24 ساعة في أحضان غوتنبرغ السويدية

مدينة مليئة بالتفاصيل التاريخية

TT

مدن الشمال الأوروبي ليست كغيرها من حيث إغراءات السياحة. يقف البرد الذي يقيم طوال العام في تلك المنطقة من العالم، حاجزا بينها وبين الكثير من السياح الذين تزداد أعدادهم يوما بعد يوم، لكنهم، والحال هذه، يفضلون سحر رمال الشواطئ على برد بلاد الصقيع. فلا تكفي نظافة تلك البلدان لكي تجذب السياح ولا تكفي الإمكانات الهائلة لذلك أيضا. لعل النرويج هي من بين دول الشمال القليلة في جذبها للسياح والسبب دوما الرحلات الخيالية في سفن كبيرة تبحر في ممرات مائية ضيقة في كثير من الأحيان وتحيط بها جبال خضراء عالية.

لكن، مع هذا ففي بلاد الشمال مدن جميلة وثقافات قد تكون أهم عوامل الجذب الحقيقية للسياح. فهذه البلاد، عاشت تاريخا صعبا، لقد كان سكانها فيما مضى (الفايكينغ) قطاع طرق ولصوصا وقتلة ولم يكن لديهم عادات اجتماعية أو قوانين وأطر تنظم الحياة المجتمعية بقدر ما كانت حياتهم أقرب إلى البرية منها إلى الحياة الإنسانية الطبيعية. لكن هذا تغير، ليس من وقت قريب، بل من أكثر من ثمانية قرون خلت. عرف سكان السويد والدول الإسكندنافية بشاعة تاريخهم، ولهذا دأبوا على صناعة حاضر أفضل، نقي، خال من الشوائب، وزادوا في حاستهم الإنسانية حتى باتت الأمثال تضرب بهم. الأهم في هذا أنهم بنوا مدنا جميلة وأغنوا تراثهم الاجتماعي والثقافي بثقافات مختلفة باتت جزءا من ثقافتهم هم، ثم اهتموا بها اهتماما يكاد يكون أقرب إلى المبالغة في كثير من الأحيان منه إلى الاهتمام الطبيعي العادي.

وفي زيارة سريعة إلى مدينة غوتنبرغ السويدية لم تتجاوز 24 ساعة، لا يسعف الوقت لرؤية كل شيء في هذه المدينة الغنية بكل شيء، سواء بالعادات الجميلة لسكان السويد أو رؤية كل ما في المدينة من أماكن تستحق الزيارة، مع ملاحظة الحياة التي تكاد تكون قليلة كما هي العادة في غالبية مدن الشمال ما عدا العواصم.

من غاثيا تاور التي تضم أكبر فنادق المدينة مع مجموعة كبيرة من المطاعم والمقاهي، تبدأ الزيارة للمدينة من أكبر مدينة للملاهي في شمال أوروبا. وشعارها أرنب أخضر، بشكل يكاد يتماشى مع ألوان القرميد الأخضر التي تكلل أعالي المباني الرئيسية في المدينة. المدينة التي تسمى حاليا، لندن الشمال، بسبب تميزها بنهر غوتا ألف، الذي يمر من وسطها باتجاه بحر الشمال، وتتفرع منه عدة قنوات مائية صغيرة وتزينه جسور كثيرة جميلة منها ما هو قديم ومنها ما هو حديث، ليست لندن حيث الخضار والأشجار تغطي مساحات واسعة، فحتى مدينة الملاهي التي بذل جهد كبير من أجل بنائها تقع في وسط المدينة بين غابة من الأشجار.

من الفندق عبر شارع سودرا فاغن الذي في وسطه يقع أهم متاحف المدينة، حيث إن العروض الفنية لا تتوقف، والمعارض تستمر على مدار السنة لأكثر من معرض في نفس الوقت. تكاد الساحة المقابلة له من أجمل الساحات في مدن الشمال ولياليها الحزينة على ما صدح صوت فيروز يوما في واحدة من أشهر أغانيها. الآتي إلى هنا، يتأكد فعلا من أن ليالي الشمال حزينة فعلا وقولا. فالحياة خارج ساعات النهار تكاد تختفي في بعض الأماكن الخاصة برواد الليل. سكان الشمال دقيقون جدا في حياتهم وعمليون جدا، حيث لا وقت للهو أو اللعب بالوقت، على عكس سكان الجنوب الأوروبي الموهوبين في إضاعة الوقت على الشواطئ وأماكن اللهو الأخرى.

في المتحف لا يمكن رؤية كل شيء، كما لا يمكن التعريج على كافة المعارض داخله بين معرض لأهم الفنانين الشماليين ومعرض لأندي وارهول، رائد البوب آرت الأميركي الشهير، تتسلل الحيرة إلى القلب والعقل معا، ووارهول لا يوجد في كل مكان، ربما نجد لوحات له في أماكن متفرقة، لكن من الصعب أن تجد مجموعة له في مكان واحد. فرصة نادرة مشاهدة هذا المعرض حتى لو كانت مشاهدة سريعة وخاطفة.

على الطريق نفسه الكثير من صالات العرض والغاليريات التي تعرض لفنانين من كافة أنحاء العالم. المدينة وإن كانت صغيرة (مقارنة بالمدن الأوروبية الأخرى) وهي ثاني أكبر مدن السويد. تمتلئ بالحياة الثقافية والفنية. وهذا بحد ذاته مؤشر على حالة الانتعاش الاقتصادي والسياحي الذي تعيشه مدينة في شمال أوروبا.

في الجولة الصباحية التي تخللها المتحف والوقوف على واجهات عدد لا بأس به من صالات العرض والجلوس في مقهى جميل في قلب الساحة التي تفصل المتحف عن غيره من الأبنية ويعبرها تروماي، ثم نصل إلى شارع فرعي، يقول الكتاب إن فيه أحد أهم مطاعم المدينة (باسمنت) الذي على زاوية مبنى يتقاطع شارع كريستن لاند غوتن وشارع شالميرغاتين، وهو يقدم أطباقا لا يمكن اعتبارها سويدية بقدر ما يمكن أن تسمى مطبخا عالميا معاصرا وحديثا. وكما في كل شيء حيث النظام يسيطر على الحياة منذ الصباح وحتى ساعة النوم، فإن خدمة هذا المطعم ممتازة رغم أن أسعاره متوسطة وتناسب كافة الأذواق. نسأل عن مطعم سويدي يقال لنا، إن المطاعم السويدية تقدم غالبيتها المأكولات البحرية في المدينة وهي تكثر أمام البحر في كافة الطرقات الفرعية وعلى الواجهة البحرية العتيقة التي أصبحت اليوم أهم الأماكن جذبا للسياح لرؤية السفن الشمالية القديمة التي ما زالت محافظة على شكلها، وصناعة السفن هي جانب مهم في الحفاظ على التراث والتاريخ.

الفترة التي تفصل النهار عن المساء، حيث ثمة حياة بسيطة وهادئة، هي فترة ميتة هنا، لا شيء في الطرقات، لكن حين تعرج على الحديقة الرئيسية في المدينة تشاهد كميات لا بأس بها من الناس الذين خرجوا من بيوتهم أو أشغالهم للاستمتاع بالطبيعة الخلابة الموجودة قربهم.

تنتهي الساعات الـ24 ولا تكفي للإحاطة بهذه المدينة الخلابة. ثمة جزر صغيرة قبالة غوتنبرغ التي تملأ بحر الشمال وتزيد شواطئه جمالا وجاذبية. تنتهي الساعات لكن الحياة في مدينة كهذه لا تنتهي بل تتواصل، حيث الحياة أيضا تتواصل ببطء في الليل، كما في بعض أجزاء النهار.