخريطة الأثرية والتاريخية اللبنانية مثل «قصر بيت الدين» و«قصر موسى» إضافة إلى بعض المغارات المنتشرة في بعض القرى. وفي السنوات الأخيرة، فقد دخل الشوف على خط السياحة البيئية من بابها العريض بعدما صار مقصدا للرحلات البيئية التي تنظمها جمعيات وهواة ولبنانيون وأجانب في طرقات بلدات الشوف محققة بذلك رقما قياسيا. ويحظى التراث العمراني في هذه المنطقة بحصة الأسد أيضا، فآثارها تعود إلى الحقب الرومانية والإسلامية والمعنية والعثمانية على اختلاف نماذجها العمرانية من السرايا والقصور والمدافن والجسور، إلى المطاحن ومعاصر الزيت والعنب التي تعود في معظمها إلى القرنين الثامن والتاسع عشر.

وتعتبر بلدة بيت الدين «عاصمة إمارة جبل لبنان» التاريخية والثقافية، فهي إضافة إلى طبيعتها الخلابة وقصورها وبيوتها التراثية تحتضن أهم آثار المنطقة، وأهمها «قصر بيت الدين» التاريخي الذي يتميز بجمال بنيانه وهندسته، ويعتبر من أروع وأجمل نماذج الفن العربي في القرن التاسع عشر، فهو يشكل مزيجا رائعا ومتناسقا من بناء الحجر اللبناني في الخارج ومن الفن الزخرفي الدمشقي في الداخل.

وقد اشتهر القصر بحدائقه الجميلة وبساحة فسيحة تدعى «الميدان» كانت تقام فيها حفلات الفروسية واستعراض الجيش.

أما اليوم فـ«قصر بيت الدين» هو المقر الصيفي لرئاسة الجمهورية، كما يقام فيه سنويا مهرجان ثقافي يعرف بـ«مهرجانات بيت الدين» الذي لا يقل أهمية عن المهرجانات العالمية بما تستضيف من فنانين وفرق عالمية. وعلى مسافة قريبة من «قصر بيت الدين»، يقع «قصر موسى» وهو متحف لبناني متميز من حيث محتوياته وقصة بنائه، تضم غرفه بين جدرانها مجسمات لشخصيات لبنانية وحكايات حياتهم من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بالإضافة إلى مجموعة من الأسلحة القديمة من العصر العثماني حتى الاستعمار الفرنسي، وتعد هذه المجموعة من أكبر المجموعات في الشرق الأوسط ويبلغ عددها 16 ألف قطعة. و«قصر موسى» هو نتاج عمل فردي لمواطن لبناني اسمه موسى شعبان بناه حجرا حجرا بيديه، تحقيقا لحلم طفولته فأصبح من أهم معالم المنطقة السياحية، وقد استمرت مسيرة بنائه نحو الثلاثين عاما.

ولمنطقة «دير القمر» موقعها السياحي في الشوف، فهي التي كانت مقر الإقامة الصيفي للأمراء المعنيين، ومركزا لهم أثناء حكمهم إمارة جبل لبنان، ويقال إن اسمها يعود إلى صورة قمر كانت منقوشة على أحد جدرانها. وصار لأبناء المنطقة موعدهم السنوي مع المهرجانات الفنية والثقافية التي عادة ما يكون مركزها في «ساحة الميدان»، أي في الساحة الرئيسية للبلدة. من دون أن ننسى انتشار المطاعم اللبنانية في تلك المنطقة الجبلية المزدانة بلوحة طبيعية خلابة.

كذلك، يضم متحف الشمع في «دير القمر» أكثر من سبعين شخصية نحتت بالشمع. ومن الشخصيات التي تقف فيه، الأمير فخر الدين المعني، والشاعر الفرنسي لامارتين، إضافة إلى سياسيين وفنانين لبنانيين.

ولأرز لبنان محميته تحت سماء الشوف، فهي تعتبر من أكبر المحميات الطبيعية اللبنانية وتمتد من ضهر البيدر شمالا إلى جبل نيحا جنوبا. وأكثر ما تشتهر به هذه المحمية هو غابات الأرز الثلاث الرائعة وهي، غابة أرز معاصر الشوف وغابة أرز الباروك وغابة أرز عين زحلتا - التي تبلغ مساحتها نحو ربع ما تبقى من غابات الأرز في لبنان، ويقدر عمر بعض الأشجار بنحو ألفي عام.

أما القسم الثالث من مناطق الشوف، فهو «إقليم الخروب» الذي يستمد اسمه من شجرة الخروب التي كانت تكسو سفوحه ومنحدراته، بعدما صار وجودها مقتصرا على قرى محددة في إقليم اكتسب اسمه منها، إضافة إلى بعض الأشجار المثمرة وكروم العنب والتين التي لا يزال حضورها ملحوظا، ويتراوح ارتفاع قراه عن سطح البحر بين نحو 500 و850 مترا.

لكن يبقى دبس الخروب الذي يشتهر به الإقليم ينافس بمذاقه الطبيعي أي دبس لبناني آخر ويشكل مؤونة أساسية في كل بيت في هذه المنطقة بالتحديد. وزائر الإقليم سيتعرف بنفسه على هذه الحلوى التقليدية مجرد أن تطأ قدماه قراه التي تعبق أجواؤها برائحته الزكية المنبعثة من معامل الدبس التي ورثها الأبناء عن الأجداد، ليتسنى له في ما بعد تذوقها طازجة وطبيعية مائة في المائة.

لكن وفي حين لا يزال هذا الإقليم محتفظا بطبيعته القروية باستثناء قرى معدودة استطاعت أن تخرج عن هذه الدائرة لتتحول إلى مدن صغيرة وأهمها «شحيم» كبرى بلدات الإقليم، تبقى الطبيعة هي العامل السياحي الأساسي في هذه المناطق الشوفية التي يقصدها أهالي المدن اللبنانية لقضاء عطلاتهم والاستمتاع بطقسها الجميل إضافة إلى المهرجانات القروية المحلية التي يحرص الأهالي على تنظيمها سنويا وهي تتنوع بين الرياضية والفنية والثقافية.