القيروان.. تراث حي يزخر بالمعالم التاريخية

فيها أقدم مساجد العالم

جانب من أسوار القيروان («الشرق الأوسط»)
TT

أدت القيروان دورا مهمّا في ترسيخ عقيدة التوحيد ببلاد المغرب والأندلس وما وراء الصحراء، وبالتالي نشر الحضارة العربية الإسلامية وإقامة صروح علمية وعمرانية، عندما كان المسلمون هم القوة العظمى في العالم. وليس من الصدفة أن تكون القيروان مسجلة على قائمة التراث العالمي، أي المدينة العتيقة وأرباضها على قائمة التراث العالمي، وهي شهادة تؤكد البعد الحضاري للمدينة ومدى إسهامها في نحت العمارة الإسلامية بالمغرب. والقيروان عبارة عن متحف إسلامي حي يزخر بالكثير من المعالم التاريخية والثقافية البارزة مثل جامع عقبة بن نافع الذي يعد أحد ثوابت الحضارة العربية الإسلامية، فهو يعطينا فكرة عن نضج الحضارة الإسلامية عبر التاريخ، وهو يختزل مدرسة القيروان المعمارية التي شعت على كامل الحوض الغربي للمتوسط.

وجامع عقبة بن نافع من الجوامع القليلة التي حافظت على عناصرها المعمارية الفريدة وبيت الصلاة في جامع عقبة بن نافع من أقدم بيوت الصلاة التي حافظت على طابعها الأصلي، إذ إن هناك بيوت صلاة أقدم من بيت صلاة جامع عقبة بن نافع لكنها تغيرت عبر التاريخ. وقال رئيس جمعية صيانة مدينة القيروان ومدير المخبر الوطني لترميم المخطوطات الدكتور مراد الرماح، لـ«الشرق الأوسط»: «حافظ الجامع على تخطيطه وعلى مواده وعلى محرابه وعلى منبره، وهو أقدم منبر وصل إلينا في الإسلام منذ أواسط القرن الثالث الهجري، لأنه كانت هناك منابر ولكنها ضاعت». وتابع: «محراب جامع عقبة بن نافع من أقدم المحاريب على عين المكان. ويعود إلى أوائل القرن الثالث الهجري، والمربعات التي تحيط بمنبر جامع عقبة هي من أقدم المربعات في العالم الإسلامي، والمرجع الأساسي للتعرف على الموروث المعماري في المغرب الإسلامي هو جامع عقبة بن نافع». ويمكن القول إن القيروان هي التي أسست للمدرسة الإسلامية المعمارية المغاربية، وهذه المدرسة تواصلت عبر التاريخ، سواء من خلال الجوامع والمساجد أو الأسوار الشامخة والمواجن الضخمة كفسقية القيروان. «حتى لما تقلص معمار القيروان بعد الزحف الهلالي فإن القيروان استطاعت أن تؤسس لعمارة ذات بعد روحي تمثلت في عمارة الزوايا، التي كان لها دور أساسي في الإبقاء على قدسية المدينة وتواصل النمط المعماري القيرواني، الذي بدأ منذ القرن الثاني للهجرة وتواصل إلى يومنا هذا». ومن أهم عناصر العمارة الإسلامية في القيروان، العقد المتجاوز والقبة ذات القاعدة المربعة والسقوف الخشبية، «كل هذا موجود في مدرسة القيروان المعمارية وتواصل، ثم تأثرنا في ما بعد بالطابع الأندلسي ثم العثماني».

ويؤكد الرماح على أن «المئذنة ذات القاعدة المربعة التي أصبحت سائدة في منطقة المغرب الإسلامي انطلقت من مئذنة القيروان. إذن هذه المدينة لها دين في عنق المسلمين وفضل الحفاظ على مفاخر الحضارة الإسلامية. زد على ذلك أن المدينة حافظت على نسيجها المعماري الإسلامي المتميز بدورها وأزقتها بواجهاتها ببطاحها، كلها تعبر عن النمط المعماري الإسلامي، وطريقة البناء الحالية هي التي كانت معتمدة في السابق، وهذا ما يبرر تصنيف القيروان ضمن التراث العالمي الإنساني». لقد حققت القيروان 5 مقاييس من أصل 6 لاعتبارها مدينة ذات تراث عالمي إنساني. وقل وندر أن تستجيب مدينة لخمسة شروط من أصل ستة، بينما مدن أخرى استجابت لمقياس واحد وسجلت ضمن التراث الإنساني العالمي.

الحفاظ على القيروان حفاظ على كنوز الحضارة الإسلامية في جانبها المعماري والروحي، فقد استطاعت الحفاظ على أسوارها، وعلى بركها وعلى مزاراتها.

وحول ذلك يقول الرماح: «القيروان كانت محاطة بأسوار ممتدة الأطراف في العهد الصنهاجيين، القرن الخامس الهجري، القرن الحادي عشر الميلادي». لكن ذلك كما يشير «تقلص بعد الزحف الهلالي، ولم تعد القيروان عاصمة الإسلام ولم تعد تمثل العاصمة الاقتصادية ولم تعد تمثل الثقل الذي كانت تمثله في المنطقة، وتم تخطيطها بشكل مغاير». وأردف: «بعد الزحفة الهلالية أخليت القيروان ولم يعد لها ذلك الرصيد الضخم، فقد هجرها علماؤها وهجرها تجارها، ومن بين من هجرها ابن رشيق، وابن شرف». ويعد الزحف الهلالي القادم من مصر أكبر ضربة تعرضت لها القيروان في تاريخها الوسيط، فقد قلب الزحف القيروان رأسا على عقب وكادت القيروان أن تخرج من التاريخ. وبعد أن كانت تسهم وتصقل تاريخ المتوسط، إذ بها مدينة متواضعة وأعيد تعميرها بطريقة بطيئة وضعيفة وبغير النسق الذي كانت عليه، وليس أدل على ذلك من كونها بنيت على مساحة 750 هكتارا ثم تقلصت إلى 50 هكتارا فقط. ثم أضيفت لها الأرباض بداية من القرن الثالث عشر، فأصبحت المدينة بأرباضها نحو 100 هكتار. وهذه المساحة بأرباضها هي المسجلة على قائمة التراث العالمي.

وحول البناء الفوضوي الذي أضر ببعض مداخل القيروان، قال الرماح: «الحفاظ على المدن العتيقة عملية صعبة جدا، ومع ذلك نؤكد لكم بأن القيروان من النماذج القليلة التي حافظت على نسيجها العمراني التقليدي نظرا لثقلها التراثي، وقد تيسر ترميم بعض معالمها إلا أن الحفاظ على النسيج العمراني عملية ليست سهلة، إذ تقتضي مساهمة الدولة ووعي الدولة بهذه العملية ثم وعي المواطن بالمحافظة على أصالة المدينة، وهذان العنصران كانا مفقودين، إذ إن الدولة لم تصرف مجهودا للحفاظ على النسيج العمراني، والمواطن لم يستوف الوعي بوجوب الحفاظ على النسيج العمراني التقليدي في بناء منزله فلا يشوه واجهاته ولا يشوه داخله لنبقي على القيروان تراثا عالميا». وهذه العشوائية وعدم التخطيط وعدم الحفاظ على سمت المدينة الأصلي هو ما يخشى على القيروان منه. وقد تكثفت هذه الإساءات بعد الثورة من قبل البعض ممن وجد فرصة لتهديم بعض المعالم أو جزء منها أو القيام ببعض التعديلات داخل المدينة العتيقة دون الحصول على ترخيص لذلك. و«نحن نحاول أن نرفع من وعي المواطن وأن نبين له أن القانون صارم في هذا المجال، وأنه لا بد من أن تتضافر الجهود حتى نوقف هذه الفوضى حتى لا تهدد أكثر أصالة المدينة العتيقة». وبخصوص قيام البعض بالبناء في المواقع الأثرية دون ترخيص إبان الثورة قال: «بالنسبة إلى صبرة المنصورية هناك الكثير من التجاوزات على موقعها الأثري، البعض استغل الظروف السياسية والأمنية السائدة لإقامة مقسمات ودور في موقع مشار إليه على أنه منطقة خضراء ذات صبغة أثرية يمنع فيها البناء منعا باتا». وقد قامت وزارة الثقافة بإصدار قرار تحفظي لحماية هذه المنطقة للحيلولة دون استفحال هذه الظاهرة، و«نحن الآن بصدد معالجة الموضوع مع المتجاوزين».

ويوجد بالقيروان أكثر من 100 معلم أثري لا تزال في أماكنها وبأسماء رجالاتها ولها دور في التعرف على طريقة تخطيط مدينة القيروان. «القيروان فيها أكثر من 50 زاوية تعبر طرق بنائها عن نضج المدرسة المعمارية القيروانية ومنها الزاوية العوانية والزاوية الويحشية وغيرها». ومن المدارس مدرسة أبي زمعة البلوي والمدرسة الحسينية التي تم تحويلها لمرافق إدارية، وغيرها من المدارس الدينية القديمة.

وبخصوص تحويل المعالم الدينية إلى مرافق إدارية وغيرها فأن تلك المعالم لم تعد تقوم بوظيفتها، «بعض الزوايا لا بد من توظيفها اجتماعيا لتسمح بخلق ديناميكية ثقافية، فبعض التيارات الصوفية لم يعد لها تأثير في المجتمع بنفس القدر السابق، لذلك تم إعادة توظيفها سياحيا».

وأوضح الرماح بأن «القيروان رصيد سياحي وثقافي وتراثي كبير، ومع ذلك هناك الكثير من العوائق التي تمنع تنمية السياحة الثقافية في القيروان نظرا لأن المدينة منطقة عبور فقط، فالسائح يأتي لمدة نصف يوم في القيروان فيؤخذ إلى معلم أو اثنين في حين يوجد في القيروان 15 معلما». ومن ذلك متحف الحضارة والفنون الإسلامية برقادة يزروه 0.5 في المائة من السياح فقط، ومتحف عمر عبادة للصناعات التقليدية، وسيدي عبيد الذي يعد من أجمل المعالم بمدينة القيروان لا يزوره أكثر من 10 في المائة من السياح، ويقتصر الأدلاّء السياحيون على عدد قليل من المعالم فيؤخذون لجامع عقبة بن نافع وفسقية الأغالبة ومقام أبي زمعة البلوي وتنتهي الرحلة في ساعتين، بينما اختراق المدينة العتيقة والتعرف على معالمها يحتاج إلى وقت أطول وأكثر من هذا». ومن المساجد الجديرة بالزيارة مسجد بن خيرون، وهو من أقدم المساجد في العالم الإسلامي، وبئر روطة، وسيدي عبيد الغرياني، وبن خود، والمدرسة العوانية، إلى غير ذلك من المعالم التي هي بحاجة إلى الزيارة.