«الضيعة في تعنايل».. قرية فندقية سياحية لعشاق الأصالة اللبنانية

تنام على صوت السكون وتصحو على تغريد العصافير

الليوان.. المكان المفضل لتبادل الأحاديث بين النزلاء
TT

إذا كان الجسد غلاف الروح الأول، فالبيت غلافها الثاني، والمحيط البيئي والعمراني غلافها الثالث.

إلى زمن الأجداد تنقلك، وإلى أنماط حياتهم تعرفك، هي تحاكي مساكن الفلاحين، بأدق تفاصيلها الداخلية والخارجية. فعلى أنغام زقزقة العصافير تدخلها، بعد أن يفتح حارسها بابها الرئيسي (والوحيد) بالمفتاح الخشبي التراثي، لتدخل مجمع بيوت تعنايل التراثية (ecolodge.aec).

قبل ولوجك الغرف، تستوقفك الحديقة بأشجار الحور واللزاب التي غرست فيها، والتي كانت تصنع منها سقوف المنازل قديما فضلا عن الأشجار المثمرة والخضار. تكمل طريقك نحو الباحة الخارجية، لتشعر بالانتعاش المتأتي من الممر المائي، الذي ينساب بهدوء بين أحجار «الغشيم» المرصوفة في الساحة، وكأنك تمر بمحاذاة مكيف تبريد.

ومع وصولك إلى الليوان (الفسحة الداخلية التي تفصل بين غرفتين)، تشعر برغبة في الجلوس على أحد الكراسي المصنوعة من القش، لتناول فنجان من القهوة. «هذا المكان يجتمع فيه الزائرون، ويقضون الليالي فيه نظرا لهدوئه وتمتعه بالبرودة ليلا، سقفه مصنوع من التراب، ومن سقالة خشبية مغطاة بالقصب والطين المرصوص، الذي نقوم بحدله بانتظام في الشتاء»، يقول إيلي حنا مدير في القرية في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، لافتا إلى أن القمريات التي تعلو الجدران، تسمح بالتهوية ودخول النور إلى الغرف، وفوقها تم تثبيت صحن بورسلان في الحائط، للدلالة على أن صاحب المنزل ميسور اجتماعيا.

فسحة من الراحة تخولك رؤية التنور، مصدر الخبز المرقوق، كذلك أقفاص العصافير بمعدل قفص واحد لكل غرفة.

وانتقالا إلى الأدوات الزراعية، فهي موزعة على جدران الغرف بشكل هندسي، يساعد في التقاطها عند الحاجة إليها، مما يشكل دليلا ملموسا على أن القروي اللبناني لم يكن كسولا ولا اتكاليا، بل كان دؤوبا في عمله، ويدرك أن معجنه لن يمتلئ خبزا إلا بعرق الجبين، ترسيخا للقول المأثور «القناعة كنز لا يفنى»، الذي لا يزال دستور الحياة القروية إلى حد بعيد.

ومن هذه الأدوات: المحدلة، المخباط، جاروشة ومذراة القمح، المنجل، القاشوش، الشوكة، البلطة، الحاشوشة، الرفش، السكة، النير والسرج، وجازورة الحطب والزابورة. أدوات مصنوعة من الخشب والحديد، كان يستعملها المزارع في تحضير الأرض وزراعتها، ثم للحصاد وقطاف المحصول وتحضير المؤونة، وحفظها لمواسم الشتاء.

وحول مواصفات الغرف الكبيرة الحجم، والتي تتسع لما بين 5 إلى 7 أشخاص، يشرح فادي الفرزلي (مشرف على البناء) «جدران الغرف مطلية من الداخل بالكلس الأبيض، لمنع التشققات وإبعاد الحشرات، وهي تمتاز بمواصفات مناخية تشكل عازلا فريدا، من خلال توفيرها البرودة في الصيف والدفء في الشتاء، وبسماكة تتراوح بين 50 و70 سم».

«البيت الأخرس» لقب حملته هذه البيوت نظرا إلى جدرانها، التي تشكل عازلا صوتيا، مما يجعل النوم والسكون أفضل مما هو عليه في بيوت الإسمنت. وتتوسط الغرف عواميد خشبية عريضة، تسهم في صمودها، وفي «حمل» ثقل السقف، فيما تم «تلييس» الغرف من الداخل، بمادة سميكة من التراب الأحمر المختلط بتبن القمح، تجعلها قادرة على عزل الحرارة والصوت، تقابلها أرض الغرف المصنوعة من الباطون، مما يعني أنها بيوت صحية وتتنفس أيضا. ولكل سائح شرشف أو لحاف مغلف بالنايلون، حفاظا على صحته ونظافته، موضوع في اليوك الذي حفر في الحائط الوسطي لكل غرفة.

المربع، هو الاسم الذي تحمله كل غرفة، كونها مربعة الحجم، وفيها يعرض بحسب الفرزلي الأثاث الذي كان يستعمله الفلاح وعائلته، كالديوان والخرستانة، وصندوق العروس واليوك، والفرش وسرير الطفل، والوجاق وقناديل الكاز، وسراج الزيت والسجاد والحصر. كذلك خُصصت لبعض أدوات الطعام والاستعمال اليومي، كوة في الجدار كالصحن والفنجان.

ولا يكتمل المشهد من دون جولة داخل غرفة المؤونة (المطبخ حاليا)، والتي كانت تستعمل لحفظ الحبوب، وتعرض فيها المحاصيل الزراعية المجسدة لحياة القروي اليومية، إلى أوعية تخزينها، من فخاريات ونحاسيات وخشبيات، وجرار الماء، وقدرة العسل والمعجن والأمبريس، والغربال والمنخل وسطيلة اللبن، والدست واللكن والميزان، وجرن الكبة والفواكه المجففة، والموقدة ومحمصة البن.

وبالقرب من النملية التي كانت تلعب دور البراد حاليا، وهي مخصصة لحفظ الطعام من الحشرات، يجذبك باب صغير في أسفل أحد الجدران، لتدرك على لسان الفرزلي أنه مدخل لزاوية قن الدجاج، يخول الزائر الحصول ساعة يشاء على البيض الطازج، حيث يتم تزويد الدجاج من خلاله أيضا، ببقايا الطعام.

داخل غرفة المؤونة هناك الكوارة أيضا، وهي مخزن سري داخل أحد الجدران، مخصصة للمؤونة من قمح ومحاصيل زراعية، ولكل صنف قسم مستقل حيث يتم تخزينها لتقتات منها العائلة في فصل الشتاء.

وهكذا يتوزع نزلاء الضيعة على منازل قديمة، يتشاركون فيها مطبخا واحدا وحمامات مشتركة، يطبخون الطعام القروي، الذي يراعي الشروط البيئية، ويخوضون تجربة الحياة القروية، حيث يطحنون الحبوب بالرحايا، ويغسلون ثيابهم يدويا، ويكوونها بمكواة الفحم، وينامون في غرف بسيطة وبدائية على ضوء لمبة «جاز».

ولاستقبال النزلاء من داخل لبنان وخارجه، ثمة كافيتريا (تابعة للقرية) تقدم المرطبات، والساندويتشات، وخبز التنور، إضافة إلى الصحن اليومي، وهي تعرض في الوقت نفسه أقراصا مدمجة ومنشورات حول فن الهندسة التقليدية، وتقاليد المنطقة وصناعاتها الحرفية، ومنتوجاتها ونباتاتها.

يذكر أن بيوت تعنايل تمتلكها جمعية «arc en ciel» الخيرية، والتي تهدف من ورائها إلى إعادة الاعتبار لعادات قروية لبنانية تراثية طواها الزمن، وللوقوف بصلابة في وجه الزحف العمراني الحديث، في ظل ازدياد الحاجة إلى مثل هذه البيوت، في وقت تعاني فيه مجتمعاتنا من أزمات ارتفاع أسعار الطاقة والمشاكل البيئية.