مايوركا.. مسقط رأس الفنان ميرو وملهمته

مدينة التاريخ وروعة البحر والفن

تشتهر مايوركا بروعة شواطئها
TT

يعترض تمثال برونزي من تصميم الفنان «ميرو» رصيف المشاة أسفل كاتدرائية بالما دي مايوركا العملاقة. وهو يمتد لارتفاع قدمين، متخذا شكل مستطيل مقعر مجوف تعلوه كتلة معدنية تتخذ شكل بيضة مائلة جهة البحر المتوسط. ويوما بعد يوم، يتدافع إليه السياح مسرعين، قادمين من الشارع الجانبي شديد الانحدار الذي ينتهي إلى جادة باسيج دي بورن، ذلك الشارع الرئيسي الذي يعج بمحلات الملابس والدراجات النارية.

وليس ثمة أي صخب يعلن عن وجود هذا التمثال البارز. وسيكون من السهل ببساطة المرور أمام «فام»، مثلما يعرف التمثال البرونزي، من دون التوقف لتأمل هذا العمل الفني الذي نفذه أحد أشهر فناني إسبانيا، والذي يعد بحق أحد أكثر الفنانين شهرة في العالم.

لكن إذا أمضيت بعضا من الوقت في مايوركا، فستجد أن الموضع غير المقصود للتمثال يفرض نفسه كجزء من قصة أكبر بكثير - عن فنان احتمى بهذه الجزيرة وكانت بمثابة مصدر إلهامه الفني، والذي في الوقت نفسه وعلى نحو يثير العجب، لم يحظ بالتقدير إلا بعد وفاته، هنا تماما كأي مكان آخر.

وصلت إلى بالما في نهاية مايو (أيار) مع ابنتي أورلي وزوجي أيان، ترقبا لمشاهدة المعرض الاسترجاعي لأعمال الفنان ميرو البارزة بمتحف «تيت مودرن» في لندن، التي ستعرض في سبتمبر (أيلول)، قبل نقلها إلى برشلونة، وبعدها، في مايو المقبل، إلى المعرض الوطني للفنون «ناشيونال غاليري» في واشنطن. أملت في أن أفهم قصة جزيرة مايوركا التي تحدر منها الفنان خوان ميرو، أن أبصر وأستشعر المنظر الطبيعي الخلاب للجزيرة بنفسي، الممثل في الأشجار القصيرة والجبال والبحر الذي يحيط بها، أن أشاهد الصورة التي ينعكس بها ضوء الصباح الباكر على هذا الحي ذي الطراز المعماري القوطي وأن ألقي نظرة على أسطح المباني التي تعود إلى عدة قرون مضت.

ولد خوان ميرو في برشلونة عام 1893، وعلى الرغم من أن أعماله الفنية قد جذبت قطاعا كبيرا من الجمهور من مختلف أنحاء العالم حينما استقر في بالما في منتصف الخمسينات من القرن العشرين، يبدو أن قليلين فقط هنا هم من سمعوا عنه. وقد تقبل فكرة عدم الكشف عن شخصيته، واتجه إلى إقامة استوديوهات خارج المدينة التي أنتج فيها بعضا من أهم أعماله الفنية، وأبرزها ثلاث لوحات فنية تشكل وحدة مستقلة وهي «بلو 1 و2 و3» (1961)، التي كانت، في رأي الناقدة الفنية الألمانية باربرا كاتوير، تجسيدا للون السماء في مايوركا والبحر المحيط بالجزيرة.

وعلى غرار المشهد الكاتالاني الذي عايشه في طفولته، حوائط الجص البيضاء بأكواخ الصيادين والمزهريات الأشبه بالقوارير التي عادة ما توجد في أفنية منازل مايوركا والصور الزيتية التي تنتمي إلى الفن الشعبي في البازارات السياحية والتي تجلت جميعها في أعمال ميرو الفنية. وبالمثل أيضا، ظهر تأثير آثار المور التي تتخذ شكل هلال والإيقاع المميز لسوق سانتا كاتالينا، الذي يعج بتجار وصيادي السمك، الذين يشربون القهوة في أكواب زجاجية صغيرة.

«لا أبتكر أي شيء، كل شيء موجود هنا، لهذا، يجب أن أعيش هنا»، هكذا تحدث ميرو إلى والتر إربين، كاتب ألماني زاره في الاستوديو الخاص به خارج بالما في عام 1956.

فكرت في هذه الكلمات في أول ظهيرة أقضيها في المدينة، بمجرد أن أنزلت حقائبي في الشقة الصغيرة التي استأجرتها في حي سانتا كاتالينا. سرت مرورا ببلاسا دي لا فيكسينا، حديقة أدخلت فيها إصلاحات مؤخرا على مسلة أقيمت في العصر الفاشي في عام 1948 لإعطائها واجهة (ديمقراطية)؛ فقد حفرت عليها الآن رسالة تكريم لمن كانوا سقطوا ضحايا للحروب والديكتاتورية. كنت أرغب في البقاء بهذه الجزيرة، ولكني كنت في طريقي إلى «إس بالوارد»، متحف الفن الحديث الذي افتتح في عام 2004. وقد تم تحويل المساحة التي كانت في ما مضى حصنا مقاما داخل حدود المدينة القديمة، بشكل رائع، إلى متحف ذي حوائط إسمنتية ملساء وأسقف مرتفعة. وبالداخل، تضم صالة ميرو الفنية مجموعة صغيرة من الأعمال من ابتكار الفنان. وعلى الحوائط، توجد لوحات من أعماله «سيري مايوركا، 1973»، مجموعة من الكليشيهات باللونين الأسود والأبيض تضيئها رتوش بالألوان الأزرق والبرتقالي والأحمر والأخضر. وخارج المتحف، توجد شرفة كبيرة مطلة على المدينة والمطار، بعيدا عن ضجيج الحي القديم، يبرز خليج بالما في مشهد أخاذ. كانت مجموعة من السكان المحليين يقفون هنا لدى وصولي، متجاهلين بشكل فج هذا المشهد الفني الرائع ومنشغلين بأكل الزيتون وشرب الجعة تحت شمس الظهيرة التي تدفئ المباني المحيطة بنا المبنية من الطين الناضج الأسمر الضارب إلى الحمرة، مضفية منظرا مبهجا على المدينة مع الضوء المنعكس من البحر المتوسط الذي كان ميرو مفتونا به. ومن على بعد، يتجلى منظر مئات القوارب في المياه.

وفي مكتبة المتحف، توجد امرأة شابة تدعى نوريا قدمت لي ستة كتب عن ميرو. وقالت إن والدته نشأت في مدينة سولير الجبلية بجزيرة مايوركا التي تحيط بها الجبال. وفي كل صيف، اعتاد ميرو في صباه على التنقل بين بالما وسولير، اللتين تفصلهما 90 دقيقة بالسيارة، حيث كان يقضي بعض الوقت مع جدته. والقطار المؤدي إلى سولير لم يتغير شكله كثيرا عما كان عليه في ذلك الوقت. يسير القطار، المصنوع من الخشب الذي يرجع تاريخ إنشائه إلى عام 1912، على خط سكة حديدية ضيق جدا، متمايلا ومصدرا أصوات طقطقة بينما يشق طريقه من ضواحي بالما الخارجية إلى منحدر الجبال المحاط بالغابات عبر الأنفاق الرفيعة، نفقا تلو الآخر. وفي محطة قطار سولير، تعرض مجموعة من أعمال ميرو، جنبا إلى جنب مع أعماله صديقه، الفنان ذائع الصيت بيكاسو. ولكن كانت بالما، وليس سولير، هي المنطقة التي أمضى فيها ميرو معظم فترات حياته، لذلك فخلال الفترة المحدودة التي قضيتها بالجزيرة، كان تركيزي منصبا على بالما. وفي تلك السنوات المبكرة، رسم ميرو الكثير من اللوحات لمعالم بارزة في بالما؛ الكاتدرائية، قلعة بلفير الواقعة على أطراف المدينة التي تعود إلى 700 عام مضت، وبورصة سا لويتخا، التي تعود إلى القرن الخامس عشر. وبمرور الزمن، ربما يثبت كون المناظر الطبيعية في بالما والبيئة المحيطة بها من بين أبرز مصادر إلهام ميرو.

ومن المفارقات الغريبة أنه حتى وقت قريب، لم يكن هناك إجماع على هذا الرأي على الإطلاق. وفي عام 1992، بعد مرور ما يقرب من عشر سنوات على وفاته، اكتشف الصحافيون الإسبان أن ميرو كان يرغب في إنشاء نوافذ من الزجاج المعشق لكاتدرائية بالما، لكن هذا الاقتراح قوبل بالرفض. وأكد حفيده، خوان بونيت ميرو، هذه القصة، مضيفا أن ميرو قد عرض ذات مرة أن يهدي عدة تماثيل لمنطقة بالما للترحيب بالزائرين؛ غير أن ذلك العرض قوبل بالرفض أيضا، الأمر الذي يفسر الإحساس باليأس الذي يلمسه من يشاهد الأعمال الفنية القليلة لميرو التي تعترض المار بشكل مفاجئ وغير متوقع في الأماكن العامة بالمدينة.

يروي بونيت (43 عاما): «انتقل جدي إلى مايوركا في عام 1956 حينما كان عمره 63 عاما؛ وقد توفي هنا في عام 1983 عن عمر يناهز التسعين عاما». كنا في مكاتب ورثة ميرو، الغرف التي يسيطر من خلالها أحفاد ميرو الثلاثة الذين ما زالوا على قيد الحياة على معظم ممتلكاته، في شارع «أفينيدا جاومي 3»، الشريان التجاري النابض بالحياة. ويمتلأ المكتب بصور تذكارية، من بينها صور لميرو مع بيكاسو، وبورتريه لميرو من تصوير مان راي. وتمتلئ مجلدات ضخمة بصور أبيض وأسود تعود لكل فترة من فترات حياة ميرو، كما أن هناك صورا لأكبر أحفاده وهو ديفيد فرنانديز ميرو، الذي تحمل اسمه إحدى الجداريات الخزفية في بارك دي مار في المدينة، والذي توفي في سن الخامسة والثلاثين في 1992 بعد سنوات من إدمان المخدرات والكحوليات.

«كانت مايوركا بمثابة ملاذ له، من الناحيتين الروحانية والإبداعية»، هكذا حدثني بونيت عن جده.

كذلك كانت مايوركا أيضا لفترة من الفترات ملاذا يحتمي فيه من الحرب. وأشار بونيت إلى أنه في عام 1936، مع اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية، غادر ميرو، الذي كان ناقدا صريحا للنظام الفاشي، برشلونة بصحبة زوجته بيلار وابنته ماريا دولوريس، متجهين إلى باريس. وظلت الأسرة في فرنسا حتى عام 1940، حينما أجبر الاحتلال النازي لباريس الأسرة على أن تعود أدراجها إلى إسبانيا، وعلى الاختباء من القوى الفاشية بقيادة فرانكو المتمركزة بالأجزاء الرئيسية من مايوركا، مسقط رأس الأسرة وحيث أقيمت مراسم زفاف الزوجين في كنيسة سان نيكولاس بالحي القوطي في عام 1929. وهناك، أقاموا في شقة صغيرة بشارع يسمى كارير دي ليس مينيونيس في قلب مدينة بالما ذات الطراز القوطي على مقربة شديدة من الكاتدرائية.

وأرى أن شارع كارير دي ليس مينيونيس غير مميز، باستثناء مجموعة من النوافذ المنتمية لمدرسة الفن الحديث على إحدى النواصي. إلا أنه في أربعينات القرن العشرين، كان هذا المكان بالنسبة لميرو بمثابة وسيلة للاختباء. وقال حفيده، مشيرا إلى كاتب مسرحي قتل على يد فرقة إعدام بالرصاص في غرانادا في الأيام الأولى من الحرب الأهلية الإسبانية: «لقد تذكر ما حدث لفردريكو غارسيا لوركا الذي أصيب بطلق ناري».

وفي شارع كارير دي ليس مينيونيس، كان ميرو معروفا فقط بوصفه «زوج بيلار». فقد كانت خطاباته مهداة إلى زوجته، وبعدها كانت تقوم هي بكتابة خطابات له بخط يدها. وقد عكف على إنتاج مجموعة «الكوكبات»، إحدى أشهر سلاسل أعماله، وكان لا يتوقف عن العمل فيها إلا لفترات قصيرة فقط. «كنت أجد ملاذي في الكاتدرائية»، هكذا كتب في خطاب إلى صديق له يحدثه فيه عن كيف كان بإمكانه أن يجلس في الصباح الباكر ويستمع إلى عزف الأرغن. يسترجع قائلا «من كنت حينها؟ لا أحد في الأغلب، مجرد رجل فقير أصابه مس من الجنون، شخص أراد رسم أشياء بصورة لم يفهمها أحد هنا. لم يفهمها أي أحد بالفعل».

وحتى في عام 1956، حينما استقر ميرو في مايوركا، في منطقة كالا مايور، على الأطراف الغربية من بالما، نادرا ما دخل المدينة، مثلما أخبرني كثيرون، لأغراض أخرى خلاف سماع الأرغن في الكاتدرائية أو تناول حلوى إنسايمادا المعروفة في مايوركا في سان خوان دي سايغو، أقدم محلات الآيس كريم في بالما، في قلب وسط المدينة القديمة الشبيهة بالمتاهة.

لكن لم يكن الأمر مماثلا بالنسبة لزوجته. ففي عام 1995، كان نشر نعي ميرو في الصحيفة الإسبانية الوطنية الشهيرة «إلباييس» بمثابة نافذة لبيلار ميرو على العالم. كانت هي من استقبلت زائريه، التي باعت، في أعقاب وفاته، 40 قطعة فنية لجمع أموال من أجل بناء متحف مخصص لزوجها في موقع الاستوديوهات التي كان الزوجان قد أهدياها بالفعل إلى المدينة. وعلى عكس زوجها، تفاعلت بيلار مع بالما، من خلال الذهاب يوميا إلى سوق سانتا كاتالينا لتبضع حاجياتها وتبادل الحديث مع الجيران.

وتبقى سانتا كاتالينا أكثر الأحياء أصالة في بالما. غير أنه لا يزورها عدد كبير من السياح كالمدينة المركزية ذات الطراز القوطي؛ الفنانون يعيشون هنا، وهناك عدد محدود من المتاجر وبعض المطاعم الجديدة ذات المستوى الممتاز التي تقدم وجبات طازجة، والتي قد بدأت في جذب المارة إلى المنطقة في فترة الليل. ولا تزال السوق تعج بالنشاط والحركة، بصورة تنبض بالحياة، كل صباح. وتبيع محلات الحلويات حلوى الإنسيمادا مقابل يورو واحد؛ في حين تبيع متاجر أخرى التوابل والجبن واللحوم والدواجن وبالطبع الأسماك. وتقع حانة خوان فراو، التي كانت مفتوحة للزبائن منذ الأيام التي بدأت فيها السيدة ميرو بالتسوق هنا، بالقرب من الجزء الخلفي من السوق، وهو المكان الذي أخبرني حفيد ميرو بأن جده كان مولعا به: فهي حانة صغيرة ذات مظهر متواضع وتقدم أطعمة جاهزة بسيطة. وعادة ما يكون هناك صف انتظار طويل للحصول على واحدة من الطاولات القليلة الموجودة داخل الحانة، كما يقف دائما مجموعة من الرجال والنساء عند طاولة التقديم الفضية اللامعة. وتشتهر الحانة بتقديم الإمبانادا المحشوة باللحم أو فواكه البحر، والحبار المقلي والباذنجان المحشو والبايلا الإسبانية. يمكننا تخيل بيلار تنهي تسوقها اليومي وتدخل الحانة لأخذ وجبة سريعة قبل أن تستقل سيارة أجرى للعودة إلى كالا مايور.

كانت رحلة سريعة نسبيا بالتاكسي. فقد كانت الاستوديوهات في كالا مايور حيث أمضى ميرو سنواته الذهبية، تفصلها 15 إلى 20 دقيقة بالسيارة عن هذا المكان، في موقع منعزل في ما كان يمثل حينها منحدرا مخضرا مطلا على البحر.

«أحلم بأتيليه كبير»، هكذا جاءت جملة ميرو الشهيرة في المجلة الفرنسية «إكس إكس إي سييكل» في عام 1938. وبمساعدة صديقه المعماري الكاتالاني، الذي تولى لعدة سنوات منصب عميد كلية التصميمات بجامعة هارفارد، وهو جوسيب يويس سيرت، وقد تحقق هذا الحلم على أرض الواقع في عام 1956.

لقد أوجد سيرت لميرو مساحة مضاءة مزودة بنظام تبريد وإضاءة مميز، تدفعه بالكامل مصاريع المبنى التي تعمل كخياشيم سمكة، مما يسمح بدخول الهواء للغرفة عبر الجدران والسقف. والآن بات بإمكان ميرو التحول إلى أكثر أعماله طموحا، اللوحات الزيتية الكبيرة والألواح الثلاثية والتماثيل والطباعات الحجرية والكليشيهات.

وبعد ثلاث سنوات من انتقاله إلى العمل باستوديو سيرت في عقار يعرف باسم سون أربينيس، الذي كان به منزله، اشترى ميرو سون بوتر، وهو منزل مايوركي قديم على منحدر التل. واستخدم هذا المنزل أيضا كمساحة عمل.

ويعتبر هذان الاستوديوهان، اللذان افتتحا للجمهور منذ عام 1992، الآن بمثابة جزء من مؤسسة بيلار وخوان ميرو في مايوركا، التي تضم أيضا متحفا مكعب الشكل على الطراز الحديث من تصميم رافاييل مونيو، الذي عرف مؤخرا من خلال متحف برادو في مدريد. وفي مكان مفتوح بين المتحف والاستوديوهات، أقام مونيو حمام سباحة، في موضع دراماتيكي مواجه للسماء، كوسيلة لإبراز عنصر الماء، إذ إنه لم يعد من الممكن رؤية منظر البحر بوضوح منذ الخمسينات من القرن الماضي، نظرا لزيادة عدد المباني بالقرب من المجمع السكني. وقرر ميرو وزوجته بالفعل إنشاء المؤسسة هنا كنوع من الاحتجاج على هذا الزحف العمراني الجارف. «لا أريدهم أن يبنوا يوما ما إحدى ناطحات السحاب الرهيبة التي أراها في كل مكان من حولي»، هكذا تحدث ميرو متبرعا بمراسمه إلى مجلس مدينة بالما.

وتوجد بالمتحف عشرات من الأعمال المهمة: لوحات كنفاه ضخمة رائعة تشرق بالألوان الزاهية أو معتمة باللون الأسود الثقيل، وجميعها معلقة في كهف من الحجر الرملي. على الجانب الآخر، ترك استوديو سيرت، تقريبا على الحال الذي كان عليه أيام ميرو، عشرات اللوحات المعلقة على الحوائط أو المسندة إلى حوامل أو المبعثرة على الأرض.

وقد أخبرني حفيده بونيت أثناء زيارتي إلى مكتبه: «كنت في العاشرة من عمري في أول مرة دعاني فيها إلى الاستوديو». وأضاف: «تلك الذكريات تلتصق بالفعل بعقلك الباطن. فهي ذكريات قوية جدا: متمثلة في رائحة الغازولين والنفط»، هكذا قال، متعمقا في وصف «لوحات الكنفاه المنتشرة في كل مكان، واللوحات الزيتية الضخمة على الحائط الخلفي، مع وجود طباشير وإبر ومسامير ودبابيس في كل مكان، باختصار، حالة هائلة من الفوضى».

وقفت، مثل بونيت الشاب، محاطا بأشياء قديمة جمعها ميرو: حطام سفن وقصاصات من مجلات وقطع خشبية ومصنوعات يدوية وصور معلقة على الحوائط.

«الآن، لا توجد سوى لوحة واحدة مكتملة في المكان، لون زيتي على ورق صنفرة مثبت بمسامير» هكذا قال جاومي ريوس، مدير الاتصالات بمؤسسة بيلار وخوان ميرو، الذي اصطحبني إلى الاستوديو، محاولا أن يشرح لي الأمور وقتما أبدو في حالة من الشك. قال، مشيرا إلى اسكتش أسود على لوحة كنفاه أخرى: «هذا طائر يحلق، وهذه الدائرة أو النقطة تشير إلى (عين حيوان)».

وخارج سون أبرينيس، ينحدر التل إلى أعلى، ويؤدي ممشى حجري ذو منظر طبيعي خلاب إلى سون بوتر، قصر يعود إلى القرن السابع عشر الذي كان من قبل فندق عائلات تديره زوجة البارون فون مونتشهوسين. وعندما استحوذ ميرو على المبنى في عام 1959، بدأ الرسم على الجدران بعبقرية فنان ماهر.

وفي الصباح الذي قمت فيه بزيارتي، هبت عاصفة هوجاء، قادمة من الجبال. فتحت الباب الأمامي، فوجدت جسرا من المياه قد تكوّن بيني وبين الأرض، مانعا أي شخص من الدخول ومانعا إياي من المغادرة. وفهمت حينها العزلة التي وجدها ميرو هناك. زالت العاصفة، ولشعوري بالجوع ورغبتي في تناول الغداء، تذكرت أن بونيت أخبرني بأن جده عادة ما كان يسير إلى مدينة جينوفا المجاورة من أجل «تناول وجبة الغداء في مكان بسيط خاص بالمزارعين». وقررت أن أفعل الشيء نفسه.

تعد جينوفا مدينة جبلية هادئة، لا تختلف كثيرا عما كانت عليه أيام ميرو. ويوجد تمثال «سيدة السلام (ليدي أوف بيس) على أحد التلال، وتوجد كنيسة حجرية في قلب المدينة، ويظهر البحر من على بعد».

وتعرف المدينة بمطاعمها التي تقدم طبق «با أمب أولي»، وهو طبق يشتهر به ريف مايوركا مؤلف من الخبز المحمص المغطى بزيت الزيتون وعصير الطماطم، الذي يعلوه الجبن أو شرائح رفيعة من اللحم. ويتم تناول هذا الطبق، عادة، كوجبة عشاء خفيفة. كان ذلك المطعم هو مطعم «سا إكسيمبومبا»، المطعم الذي رشحه لي حفيد ميرو، والذي وجدته مغلقا حينما وصلت لتناول الغداء. وانتقلنا إلى مطعم «كازا غونزالو»، حيث كان النادل يتنقل بين الطاولات ليعرض على الزبائن أطعمة مثل المحار، كما كان يتم أيضا تقديم التورتيلا، الأكلة الإسبانية المشهورة، التي تقدم ساخنة مع شرائح البطاطس.

وصعدت أنا وأورلي إلى سطح المطعم، مبصرين مشهد الجبال من ورائنا قبل أن نستقل الحافلة إلى سيس إليتيس، ذلك الشاطئ الذي كان قد أخبرني خوان بونيت بأن ميرو اعتاد السير عليه، لاستجماع أفكاره، في الوقت الذي يجمع فيه الخشب الطافي والأحجار والقواقع.

ولا يزال شاطئ سيس إليتيس ساحرا. فمياهه صافية كحبات الكريستال النقية، وهناك صخور يمكن تسلقها، وحاجز يمتد إلى مياه البحر. ولم يعد منعزلا على الإطلاق. هناك مطعمان على الشاطئ لهما واجهة زجاجية براقة وفندقان ومتجر لبيع أقمشة السارنغ.

ولكن بالنظر إلى البحر، بعيدا عن كل صور الحداثة، أبصرت التقاء بحر مايوركا الذي لا يبدو بلا نهاية بالبحر المتوسط، التقاء الأزرق بالأزرق. تأملت مليا في التعبير الذي استخدمه ميرو للإشارة إلى قوة ذلك المشهد، الذي ألهمه والذي لا يمكن العثور عليه إلا هنا في مايوركا، إذ أشار إليه بتعبير «الصمت البليغ».

* خدمة «نيويورك تايمز»