صفاقس.. مدينة تونسية بين زرقة البحر وصفاء السماء

ثنائية العيش بين أحضان الطبيعة ومزايا العمران

صفاقس مدينة جميلة بمعمارها وطبيعتها
TT

في تونس كل الطرق تؤدي إلى صفاقس، فأين اتجهت وأنا في مدن الوسط إلا وواجهتني الكثير من اللوحات التي تشير كثير منها إلى هذه المدينة التي عرفت على مدى التاريخ باجتهاد أهلها وجدهم وحبهم للعمل المتقن، سواء على المستوى الزراعي، أو الصناعي الحرفي بالتحديد.

وتعد صفاقس اليوم قبلة للسياح وللمستثمرين في مختلف المجالات، ويعود الفضل في ذلك إلى أهلها، مضرب المثل في النجاح والتفوق، حتى إن مناطق فلاحية أخرى تنازل فيها أهلها عن أراضيهم لصالح الصفاقسية المهرة ليعمل فيها أصحابها كأجراء. كما يقصد التونسيون صفاقس لاقتناء ما يحتاجونه من أثاث يجمع بين الجودة والأسعار المنخفضة مقارنة بما هو حاصل في مدن أخرى.

وفي صفاقس الكثير من الفنادق التي يقبل عليها السياح، وتتراوح فنادق صفاقس بين فئة نجمة واحدة و5 نجوم، ومن ذلك برج الضيافة (5 نجوم)، وفندق سان غولي (4 نجوم)، وغولدن توليب صفاقس (4 نجوم)، وفندق دنيا (3 نجوم)، وهي فنادق بها منتجعات صحية. وفندق لي أوليفيرا (5 نجوم)، وفندق ميركور (4 نجوم)، وفندق نهر الفنون نجمتان، وغراند هوتا، نجمتان، وفندق ألكسندر نجمة واحدة. وتتراوح الأسعار بين نحو 100 يورو و10 يوروات في الليلة.

وبصفاقس الكثير مما يمكن للزائر مشاهدته، منها أسوار صفاقس التاريخية التي يبلغ طولها 2000 متر، وقد أنشئت لأغراض عسكرية دفاعية، وأمنية، حيث كانت أبواب هذه الأسوار تغلق في الليل، ولا تفتح إلا بعد معرفة هوية القادم، ومن أبواب هذه الأسوار باب البحر الذي يفتح على البحر، وباب الجبلي وباب الديوان، ويمثل كل باب سقيفة بسمك كبير قد يصل إلى 3 أمتار، وتمثل الأسوار حزاما حافظا لتراث المدينة العتيقة، وفي مقدمتها الجامع الكبير في وسط المدينة بصفته من أهم المعالم الحضارية، ويمنع التدليل على عظمة المسجد من خلال اتساعه وكبر صحنه الذي يدخل إليه من 10 أبواب، ويعد تحفة معمارية ومتحفا تاريخيا، وببنائه وإقامة السور، دخلت صفاقس التاريخ المكتوب (سنة 856) إضافة لمتحف الفنون والتقاليد الشعبية، وبناؤه من أجمل المباني الموجودة في عاصمة الجنوب التونسي، ويطلق عليه «جار الجلولي»، ومتحف الفن المعماري التقليدي الذي وصف بأنه قلعة بالمدينة وهو كذلك. وقد أنشئ المتحف الجهوي للفنون والتقاليد الشعبية «الجلولي»، وتمثل واجهة المتحف في حد ذاتها صورة لامعة عما كان يعيشه الأثرياء في القرن 18 من فخر وأبهة تحكيه مشاهد الفسيفساء التي تكسو جدرانه، وبصحن المنزل المترف، ومخزن المؤن، وأسرّة المنزل التي كانت في ذلك العصر تجسم قمة الرفاهية.

صفاقس ليست مدينة وكفى، بل تاريخ طويل ينبض بالكفاح والتغيير والتطوير، وهي قديمة قدم الإنسان في هذه الأرض.. الإنسان الرحالة الذي لم يكن يستقر في مكان، سواء بشكل فردي، أو في إطار هجرات جماعية، تحت ضغط الحاجة أو بسبب التغيرات المناخية والطبيعية، والطوفان الذي ضرب الكرة الأرضية كثير المرات في التاريخ، وقسمها إلى ما نراه من جزر قارية تحيط بها المياه من كل جانب. ولا نزال نشاهد نماذج صغيرة منه، وهو ما يعرف باسم، التسونامي.

كما ساهمت الحروب التي كانت طبيعة فترة طويلة من التاريخ، ولا نزال نشهد الكثير منها على مستويات مختلفة، في تغيير التركيبة السكانية والمعمارية للمدن، كالنزوح من الأرياف إلى المدن، أو العكس. أو حلول أقوام آخرين واختلاطهم بالسكان الذين سبقوهم في تلك الديار.

ومن تلك المدن صفاقس التي أطلق عليها، البربر، اسم سيفاكس، بينما سماها الرومان، تبارورا، واستقرت على اسمها الحالي منذ الفتح الإسلامي، في القرن السادس الميلادي. وفي كل هذه الحقب كانت صفاقس رائدة في مجالات الزراعة، ولا سيما الزيتون والتين والكروم (العنب) والصيد البحري والتجارة، حيث مثّل ميناء صفاقس على فترات طويلة من التاريخ همزة وصل بين المنطقة (ولا سيما الإسكندرية) وأوروبا (روما في معظم الأحيان) ثم الموانئ الأخرى الواقعة على البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر بعد الفتح الإسلامي، واليوم هو قاعدة ضخمة للتجارة بين مختلف القارات.

ورغم أن صفاقس كانت موجودة قبل الفتح الإسلامي، فإنه يمكن الجزم من خلال المسح الميداني بأن ما هو باق من صفاقس التاريخية، وبصفة عامة هو ما بني بعد الفتح ولا سيما في العهد الأغلبي، أي بداية النصف الثاني من القرن التاسع.

وهذا الأثر ممثلا في المدينة العتيقة الواقعة على مساحة 24 هكتارا، وهو المكان المفضل للسياح وللزائرين، حيث عبق التاريخ وبساطة الحياة وقلب التجارة الشعبية النابض.

والمدينة العتيقة بصفاقس تحتفظ برؤية المسلمين للحياة، حيث يمثل المسجد قلب المدينة، وتحيط به أسواق لمختلف الحرف والصناعات، بعضها مسقوف وبعضها في الهواء الطلق كبيع الخضر مثلا. ومن هذه الأسواق التخصصية إلى حد ما، سوق البلاغجية، والجلادين، الذين يغلفون الكتب، أو يعملون في صناعة الأحذية أو تصليحها، والحدادين، والصباغين، الذين يصبغون المنتوجات الصوفية والملابس وغيرها، والخياطين، بمختلف تخصصاتهم ولا سيما الجبة التونسية، وصناعة الغرابيل، ومحلات بيع الذهب والحلي، ومحلات بيع الصناعات التقليدية كالسجاد وغيره.

وغالبا ما يكون على القرب من المسجد مدارس دينية تم تحويلها للأسف في الحقب الماضية إلى مرافق عمومية كالإدارات وغيرها، وعلى مسافات غير بعيدة تقع منازل السكان. وهذه الخصائص لا تزال موجودة حتى اليوم في الكثير من المدن العتيقة بتونس، ومنها صفاقس.

ومما يثير الدهشة أن هندسة المدن العتيقة التي تمثل اليوم نواة المدن الكبرى في تونس، جعلت طرقها تفضي لجميع الاتجاهات، مما جعلها محورا للجولان (السير) داخل المدينة ككل.

وأهمية المباني المعمارية العتيقة داخل المدن هي أنها أصبحت مثار فضول السياح، أي معلما سياحيا إلى جانب كونها فضاء تجاريا مهما تزداد أهميته الشعبية مع الأيام. ولا تزال تجارة الأقمشة وأدوات الزراعية والتطريز والغزل والحياكة وبيع الملابس التقليدية حكرا على أسواق المدينة العتيقة، رغم مزاحمة محلات بيع الإلكترونيات والأدوات المنزلية الكهربائية لها، وهو ما حدا بعدد من البنوك لفتح مكاتب لها في هذه الأسواق.